خاص: إعداد- سماح عادل
الكتابة تمنح للكاتب الخلود، فمن يكتب لايموت، يفرض وجوده وبقاءه علي من يعيشون بعده. وربما يظل حيا لسنوات طويلة، بحسب درجة تميز وعمق كتابته.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
كسب المعرفة..
يقول الكاتب التونسي “طارق العمراوي”: “منذ الطفولة كنا نطالع ونقرأ الكتب بتوجيهات المربين والأساتذة الكرام وبالحصص التي كان يؤثثها الكتاب والمثقفين بدار الشباب والدور الثقافة، لتتمكن منا الكتب وسحرها وتأخذنا إلى ساحاتها الخاصة والتي يجب أن نتصوف فيها، ونكون عالمنا الخاص الذي يتطلب السكينة والانزواء. مما أثار أسئلة لدى العائلة والأقارب ورفاق الفصول، وكنت سعيدا بهذا العالم الخاص الذي ساهم في تكوين شخصيتي وقلمي الخاص في عالم الأدب والآثار خاصة”.
ويضيف: “في عائلتي تربينا على عالم الكتب فوالدي له مجموعة هامة من الكتب البوليسية، ومن عالم الحروب والاستخبارات وباللغة الفرنسية مع جدتي الفرنسية، ثم كانت المرحلة الثانوية والجامعية التي تتطلب ثقافة واسعة لتستطيع النقاش داخل نوادي السينما أو في المهرجانات الخطابية والسياسية، هذا أقلق بعد ذلك عائلتي التي أرادتني أن أتحصل على شهائدي الجامعية قبل الانغماس في هذا العالم الخاص. وبدأ الخلاف بعد ذلك وغربتي كنت استحسنها لأنني أجد في الكتاب مهربي وشغفي، رغم قلق والدتي وإخوتي، وبدأت مرحلة انهزامهم أمام عشقي للقراطيس واستسلامهم للأمر”.
ويتابع: “طبعا زادت غربتي في فترة المراهقة إذ اعتبرتهم جهلة أمام تكاسلهم في كسب المعرفة، وأحكمت العيش مع كتبي وفضلت الانعزال لأنهم رفضوا تقليدي ودخول بوابة المعارف والعلوم والعيش في هذا العالم الجميل، مع كائنات أخرى وشخصيات أثرت في حياة البشر، وكنت أفضل قراءة من أحدثوا الفرق في الإنسانية كالرسول وكارل ماركس والفلاسفة وجنرالات الحرب”.
ويواصل: “طبعا أردت أن يقع استنساخ التجربة وأن نكون 4 او 5 كتاب لا أنا فقط، وان نناقش العديد من الإشكاليات الفلسفية والحضارية، وهكذا أجد فيهم الدفع المعنوي والمادي وفرصة لتبادل الأفكار ووجهات النظر، وهكذا نتقدم الكل وتعم الفائدة لكن لم يحصل هذا وربما لأنني لم أكن أملك من أدوات النقاش وقتها والإقناع”.
ويؤكد: “أنا جد سعيد ولم أكن أتخيل حياة أخرى بدون عوالم القراطيس والكتب والمخطوطات، وحلمي أراه يتحقق بل الواقع أكثر مما تمنيت، كنت قارئا أما أن أتحول إلى كاتب فهي مرحلة وفرصة لم أتخيلها في بداية انفتاحي على هذا العالم الجميل. كانت كل طموحاتي أن أقرأ أمهات الكتب وأهم المصادر في الفكر والأدب، وأن أكون محاورا جيدا، لكن الآن ب7 كتب منشورة ومئات المقالات والدراسات ومسيرة 35 سنة من الكتابة والتحبير، لن اكون إلا سعيدا بما نويت عيشه وما تحقق منه”.
الكتابة تحقق الخلود لصاحبها..
ويقول الكاتب المسرحي العراقي “فتاح خطاب”: “وقتَما تجاوزتُ السبع سنین وأنا غیر مسجَل في المدرسة كما بقية الأطفال في حارتنا، شعرت بدونية وغُبن شديدين. فأجبرتُ والدي على اصطحابي إلى المدرسة، مستنجداً بأحد الشيوعيين المعروفين في المنطقة (محسن النجار) الذي كان يتباهى كونه مثقفاً وموزع الجرائد الممنوعة على شباب الحارة دون خوف أو جزع، فأصبحت أتنقل بين عالمين، تلميذاً في المدرسة وصانعاً عند صالون حلاقة أخي الأكبر.
هناك رأيت اُناساً مختلفة من شعراء وفنانين وصحفيين، كان من ضمنهم الشاعر المتصعلك (برهان جاويد) السكير المتمرد الذي كان يكتب أشعاره على علب السجائر والشاعر (بيربال محمود) المحافظ الخجول الذي كان يمتهن كتابة العرائض والشكاوى مقابل مبالغ زهيدة. وكان يأتينا أحياناً الشيوعي المتطرف (شاكر النداف) ليلقي قصيدة (أين حقي ل: بحرالعلوم) مترجماً.
أول ردة فعل عنيف كانت بوجه رجل دين ظالم، حين رأيته وهو ينهال ضرباً بالركلات على الشاعر (برهان جاويد) الذي كان فاقداً للوعي لشدة السكر وممدداً تحت تمثال (حمامة السلام) قبالة صالون الحلاقة قائلاً له: ألا تخجل من نفسك يا عديم الضمير والوجدان؟.
وبعد تلك الحادثة المروعة بدأتُ أراقب رجل دين آخر عن كثب للانتقام من أمثال ذلك الظالم، كان (الملا بكر) يظهر فجأةً عند غياب (العم زينل) صاحب دكان البقالة، الذي كان مواظباً على إقامة الصلاة في الجامع المقابل. مكلفاً إياي بالجلوس مكانه، فرأيت الملا بكر يتعامل مع الزبائن ومن ثم يختفي قبل عودة العم زينل بدقائق معدودات. وكانت هذه الفعلة تحيرني.
وعند عودة العم زينل كان سألني عن مجيء أحد ما أثناء غيابه فأدليت بشهادتي في ما شاهدت من الملا بكر بالتفصيل الممل، وفي اليوم التالي كان المشهد تراجيكوميديا لا مثيل له.
أما الصديق (نورالدين مردان) الذي كان يكبرني بسنتين ويُظهر قدرته على الترجمة الفورية لحوارات كل ممثلي الأفلام الهندية الحزينة المبكية، مقابل قطع التذكرة له في كل أيام عطلة الثلاثاء، على حسابي الخاص كوني صانعاً عند أخي. وكلما ازدادت وتيرة بكائي وإدرار دموعي كان يزداد هو حماسة واندفاعا. وحين كبرت وتعلمت القراءة والكتابة، علمت بأن كل ما قيل عن فحوى الفيلم والحالات والحوارات لم يكن سوى كذبة بيضاء مُحكمة ومخادعة أدبية لذيذة، حد الفنطازيا الخيالية تفوق خيالات صناع أفلام بوليوود ذاتها”.
وعن معاملة الأهل داخل الأسرة كأنه غريب عنهم أو لا يشبههم، وكيف كان تقبلهم لميله إلى القراءة والكتابة يقول: “بما أنني نشأتُ وسط أُسرة فنية ومحبة للأدب والثقافة بشكل عام، والفنون جنون. حيث كان إخوتي الخطاطين الأوائل في المدينة رسامين ونحاتين فطريين. فكانت جدران بيتنا ملطخة بالألوان جراء كتابة اللافتات عليها تكراراً ومراراً منذ ما وعيت، وكانت خلفيات أبواب الغرف عبارة عن لوحات زيتية، تُجدد كل أيام السنة وكانت التماثيل الرأسية تُستخدم كمساند للأبواب.
أتذكر حالة فنية جد غريبة حدثت فور انبلاج الفجر، حيث رأيت أخي الذي كان يكبرني بسنتين في حالة هستريا غير مسبقة صارخاً مُكفراً: لوحتي. لوحتي. التي سهرتُ الليل من أجل استكمالها ضاعت مني وحين تساءل إخوتي عن السبب قال: قد بهتت ألوانها وليست كما كنت أراها على ضوء الفوانيس.
في الفترة ذاتها تركت ممارسة الرسم ظناً مني بعدم جدواها في مدينة تخوض الصراعات السياسية والفكرية والفلسفية، فالتجأت إلى صديق كانت له إلمامات أدبية رفيعة نسبة لنا نحن المبتدئين وحكمت نفسي بعدم التكلم أو إبداء الرأي في ما يخص الأدب أو الشعر.
