18 ديسمبر، 2024 11:53 م

العرّاف ولحظات من الهيام

العرّاف ولحظات من الهيام

(صفحات من رواية لا زالت رهن التدقيق والمراجعة).

صباح هذا اليوم ربما لم يكن كما الصباحات السابقات التي عادة ما تجده حيويا، نشطا ومنشرحا، لم لا والكثيرات منهن بإنتظار بركاته، فهو القادر حسب إعتقادهن على كشف المستور وما يخبأه لهن المستقبل، متوقفات بألم وحسرة عند حظهن العاثر وما إذا كان هناك من مخرج ينجّيهن مما يعانين منه، وأشدها وحشة هي الوحدة ولوعتها التي ليس في الأفق ما يشير الى نهايتها. وهو العارف كذلك بخفايا الأمور واسباب تعاستهن وما تضمره الأيام لهن من مفاجئات ربما تكون غير سارة وهذا أرجح الظن. والبعض منهن يشعرن ان اللحظة قد حانت ولا خيار أمامهن سوى التهيؤ والإستعداد بشوق ولهفة لمعرفة الفارس القادم بل والرضا به حتى لو جاء على ظهر فرس نصف أصيل ونصف هجين. وبعضهن الآخر بدأن يخشين من رحيل العمر بعد أن بدأت خطوط الشيب تنبت على الفودين وغرة الشعر، ولا يصيبهن من النصيب ما يخفق له القلب ويهوى، فلا القريب يحتكم لفكرة القريبات أولى بالمعروف، ولا الغريب يجيد لعبة المشاكسة والدنو منهن، ليُطفئ نار اللوعة والهيام.
غير أنَّ وهنه هذه المرة قد خانه فلم يقوَ على الحركة وبالشكل الذي إعتاد عليه، فالرجل الذي يتخذ من قراءة ما في الغيب مهنة له، لا زال متسطحاً على فراشه من أثر الخمر التي احتساها ليلة البارحة. أمّا عن ساعات العمل الأولى التي عادة ما يراهن عليها في استقبال المزيد من زبائنه وفي كسب أسباب رزقه، فها هي قد إنقضت، مما دفعه للتمادي أكثر بعد أن تأكَّدَ أن لا ضرورة للتعجّل، لا سيما وأنَّ النشوة لا زالت ضاربة في رأسه وبكل حنوها.
وما دام الحال كذلك فليبقى إذاً متمتعا ببقايا ليلة عاصفة حمراء قد لا تتكرر، كان للراح فيها القدح المعلى. لذا راح مطيلاً المقام وحيث هو، محلِّقاً عاليا وعلى بساط من الإسترخاء والتمادي. هذا وبإختصار ما كان عليه. أما عن أخته الوحيدة المطلقة وأبناءها الثلاثة حيث يشاركونه مسكنه، فقد خرجوا جميعاً، في رحلة بحثٍ عن رزقهم لمساعدتها، لذا فالدار باتت آمنة هادئة، وهذا من محاسن الصدف وندرتها.
ودونما رغبة منه ودون إرادة وإذ به قد غفى ثانية على الرغم من سطوع شمس منتصف شهر آب، والتي راحت تلامس بحرارتها ما بان من سريره الحديدي المثبت في إحدى الزوايا الملاصقة لسطح الجيران. بعد برهة من الوقت، أخذ بالتململ، محاولاً وضع حد لذلك الوهج الحارق الذي ما إنفك يلاحقه، في مسعى منه للتخفيف من وطأته. ولأنه لم يستطع ولحد الآن من معالجته أو الحد من تأثيره، فما كان أمامه من خيار سوى القيام بتغطية الجزء العلوي من جسده بما في ذلك رأسه كأحد الحلول الممكنة، لكنه ورغم ذلك فإنَّ ما قام به لم يكن كفيلا بعودته من جديد الى غفوته، خاصة وأنَّ درجات الحرارة آخذة بالتصاعد، دونما رحمة أو شفقة وكلما إقترب َ النهار من منتصفه. ترافق كل ذلك مع بدأ سَماعه لأصوات بدت بعيدة في بادئ الأمر، غير انها أخذت بالإقتراب منه شيئا فشيئا. لا مهرب له ولا خيار إذاً سوى النهوض، فحرارة الشمس وضوءها على ما يبدوان قد تظافرا ضد رغبته في مواصلة النوم.
(عليَّه .. يا عليَّه ) رنين هذا الصوت وصداه جاء متناغما مع الطريقة التي كثيرا ما كان يُفكّرُ بها لتكون اسلوبا مثاليا، ينبغي على ذوي العلاقة وممن يتمتع بخيال خصب إعتماده كأسلوب في كيفية إيقاظ كل من أخذه النوم عميقا وهو في مقدمتهم إن لم يكن أولهم، حيث جاء (الإيقاظ) مختلفا بل وعلى الضد من الطريقة التي إعتاد سماعها من أهل بيته، فكم من مرة أعلن عن إحتجاجه وإمتعاضه وبصوت مسموع من صراخ ما أسماه بضجيج أخته وأبناءها، والتي يعدَّها وحين يحلو التندر عليها وبلغة يتقاسمها الجد والمزاح، مستغلاً في ذات الوقت طيبة شقيقته، بأنها تُعَدٌ نموذحا مجربا وناجحا لكل مَنْ يرغب في تعكير صفو كل يوم جديد ومع بدأ ساعات الصباح الأولى.
بعد القليل من التركيز، ما كان على هذا الإسم ” عليَّه ” والذي كان يُنادى عليه من قبل أهل بيتها على أرجح الظن، الاّ أن يضع حدا نهائيا وفاصلا بين نومه ويقظته، لِمَ لا، فيا ليت كل الصباحات تبدأ بالتسبيح بإسمك يا “عليّه ” وليذهب كل العرافين والعرافات وقارئي الحظّ وضاربي الودع ومن لفَّ لفهم بمن فيهم أنا، وتنبؤاتهم المراوغة والكاذبة بل وحتى تلك التي أصابت وتوفقت في تقديراتها الى الجحيم، ما دمت قريبا منك، ولا يفصلني عنك سوى هذا الجدار الملفق والمبني بخليط من الهشاشة وتلك القيم التي فرضت شروطها رغما عنّا، لنتباعد عن بعضنا. قال ذلك في سرّه ومشاعر السعادة بادية عليه.
قرر أخيرا النهوض وبكامل طاقته ووعيه، معتبرا الفرصة التي إنتظرها طويلا قد حانت لحظتها ولابد من قطف ثمارها وشم عطرها. لذا لم يجد أمامه من خيار سوى إسترقاق السمع والبصر وبتمعن وتركيز عاليين وبحذر عالٍ كذلك، خشية تطفل أولاد الحرام وأولهم شقيقها الأكبر، الذي لم يكن له من همٍّ سوى رصد تحركاتنا، حتى من قبل أن يرفَّ قلبانا. فمنذ صيفين أو يزيد وأنا محروم من سماع صوتها ومن رؤيتها وحيدة.
وبعد تأكده من خلو المكان أو السطح بالأحرى، وإستثمارا للوقت راح مصدراً بعض الأصوات التي تُنذر وتوحي بوجوده، مركزا ومعيدا إحدى النغمات الخاصة، والتي لا يُستبعد أن تكون بمثابة رسالة مشفرة، كان قد جرى الإتفاق عليها في وقت سابق، والتي ينبغي على الطرف الآخر والمعنية هنا بكل تأكيد جارته ” عليّه ” إستقبالها والإستجابة لها وبما يشفي غليله ويحدٌ من لوعته.
ردة فعل جارته لم يستغرق طويلا، فبعد أن أدركت فحوى الرسالة التي كان مصدرها الطرف الآخر وليس من أحدٍ سواه، وتأكدت من وجوده خلف السياج الملاصق، فما كان على ” عليّه ” الاّ إلتقاطها والرد عليها بأحلى منها، مؤدية بصوتها العذب واحدة من أجمل أغاني العشق التي كانت شائعة آنذاك والمحببة اليه كذلك. لتتمادى وعلى أنغامها في رواحها ومجيئها، والتي ستأتي بمثابة رسالة إطمئنان تبعثها له وبشكل غير مباشر، لتقول من خلالها وبعد إجراءها لبعض التحويرات على كلمات الأغنية التي كانت ترددها: أنَّ الدار آمنة ومشجعة ولا بأس من التمادي أكثر. حركات وإشارات من هذا النوع، لم تكن بالأمر الجديد عليهما رغم ندرتها وصعوبة إيصالها، فهي كما اللعبة أو كما اللغز الذي إعتادا إتباعه، وأمر فكّ شفراته قد يستعصي على الغير لكنه لا يحتاج الى كثير عناء بالنسبة لهما.
من ثم ستشفع حركاتها تلك بقيامها ببعض الأعمال الروتينية التي إعتادت عليها صبيحة كل يوم وقبيل نزولها الى باحة الدار، ستعمد خلالها الى إطالة فترة بقاءها على السطح. فبحجة ترتيب فراش نومها، أخذت ترفع يديها عاليا وهزهما لمرات عديدة وهي حاملة غطاء نومها بلونه الوردي والذي لا يقل رقة ونعومة عنها، وبطريقة لا تخلو من مبالغة، هادفة على ما يبدو وإذا ما أسئنا الظن، إظهار حجم نهديها النابضين وإهتزازهما. وفي حركة أخرى فستتعمد الإنحناء بحجة إلتقاط بعض الأشياء من الأرض رغم خلو السطح منها، عارضة مؤخرتها بشكل إستفزازي وبإتجاه السياج الفاصل وحيث يقف الطرف الآخر. وفي آخر فعالياتها، ستقدم ولعلها للمرة الأولى التي تجرؤ فيها على القيام بهكذا حركة، على كشف ساقيها وتعريضهما لأشعة الشمس وعلى طريقة بعض الممثلات التي كنَّ يظهرن عليه في أفلام الحقبة الستينية، ويا لهما من ساقين.
