ربما لم تشهد الصحافة العراقية وحتى العربية عموما حالات موت سريري مثلما تشهده الآن بالرغم من أن العصر الذي نعيشه يطلق عليه بالعصر الديمقراطي.
وترى الأسرة الصحفية أنها تعيش اليوم حالات إنهيار في المنظومة الإعلامية والقيمية وإنهيار في الإرتقاء بفنون الصحافة وترد كبير في الأساليب والمضامين الصحفية وحتى الثقافية والأدبية عموما وتراجع دورها عراقيا وعربيا وحتى على مستوى دولي ربما وكأنها تعيش حالة سبات ورقود وهي تعاني سكرات الموت الأخيرة.
ولعدم وجود جهة قطاعية تدعم نهوض الصحافة وتقدمها أو تشد من عضد رجالاتها لكي يرتقوا بالكلمة الى مملكتها التي كانت تحظى بالإحترام والتقدير وإذا بها تشهد حالات إردتدادات إنحدارية لم يسبق لها مثيل وكأنما تشهد حالاتها المرضية من يودع جثمانها الى مثواها الأخير.
ثم جاء عصر الإنترنيت والمواقع الألكترونية وبدلا من أن يعلي من شأنها وإذا بها تهبط بأساليبها وفنونها ومضامينها الى منحدرات خطيرة لا علاقة لها بمضامين الصحافة والإعلام لا من قريب ولا من بعيد.
المشكلة أن العراق كان يعد رائد الصحافة العربية في السبعينات والثمانينات وربما الى عهد التسعينات وكانت هناك أعلام عراقية نابغة في الصحافة والأدب يشار لها بالبنان .
كانت الصحافة العراقية تضم بين جنباتها وبين صفحات تاريخها المجيد العشرات من الرواد والنجوم اللامعة الذين كانوا محل إهتمام القراء والمتابعين ليس على مستوى العراق فحسب بل على مستوى عربي وأقليمي .
كان هؤلاء الأعلام وجلهم من كتاب رفيعي المستوى وهم يرتقون بالذائقة العراقية لترتفع بمقاماتها الى حيث تعلو قيم الكلمة وترفرف أجنحتها لتحلق في الأعالي وهي تغمر قرائها ومتابعيها بطيب الأثر وبلاغة المعاني وصدق التعبير عن الأماني والتطلعات المشروعة .
كان ملايين العراقيين يجدون في مملكتها مبتغاهم في أنها ترفع من شأنهم وتعبر عن خلجاتهم وما يدور في ثنايا الصدور وهي تهتم بأحوالهم ، وكل مايجدونه فيها من وسائل الإرتقاء بالمجتمع والدولة والعلوم والفنون والحضارة والإبداع والرقي المجتمعي والمتعة الفنية التي إزدهرت فنونها وعلومها في السبعينات والثمانينات واذا بها تتراجع وتنتكس مكانتها عقدا بعد آخر حتى أن العهد الديمقراطي كما يبدو قد سلبها آخر أدوارها ومكانتها التاريخية وأحالها على التقاعد، ولم يبق هناك من أعلام يشار لهم بالبنان ربما إلا على عدد أصابع اليدين في أكثر تقدير.
ومثلما شهدت الصحافة العراقية هذا التراجع الرهيب والمرعب زحف هذا المد ليزحف بإتجاه الجهات الصحفية التي كانت ترعى مكانتهم وتضع لها إعتبارها، وإذا بنقابة الصحفيين العراقيين التي بقيت الوحيدة التي تتربع على عرش ما تبقى من رواد الصحافة وكتابها المبدعين وإذا بها الأخرى وتبدو قلاعها تتهاوى هي الأخرى وتعيش حالة عزلة وسبات وإنقطاع عن دورها ومكانتها.
بل لم يعد من الأسرة الصحفية وروادها من يهتم بنقابتهم أو يراجعونها سوى يوم واحد في أو لمرتين في العام الواحد في أعلى تقدير عندما يتم تجديد هويات أعضائها الذين إمتد عددهم من بضع مئآت الى ما يقرب من 26 الفا كما يقال في حين أن الرقم الحقيقي كما تؤكده مصادر صحفية ضليعة بمعرفة أحوال الصحافة لايزيد في كل الأحوال عن عشرة آلاف صحفي ، إن لم يكن هذا الرقم هو الآخر كبيرا ولايقترب من المصداقية في شيء.
ويبدو أن نقابة الصحفيين أرادت أن تضع حدا لهذا التضخم المهول الذي تشهده أعدادها بوضع إجراءات وتعليمات مشددة وإذا بها تستهدف روادها وأعلامها الكبار قبل أن تستهدف الطارئين عليها أو من إنضموا اليها في غفلة من الزمان وبطرق ما أنزل الله بها من سلطان.
ثم جاءت كليات الإعلام في العراق ومن خارجه لتخرج الى الشارع المئآت بل الآلاف كل عام من صحفيين كثير منهم أميون ليس بمقدور الكثيرين منهم كتابة عنوان لخبر أما كتابة خبر أو إلمام بأبسط الفنون الصحفية الأخرى فهذا شأن أكثر مرارة وأكثر إيلاما والأتعس من هذا أن بعضهم يحمل شهادات عليا في الإعلام وليس بمقدوره كتابة خبر صحفي.
حتى نقابة الصحفيين العراقيين أدركت أخيرا أن مكانتها هي الأخرى أصبحت أمام إمتحان خطير وبدأت تعاني من التشتت والضياع وفقدان الدور ، لأن السلطة نفسها لم تعد تمنحها هذا الإهتمام ربما أو لأن جمهرة الصحافة فقدوا تأثيرهم بسبب غزو وسائل الإتصال غير الإعلامية التي تعارفنا بها واذا بها تنزل الى مهاوي وسائل تواصل لاعلاقة لها بالصحافة من قريب أو بعيد.
أحوال الصحافة العراقية يبكي عليها الحجر قبل البشر وهي الآن في مرحلة عصيبة لايحسد عليها فبعد أن كان القائمون عليها من كبار قامات الأب والثقافة وهم من إرتقوا بالإعلام ودوره ومنحوه المنازل الرفيعة ، وإذا بهم انفسهم يبتعدون عن الإعلام ، بعد أن وجدوا أن هناك آلافا مؤلفة دخلت هذا الميدان وأصبح بمقدور كل من هب ودب أن يركب موجتها ويغرد على سربه كيفما يشاء وإذا بهياكل الصحافة وقد تحولت الى أشلاء مقطعة تشكو رمقها الاخير الذي تودع بها أقدارها الى غير رجعة.
ربما كان النظام السياسي المنفلت الأدوار ومن إنغمر في مهاوي الفساد والفوضى والصراعات بين قواهم السياسية وزعاماتهم قد وصل الى درجات مرعبة ، ولم يعد يهتم بالثقافة والمثقفين ولا بالمبدعين والأعلام الشامخة وراح يسلط عليهم الطارئين ومن تسللوا الى مواقع السلطة والقرار في غفلة من الزمان ليزيدوا من إنهيار مكانة الصحافة وإهمال دورها ربما لأنها أصبحت رقيبا خطيرا عليهم يكشف عورات نظامهم السياسي وعيوبه وإذا بهم يستهدفونها في الصميم ويحيلونها الى كهل لاحول له ولاقوة.
حتى الحرية الصحفية التي بشرنا بها النظام السياسي الديمقراطي وهي وإن منحتنا الحرية في التعبير فعلا لكنها من الجانب الآخر حولتنا الى قطاعات إجتماعية وسياسة متصارعة ليس بمقدور الصحافة وقف صراعاتها أو تداعيات إنهياراتها ، وتحولت الحرية الصحفية الى أن يتحدث الإنسان كيفما أراد دون وازع إنضباطي أو أن يدرك أن للكلمة قدسية أيضا ينبغي أن لاننزل بها في سوق النخاسة .
وما عسانا أن نقول عن حال الصحافة العراقية ومملكتها التي سقط عرشها في وحل التراجع المرعب والرهيب سوى أن نقول أنها راحت تلفظ أنفاسها الأخيرة في وداع أبدي ، لنقرأ على السلطة الرابعة السلام بعد أن تحولت الى سلطة عاشرة بل وربما في مراحلها العشرين ، وهي تندب حظها العاثر الذي أوصلها الى تلك المسالك الإنحدارية التي هوت بها الى قاع الإنهيارات المتسارعة التي يشهدها العراق على أكثر من صعيد.