وعكفت على القراءات المتنوعة حسب إرشادات ونصائح ذلك الصديق الذي ابتلى بي غصباً، مسجوناً في غرفتي ومزاولة لعبة الشطرنج أو لعبة النرد عصراً في كازينو (ليالي أربيل)، وجُل ما كان يضجرني حقاً هو دخول أُمي سراً ودون جلبة أو إنذار مسبق لتخطف من يدي أي كتاب غارق أنا فيه وهي تقول: عيونك يا ولد.. كفاك النظر في الكتب وإلا ستُعمى. ولأن أُمي بقيت معي في البيت بعد خروج أولادها الكبار كنتُ حريصاً على أن أُخبرها عن أي نشاط ثقافي يخصني أنا، لتشعر بأن ابنها لم يسهر الليالي جزافاً، وإنما له اسم وصورة في عالم الفن والأدب وتُجرى معه مقابلات صحفية. فحملتُ معي يوماً الجريدة التي نُشرت فيها صورتي، ناديتها متباهياً: يا أماه.. تعالي وأنظري.. أتعرفين هذا الكائن الجميل؟ نعم نعم.. هو أنتَ الخالق الناطق.
ولكن هل تدري عن السبب الحقيقي الكامن وراء نشر صورتك في هذه الجريدة الحمراء بالذات؟ لكي تشتريها بفلوسك وتوزعها على نطاق واسع يا مغفل. كانت أُمي من أذكى واحرص حارسة ومراقبة عند زيارة الرفاق والرفيقات لبيتنا. حدث وأن صحافياً معروفاً (أبو كامو) جاءني إلى البيت مستفسراً عن بدايات نشوء وتاريخ المسرح في مدينتنا وبعد ساعات عدة خرج الرفيق مودعاً. استلمتني أُمي متسائلةً عن سبب الزيارة المطولة تلك. وهل لي نصيب ما في ما لو نُشر المقال؟
فكان الجواب ب: لا. ولم يمر على تلك الزيارة إلا أيام معدودة فكان (أبو كامو) قد ضاع في غياهب السجون. فتحدثتُ لأُمي عما جرى له مؤسفاً, وإذا بأُمي تحمد الله على نعمة ربنا في أخذ الثأر منه. لأنه أكل حق ابنها ولم يعطه نصيبه من مكافأة الكتابة”.
وعن تفضيل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب له ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم يقول: “سؤال يُذكرني بحالة محمود ياسين في فيلم (العُش الهادئ) إذ أن الحالة ذاتها لازمتني منذ زمن بعيد، إبتداءً من مرحلة المتوسطة حيث كنت غالباً ما اتشاجر مع زوجات إخواني الذين كانوا يسكنون في الغرف المجاورة على مدى أجيال متتابعة واحداً تلو الآخر، بسبب بكاء أو عويل أطفالهم الصغار دون إرادة مني، مروراً بأيام البارتيزاني في الجبل، حيث كنت أفضل ترتيب قائمة الحراسة بعد الثانية ليلاً لأعود بعدها إلى طاولتي اليتيمة لاستئناف الكتابة أو الترجمة على ضوء الفانوس، بعيداً عن دوشة وضوضاء ومناكفة الرفاق الآخرين، متمتعاً بهدوء الليل وسكون الجو العام في فصيل الفنانين الهاربين من جحيم السلطة الغاشمة حتى مطلع الفجر.
وقد إعتاد الرفاق آنئذٍ، على صيحتي المدوية وأنا واقف على قمة جبل (لقد سبقتكِ أيتها الشمس يا إلهة النور والدفيء). وفي اليمن فضّلت المبيت في غرفة الإنارة المتواضعة على صالة الضيوف والاجتماعات المكيفة والفاخرة، لكي لا يزورنى أو يقطع سلسلة أفكاري ويكسر حاجز خلوتي أحد مَن كان. وقد مرت عليَ أربع سنين وأنا لم أشكو ولم أتذمر يوما، رغم إصرار بعض القائمين على الشؤون الإدارية والحزبية والثقافية في مدينة (أبين) لأكون أكثر راحة في الشقق المتاحة لنا نحن رفاق الدرب والأهداف المشتركة.
وفي السويد تركتُ شقتي ومدرسة اللغات دون رجعة، حين زارتني شلة من فنانين وأدباء الساكنين في (ستوكهولم) متحدثين عن إمكانية تشكيل فرقة مسرحية هناك. فأصبحتُ ضيفاً ثقيلاً على بعضهم ممن تورطوا معي في تلك المهمة الأصعب رغم أنني منذ البداية اخترتُ غرفة المطبخ للمنام والجلوس والكتابة أنىَّ حللت. وبقيت هموم الحيازة على شقة خاصة بي كوني هارباً من مدينة (فيكشو) من أكبر الطموحات غير المحققة.