من ثَمَّ وبعد كل ما قامت به من فعاليات، والتي كان الهدف منها واضحا وهو إستفزاز الطرف الآخر ومداعبته وتحريك مشاعره ولكن على طريقتها الخاصة، فها هي تتجه ثانية نحو فراشها على الرغم من ترتيبها له والإنتهاء منه قبل قليل. متظاهرة بِتَعبِها ولتضطجع ثانيةً وهي مغمضة العينين، ثانية ساقيها وبزاوية بانَ على اثرها ما بان، متعمدة وبما لا يدع مجالاً للشك إظهار مفاتنها لمن يقف خلف الجدار العازل، ففي ذلك وعلى ما يبدو ما سيمنحها إحساسا عاليا بالنشوة وبالثقة بالنفس أيضاً. وسيتأكد لها بأنها موضع رغبة وتمني من قبل الجنس الآخر.
خلاصة القول، فها هي تستعرض أنوثتها وبكل ما أوتيت من جرأة، ضاربة عرض الحائط كل تلك الإعتبارات والتعاليم والوصايا وما يتصل بها ومما قيل لها عن مخافة الله وغضبه، والتي ما إنفكت تَسمعها من هذا وذاك وأولهم والدتها، وبطريقة لم تكن قد عهدتها من قبل، خاصة مع إقترابها من سنٍ، يحسبه أولياء الأمر بأنه شديد الحساسية والخطورة، ولابد من الحذر والإنتباه لما يضمره المتربصون لها، وإذا ما وقع المحضور وحدث الطوفان، فلا من حلٍ ولا من أمل يرتجى.
كل ما فات ذكره في الفقرة الآنفة الأخيرة من إعتبارات ومخاوف لم تجد لها مكانا في وارد تفكيرها. فلأسباب عديدة، ستتحفز لديها الرغبة أكثر وتتشجع على مواصلة ما يمكن تسميته باللعبة والتي كما يبدو قد إستساغتها وراقت لها، غير عابئة لما يمكن تسميته بالعوائق والتقولات والتفسيرات المحتملة، بل راحت تزيد وتتفنن في حركاتها وفي تنويع نغمات صوتها، ليأتي كل ذلك بعدما تأكد لها بأنها لا زالت تحت المراقبة والمتابعة، مستغلة ما أملته عليه بعض القيم الإجتماعية من قيو أزاء الطرف الآخر، تُلزمه بوجوب مراعاة الجار وإحترام خصوصيته، فمن غير المسموح له على الإطلاق بالتمادي والإقدام على أي فعل أو حركة غير محسوبة، والتي قد تطيح به وتفقده ما تحقق له من رصيد أخلاقي، كان قد سعى من أجله لسنوات ليست بالقليلة.
ظل ساهماً لبعض الوقت، لا حول له ولا قوة، حيث بدا كما الذي فقد القدرة على الكلام، مستعيضا عن ذلك بمحاورة نفسه وبصمت موجع: لِمَ لمْ تظهري في حياتي يا “عليّه” قبل هذا الوقت وقبل أن أقدم على مهنتي هذه والتي أمْلَتْ عليَّ شروطا بالغة القسوة، حيث لا حيلة لي ولا خيار سوى أن أكون لطيفا، محافظا على سمعتي ووقورا. أتعرفين ماذا يعني أن يكون الإنسان وقورا، سأوضحه لك وبإختصار: يعني وفي إحدى تفسيراته أن يكون منغلقاً ومعقداً، محافظاً سمعته وعلى سمعتك من قبلها. لذا عليه أن ينأى ويحذر من أي زلل أو خلل، حتى لو كان غير مسؤول عنه أو جاء على حين غفلة ودون إرادة منه.
بعد سماعه ضرب أقدام على سُلَّم بيته، مترافقة مع دقات جرس أحد الأبواب الخارجية، لم يكن متأكداً من مصدره، لتجد صاحبنا وعلى أثرها مضطراً الى التوقف عن إسترساله في محاورة ذاته، ليشرع من بعدها بلملة نفسه، مستعيدا ما استطاع حالته التي كانت قد تبعثرت إثر حوار العشق الذي كان قد خاضه قبل قليل وعن بُعد مع معشوقته وما رافقه من أجواء، ربما تسببت في فقدانه لنصف صوابه. والأهم من ذلك كله خشيته من إفتضاح أمره، ومن إسدال الستار وبشكل نهائي على حُلُم لا زال طري العود، ما إنفكَ يُسامره ويعزف على أوتار قلبه وكلما حانت لحظات الوجد والهيام، والتي نادرا ما تتوقف.