للدين رجال يحرسونه … وللسياسة رجال يخوضون في مستنقعاتها … ولجسد المرأة رجل كالمِبرد .
غالباً ما تستخدم الذات الشاعرة الرمز في تجربتها الشعرية في محاولة منها لإيصال المعنى الذي تودّ إيصاله إلى المتلقي ,وذلك من خلال مفردة أو عبارة أو شخصية أو حتى مكان ما , فكل رمز له دلالاته التي من خلاله تجعل للنصّ الشعري مساحة واسعة من التأويل , وتعدد القراءات .
كل انسان لديه حاجات اساسية يحاول اشباعها بالطريقة التي تسبب له الاطمئنان ,والراحة النفسية, والاستقرار الفكري والنفسي , وتتدرج هذه الحاجات حسب / هرم ماسلو* / من الحاجات / الفسيولوجية / الاجتماعية / الحاجة للتقدير / والحاجة لتحقيق الذات , فأي تقصير بعدم اشباع هذه الحاجات سوف تظهر على سلوك الانسان . ويمكن التعبير عنها بطرق مختلفة كـ / الرسم / الموسيقى / الادب ,ومنه الشعر وغيرها . ان الانسان بحاجة الى اشباع حاجاته الاجتماعية / العلاقات العاطفية / العلاقات الاسرية / اكتساب الاصدقاء , وفي حالة عدم تحقيق واشباع هذه الحاجات يصبح عرضة للعزلة والاكتئاب والقلق , وهذه كلها منغصات تقلق الانسان ,فيقوم بعملية تنفيس لهذه الضغوط ,والازمات, بالطرق التي يراها مناسبة ومتوفرة , هذه الازمات والضغوطات النفسية تترافق مع حدوث ازمات تعمّ البلد كالحروب مثلا, هنا يحاول الاديب الذكي والمبدع ان يترجم لنا مشاعر الاخرين بأسلوبه الخاص, وبتجربته في مجال ممارساته الكتابية وثقافته ,فيبعث لنا رسالة تتجلّى فيها رساليته الانسانية والجمالية في كتاباته .وهذا ما بدا واضحاً في قصيدة الشاعرة: مريم مصطفى .
وعلى العموم , فأنّ القصائد التي تكتبها المرأة الشاعرة, تبقى معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , تبثّ فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , في محاولة منها كي تزيح عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , فهي تحاول أن تجسد في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , من أجل أن تمنح المتلقي دهشة عظيمة يروّي ذائقته, وتحرّك الاحساس لديه . وتظلّ زاخرة بالمشاعر ,والاحاسيس العذبة, ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية ,كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها ,فينعكس كلّ هذا على مفرداتها ,وعلى الجوّ العام لقصائدها , فتصبح المفردة تمتلك شخصية ,ورقّة ,وعذوبة, وممتلئة بالخيال ,وبجرسها الهامس, وتأثيرها في نفس المتلقي , فتمتاز بالصفاء والعمق ,والرمزية المحببة, والخيال الخصب, والمجازات ,ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , فهي عبارة عن تشظّي ,وتفجير ,واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا تستخدمه بطريقة تدعو للوقوف عندها ,والتأمل ,واعادة قراءتها لأكثر من مرّة ,لتعبّر عن واقعها المأزوم ,وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية, والتزاماتها الكثيرة.
استطاعت الشاعرة :مريم مصطفى في قصيدتها المعنونة: نداء هادئ .ان تخطّ لها طريقاً واضحاً, وتتحدّى كل الصعاب ,وترسم لها هويّة واضحة الملامح.
تبدأ القصيدة بهذا النداء الهادئ الذي يدلّ على الهدوء الذي يرقد تحته الاضطراب والهياج والثوران , وكأنّ الذات الشاعرة تكتم هديراً وجيشان في أعماقها, ولكن لماذا لماذا كلّ هذا الهياج ؟!
يمكننا أن نقسّم القصيدة الى ثلاثة مقاطع , أو ثلاثة ضمائر , الضمير الأولى / أنا / , حين تبدأ القصيدة بـ / البارحة /سرقتني الطرقُ البعيدة /سرتُ وراءَها أرقبُ تأوهات النهار /كان البريق مجدولاً بصرير جميل. هنا نجد الذات الشاعرة وهي تسترجع أحلامها التي سرقتها تلك الطريق البعيدة المؤدية الى خلاصها من تأوهات لازمت نهاراتها المتكررة, وهي ترنو الى ذلك البريق المجدول في الأفق .
ثم يتحول الضمير/ أنا / الى الضمير / هي / من خلالها استخدام الرمز وتحريك شخصية/ زليخة/ داخل النسيج الشعري , من خلاله منحه هذه الحركية الزمنية , واستحضارها على أرض الواقع , فها هي هي تقول / ها أنا أتبع نبضَ زليخة مرّةً أخرى /أعانق المسافات بوجعٍ يتيم /تكوينه… حمّى الفقد . هنا يتبارد الى أذهاننا قصة العشق والغرام عند زليخة, وحين تتبع الذات الشاعرة نبض قلب زليخة المفعم بكلّ هذا الزخم العنيف واللهفة والتولّه والهيام , ندرك حينها محنة الشاعرة وهي تحاول أن تكتم هذا العشق , والصراعات النفسية التي تستعر في أعماقها , وهنا يتواجد الضمير الثاني / هو / في نسيجها الشعري , فنجده متمثّلاً في / تمارس عينه سلطة حاكم /حاكم من زمن آخر / يلوّن أحلام الغيم / ربّما يمطر قرنفلاً / وربّما يمطر أنيناً / يخدّر الروح الشقية .