وللتخلص مني كان الرفاق القدامى يبحثون دون كلل أو ملل عن بنت حلال سويدية لتقبل بي ك (سامبو= السكن المشترك وهذا ما حصل فعلاً أكثر من مرة، لكنني لم أخسر دقيقة واحدة من مشاغل الكتابة والبروفات والعروض المسرحية فكانت النتيجة هي تشكيل (فرقة الدراما المسرحية وعرض مسرحيتين (الأذناب والعنكبوت) من تأليفي وطبع ثمانية نصوص مسرحية، وبث برنامج أدبي في إذاعة 14 تموز في ستوكهولم الخاص بقراءة القصائد المترجمة للغة العربية باسم (من الشعر الكوردي المعاصر) بصوتي الجهور”.
وعن تمني أن يتعامل معه الأهل والمحيطون بشكل مختلف يقول: “(لیس كل ما یتمناه المرء يُدركه تجري الرياح بما لاتشتهي السَفن )، وإن كان الإنسان الطبيعي يطمح بأن يكون موضع التقدير والامتنان، في كل زمان ومكان ولكن بعد رحلة البحث والتقصي عن حالة البشر والتقلبات السياسية والمؤامرات الخارجية والداخلية والمعاناة اليومية للفئات المثقفة عموماً، وبخاصة النخبة الخيرة والمعطاءة في مجتمعات متخلفة سياسيا، اجتماعيا، تربويا وتعليمياً..
يبقى الهاجس متوتراً دون الطموح الإنساني وقد لا يتمنى غير الاستقرار والتوازن النفسي والسِلم الاجتماعي، والمُضي قدماً لتحقيق الذات ولو جزئياً في عالم تتلاطم فيه أمواج التغيير سلباً او إيجاباً. وذلك بتدخلات من قبل السلطة الحاكمة أو من قوى اجتماعية وعقائدية متجذرة، ذات اليد الطولى التي تُعد من المتنفذين الأساسيين لحكومة الظل في إدارة الدولة العميقة بحكم قدراتها الاجتماعية والعقلية والعقائدية.
والسؤال هنا: مَن الطرف الذي كان وراء تهجير مئات من المبدعين والمثقفين العراقيين، كرداً، عرباً وأقليات، إلى خارج الوطن، مشتتين ومغتربين. ومنهم مَن مات حسرةً أو إشتياقاً أو جوعاً وكمداً ولِمَ لم يُسنح لهم بالعودة، بعد الاستقرار النسبي؟ وكذا الحال تنطبق على المبدعين المصريين ومثقفيها وما أكثرهم. فمَن لا يتذكر صفوت اللاشريف وصلاح نصر وعبدالصبور شاهين وضحاياهم الكثر من الفنانات المبدعات والفنانين العظام والكتاب والمفكرين الفطاحل، لاتُعد ولا تُحصى.
وما العمل إذا كنا مازلنا نعيش في زمن (الكرنك) و(زائر الفجر) و(الأقدام العارية) محكومون بالتفاهات والسطحية والخرافات القاتلة؟ فإذا كان الحال هكذا فليس لي أن أنتظر سوى مجيء (جودو).
وعن الندم علي شغفه بالكتابة والقراءة وهل كان يتخيل حياته بدون الكتابة يقول: “كما يقول الشاعر (فاضل العزاوي) أكتبُ وكأنني أموت غداً. وما جعلني مواظباً على الكتابة هو قول البروفيسير (محسن محمد حسين) حين بادرته بسؤال عن السياق ذاته: لماذا تكتب؟
فأجابني شامتاً (لأنه من المحزن أن يموت الإنسان دون أن يترك وراءه أثراً ما. لأن الذي يكتب لا يموت. قال لي وأنا منشغل بالعمل في المسرح دون انقطاع ولم يخطر ببالي قط أن يكون لي كتاباً مطبوعاً، والفضل كل الفضل يرجع إلي سلطتي البعث والبارتي، بما أن في زمن الأول قد فُصلتُ ثلاث مرات وفي زمن البارتي حُرمت من راتبي لمدة تسع سنوات، ممنوعاً من الدخول لصالة المسرح أو النشر في الجرائد والمجلات التابعة للسلطة الحاكمة أو إجراء مقابلات سمعية أو مرئية في قنوات ممولة من قبل الحزب الأوحد. وما كان لي خيار آخر سوى الاعتكاف في البيت والكتابة الدائمة كوسيلة للتنفيس والتفريغ الوجداني والفكري. و… أنا غلبان..!”.