الامكنة تفقد لوّنها ورائحتها ..تضيق مساحتها فتضيق معها نفوسنا .. تنحسر ملامح الامكنة , تأخذ شكلا غير أليف . فتنحسر معها ارواحنا ..وكلما تنحسر او تتخفى معالم وسمات الامكنة _ امكنة الطفولة _ تتسع مساحة الذكريات وتغدو اشد قدرة في التأثير او في تغذية قنوات الحنين بمزيدا من التوق والل…هفة لبيت الطفول الاوّل ..او الذكرى او المأوى او المكان .. المكان لا يتلاشى , بل يزداد حضورا , ويتجدّد بكر السنوات . لا يمحى , بل يؤثث باستمرار , تؤثثه صور تنتجها المخيّلة تسقطها على روح المكان .. صوّر مغلفة بعلب من الذكريات والحنين و نكهة من حرارة ورائحة الطفل الذي كناه ذات وقت ما , مَن منا اصابه او شابه التغيير او نال منه .. المكان ام نحن .. ؟ الامكنة كوجود موضوعي قائمة بذاتها ..مكتفية بوجودها تتبدل وفق قوانين الطبيعة شكليا ..وغالبا وفق حاجات وتطلبات الانسان ..ولكن للامكنة وجوها عدة ..لعل الوجه الاكثر اشراقا والذي نقصده ونعنيّه . هو ذلك الوجه الاليف .. الوجه الذي كوّن عبر وثبات الزمان المتلاحقة ذاكرة او مخزن لحفظ الذكريات , الذكريات نتاج الزمن في صلته الحميم بالمكان وانعكاس ذلك على الشعور الداخلي ..بعض الامكنة تبقى شاخصة في فضاء الوجود دون ان ينال من ملامحها التغيير ..رغم مرور السنوات ..بيد اننا نحس قد شابها شيء من التبدّل ..فتحسس رائحتها كما لو انها لا تعود للمكان .. كانها تضوع من زمن لا تصلنا به وشيجة … في حقيقة الامر , نحن من شابه التغيير ..فتغير مذاق وطعم الرائحة .. الرائحة لم تضوع من المكان الراسخ في خواصهِ .. بل تدفقت منا , من مشاعرنا التي حفر فيها الزمان ..فجعلنا نسقطها على المكان الراكز .. فالشجرة ذاتها والجدار ايضا ذاته لم يصبهما التغير سواء في الملامح او سواها ..نحن من يتغير في تلاحق مستمر وفقا لسرعة الزمان ..والامكنة راسخة في ثباتها .. نحن من تاخذ مشاعره الوان شتى طبقا للوقائع النفسية ..ولكن ماذا عن الامكنة التي اصاب ملامحها التغيير ..فتلك المقهى التي كان تسمى او يطلق عليها مقهى الميثاق ..قد غدت صورتها الاوّلى شيء من ذاكرة الماضي ..فقد تلاشت ملامحها الاليفة , انمحت تحت ثقل ورسوخ جدران عمارة او بيوتات بطوابق عديد وتلك المساحة الفسيحة التي كانت تشغلها تخوت المقهى اصبحت مرآب ..التغير الذي حدث للمقهى افقد الشارع العام احدى علاماته التي تشير اليه وتدلّل على وجوده .. باختفاء المقهى تحت شكل جديد للمكان ..تلاشت علامة الشارع . العلامة الفارقة التي كان يتميز او ينفرد بها الشارع ..باختفاء العلامة ..قد اجهز على روح المكان ..باختفاءها ايضا , اختفى شيء ما غامض من داخل الانسان ., التغير الذي طال المكان طال ايضا مشاعر ونفس الانسان __ الانسان الذي له وشيجة بالمكان او المقهى __ .. الامكنة علامات واخواص ودليل ومرشد التائهين .. فمن يقصد الشارع المعني كان دليلة او النقطة الدالة او العلامة ..المقهى علامة الشارع ورئته التي يتنفس عبرها التائهين و الرومانسين !!_ كم يحتاج المكان من سنوات . كي يرسخ شكله الجديد في الذاكرة .. كي يألفه جيل آخر .. يتآلف مع امكنته .._ الامكنة روح والفة ورائحة ..اختفاء علامة الشارع ..القت بظلالها على من له صلة من نوعا ما , بالشارع , وبالتالي انعكس ذلك التغير على نفسيته او داخله ..المقهى التي ارتدت شكلا اخرمغايرا تماما . ليست ذكريات واحداث مؤرشفة في الذاكرة عن المكان فحسب , انما هي تعني على نحو ما , الزمن في تمدّده طبقا لنمو الانسان في نظرته او رؤيته لزمن .. فاليوم في طفولتنا . كم يبدو طويلا بساعاته الماشية على مهل .. حتى اذا ما مرّ اسبوع على ذلك اليوم ..نتصور وكأن عاما كاملا مضى عليه , فالزمان نسبي في تلاحقه .. يتباين بالطول او المدة طبقا للمراحل العمرية , فامكنة الطفولة التي لم يترك الزمن تأثيره او فاعاليته عليها بعد ..تتبدى لدى الطفل كما لو ان ازمنة مهولة مرت عليها ..فيتضاعف شعوره باهمية والفة المكان المقصود.. وتحدث تغيرات سيكلوجية في بنيته الداخلية ويستغرق بسرد حكايات حلُمية الى لداته او اترابه ممن يماثلونه في السن والاحلام الرومانسية المبكّرة او التي لم تزل تتبرعم في النمو ..موضوعة الطفل والمكان او علاقته بالمكان . موضوعة تحتاج لمتخصصين لتغطيتها.