هنا يتجلّى لنا / الحاكم / صاحب السطوة والطغيان والتسلّط , وليّ الأمر, والذي لا يردّ له أمر , أنّه سلطان الهوى والعشق, والمعشوق الذي ملك قلب الشاعرة .
حين يدخل العشق في قلوب العشّاق , تنقاد اليه القلوب طائعة , وتزهر بالقرنفل , وينبعث منها عطر النرجس , وتشرق شمس الأمل فيها بعدما غابت طويلاً.
فالذات الشاعرة تريد أن تبوح بما في أعماق قلبها , وتكشف نوازع روحها , وتصرّح بحاجتها الفسيولوجية , وأن تعلن عن حريتها في الاختيار , ورسم الطريق الذي تريد , ولكن , خشية أن تُتهم وترجم , حاولت أن تتخفى وراء شخصية / زليخة/. لكن الذات الشاعرة تعيش حالة من القلق , والصمت الذي يبوح بالكثير من الكلام, والأمنيات الملوّنة , منتظرة من هذا / الحاكم- العاشق/ أن يبعث فيها الحياة مرة أخرى, ويلون الأحلام , ويمطر قرنفلاً , وقد يمطر أنيناً ! ليبعث في الروح المتعبة السكينة والطمأنينة, ليزهر قلبها , وتتفتح أزهار الفرح فيه, وتتدفق ينابيع العشق دون خوف .
ثم تعود الذات الشاعرة من خلال الضمير / أنا / قائلة / أعانق أنفاس الغابرين , أصلّي صلاة المكلومين . تعانق أنفاس الذين مضوا من قبل, أنفاس العشّاق الحقيقين , الذين بذلوا كلّ شيء من اجل المعشوق , وضحّوا بكل شيء من أجل العشق. أنّ وجع العشق وجع آخر يحزّ في قلب المعشوق, ويجعله ينزف بغزارة , كم هي هشّة روح العاشق من فرط اشتياقها إذا ما اصبحت رؤية المعشوق حلماً! لكن العاشق يبقى بذاك الاتصال الروح بينه وما بين المعشوق, صلاة لا تعرف الرياء , صلاة المكلومين لا يبالي بقسوة الوجع البريء!
ليس اعتباطاً ذكر بعض المفردات في نسيج الشاعر ما لم يرمز من ورائه الى دالة معينة , وعندما يعجز عن التصريح عن هذه الدالة , يلجأ الى استخدام الرمز , والتمويه . ربما كل هذا قاد الذات الشاعرة الى الاكثار من العبادة والخلوة مع النفس في محاولة تطهير النفس .
وبعد ذلك يتجلّى لنا الضمير / أنت / من خلال هذا النسيج الشعري التالي/ خذ بيدي أيّها المزروعُ رياحين في موائد ذاكرتي / أيّها الغافل عن نداءاتي تمهّلْ /خذني إليك: ربيعاً شائكاً… نرجسياً /خذني إليك تراتيل صبح مخملية /خذني إليك . حيث النداءات المتكررة / أيّها / خذني/ خذني/ خذني/ , الى الذات الاخرى الغافلة عن نداء الذات الشاعرة, المزروعة عميقاً في ذاكرتها, من خلال هذا المقطع نعود مرة أخرى الى / زليخة / المبتلية بالعشق , والهيام, والرغبة, وهذا الاصرار والإلحاح في طلب الاخذ على شكل / ربيعاً شائكاً/ أو / نرجساً / أو تراتيل صبح مخملية/ .
وتتختم الشاعرة : مريم مصطفى قصيدتها ونداءاتها بـ / أيّاك لم اعد تلك الشقيّة /روحي تهادن حبر محفظتي الأبيّة/ معلنة التوبة , والتطهر من دنس العشق , ها هي تعود خالصة مطهّرة لوجه الحبيب المنتظر, تكتم بين جنبات روحها قصة عشق طاهر , وقلب نقيّ زاخر بالمحبة والتقى والبراءة .
أننا أمام قصيدة صوفية طافحة بالعشق , واللوعة , والصمت , والانتظار, أنها قصة العاشق في زمن قلّ فيه العشّاق الأوفياء, وتحول كلّ شيء فيه إلى سلعة حتى العشق.
القصيدة:
نداء هادئ
البارحة
سرقتني الطرقُ البعيدة
سرتُ وراءَها أرقبُ تأوهات النهار
كان البريق مجدولاً بصرير جميل
ها أنا أتبع نبضَ زليخة مرّةً أخرى
أعانق المسافات بوجعٍ يتيم
تكوينه… حمّى الفقد
تمارس عينه سلطة حاكم
حاكم من زمن آخر
يلوّن أحلام الغيم
ربّما يمطر قرنفلا
وربّما يمطر أنيناً
يخدّر الروح الشقية
أعانق أنفاس الغابرين
أصلّي صلاة المكلومين
خذ بيدي أيّها المزروعُ رياحين في موائد ذاكرتي
أيّها الغافل عن نداءاتي تمهّلْ
خذني إليك:
ربيعاً شائكاً… نرجسياً
خذني إليك تراتيل صبح مخملية
خذني إليك
أيّاك لم اعد تلك الشقيّة
روحي تهادن حبر محفظتي الأبيّة
…
مريم مصطفى
* هرم ماسلو: هرم موسلو هو نظام هرمي يستخدم لتوضيح التسلسل الهرمي في الاحتياجات البشرية والتحفيز. يعرف أيضًا بـ “هرم الاحتياجات البشرية”، وهو مفهوم تم تطويره بواسطة عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو.