لم تمر كلمات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون ، خلال مؤتمر دولي لدعم أوكرانيا، عقد في باريس مؤخرا ، وقوله “إنه لا يستبعد إدخال قوات الناتو إلى أوكرانيا”، مرور الكرام ، فقد كان الرد الروسي سريعا ، وعلى لسان الرئيس فلاديمير بوتين ، خلال رسالته إلى الجمعية الفيدرالية يوم 29 فبراير/شباط الماضي ، و ذَكرَ فيها بوتين الغرب بخطوط بلاده الحمراء ، واكد إن نقل جنود الناتو إلى كييف ، يمكن أن يؤدي إلى حرب نووية وتدمير الحضارة، وحذر الغرب وعلى أي دولة تجرؤ على إرسال قوات إلى أوكرانيا من “عواقب وخيمة”.
وعلى مبدأ ” خير الكلام ما قل ودل ” ، لم يخصص الرئيس الروسي وقتا طويلا للحديث عن العملية العسكرية الخاصة ، رغم طول خطابه الذي عُد بأنه الأطول له منذ عام 2018 ، الا انه أثار اهتماما كبيرا لدى الغرب وجميع وسائل اعلامه الصديقة منها لروسيا والغير صديقة ، وقالت صحيفة التلغراف البريطانية ان هذا “تهديدًا نوويًا” هو ما سمع في كلمات بوتين حول عواقب النقل المحتمل لقوات الناتو إلى أوكرانيا.
وفي الوقت الذي يحذر فيه قادة حلف شمال الأطلسي، وخاصة على طول حدود الحلف الطويلة مع روسيا، وبشكل متزايد من أن الصراع المباشر مع موسكو يشكل خطرا حقيقيا، مما يشير إلى أن الغرب لديه ما بين ثلاث إلى عشر سنوات للاستعداد للحرب، أُعتُبِر ان رسالة الرئيس الروسي وتأكيده مرة أخرى إن القوات النووية الاستراتيجية الروسية في حالة استعداد تام ، هي بمثابة رسالة تحذيرية وتهديدية مهمة.
وتصريحات الرئيس الفرنسي والتي تراجع عنها بعد ذلك ، رغم انه اكد بان ما قاله هو كلام موزون ” وفكر فيه مليا ” ، عاد مرة ليقول ، ” بانه لا يوجد إجماع اليوم بشأن إرسال قوات على الأرض بطريقة رسمية ومضمونة ” ، وبالتالي ان المبادرة رفضت على الفور ، وابرزت ذلك الانقسام الكبير في صفوف الاتحاد الأوربي ، حتى صارت هذه التصريحات مصدر سخرية الجميع ، وقال مستشار البنتاغون السابق العقيد المتقاعد في الجيش الأمريكي دوغلاس ماكغريغور” إن غاية ما يستطيعه الجيش الفرنسي هو “رحلات السفاري في إفريقيا”، لا مواجهة القوات الروسية بأوكرانيا ، وفي تعليقه كتب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف، “إن البعض يعاني من سلس البول ” ، في حين ذكرت صحيفة “تاغس شبيغل” الألمانية أن تصريحات الرئيس الفرنسي ، أجبرت المستشار أولاف شولتس على وضع حد لكلامه، مذكرا بالاتفاقيات الأوروبية ، وانه “ما تم الاتفاق عليه منذ البداية ينطبق أيضا على المستقبل، وهو أنه لن تكون هناك قوات على الأراضي الأوكرانية مرسلة من الدول الأوروبية أو دول الناتو”.
ورغم أن معظم الخطاب الرئاسي كان مخصصاً للقضايا الداخلية الروسية، إلا أن الغرب يحاول أن يحلل باهتمام كبير إشارات السياسة الخارجية التي عبر عنها رئيس الدولة الروسية ، وتشير صحيفة نيويورك تايمز مثلا إلى أن “السيد بوتين يعلم أن معارضيه – بقيادة الرئيس بايدن – هم الأكثر خوفًا من تصعيد الصراع” ، وان بوتين لم يوضح فقط أنه يضاعف “عمليته العسكرية الخاصة” في أوكرانيا ، بل وأوضح أيضًا “أنه لا ينوي إعادة التفاوض بشأن آخر معاهدة رئيسية للحد من الأسلحة سارية مع الولايات المتحدة، والتي تنتهي صلاحيتها في أقل من عامين، ما لم يتم تحديد مسار جديد لمصير أوكرانيا، التي من المفترض أن أجزاء كبيرة منها تقع الآن تحت يد روسيا”.
الرئيس الروسي نبه الغرب بأن قواته المسلحة حصلت على خبرة هائلة نتيجة لتعاون جميع الأسلحة، ولديها طاقم كامل من القادة الذين يستخدمون الأسلحة والتكنولوجيات الحديثة ، بدءا من الفصائل ووصولا إلى أعلى القيادات يتفهمون المشكلات ويعالجونها ، وقد نمت قوتها القتالية عدة أضعاف ، والتشديد في الوقت نفسه على ان بلاده تَكُن من بدأ الحرب، وإنما قامت بها دفاعا عن سيادتها وعن أمن مواطنيها، ولديها استعداد قتالي كبير للقوات النووية الروسية ، والتي استقبلت الأسلحة الحديثة وهو ما تحدثت عنه في 2018.
لقد اختار الرئيس بوتين هذا الوقت بالذات بشكل خاص ، واختبر من خلال خطابه مقدار مخاوف الغرب ، ورد أيضاً على تكهنات مفادها أن الولايات المتحدة، التي تشعر بالقلق إزاء تعرض أوكرانيا لسلسلة من الخسائر، قد تزود كييف بصواريخ أطول مدى أو تصادر 300 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة منذ فترة طويلة ، والمحتفظ بها الآن في البنوك الغربية ، ونقلها إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لشراء المزيد من الأسلحة ، واستشهد بوتين بما تحققه الأسلحة الروسية كصواريخ الفرط الصوتية ” كنجال ” ، وصواريخ ” تسيركون ” ، والتي باتت تستخدم بفاعلية لضرب الأهداف الأوكرانية ، والاشارة الى انه يجري الان اختبار صواريخ “بوريفيسنيك”، والغواصات المسيرة “بوسيدون” وهي تحمل ميزات فريدة من نوعها ، وان روسيا مستمرة في عملها على سلسلة من الأسلحة المتطورة ، وسوف يكشف المستقبل عنها ، والاشارة الى انه تم تسليم مجمع “سارمات” للقوات المسلحة، وستستعرضه روسيا قريبا.
لغة القوة كانت عنوان الخطاب للرئيس الروسي ، فقد وصف ما يقوم به الغرب هو “نفاق شديد ” ، والذي يرمي بالاتهامات الباطلة بسعي روسيا لنشر أسلحة في الفضاء الكوني، وتلك هي ليست إلا محاولة لجر روسيا إلى مواجهة مع الولايات المتحدة ، التي تعرقل المقترحات الخاصة بنشر الأسلحة النووية في الفضاء، والتي وضعت في 2008، ولم تتلق روسيا أي رد ، وان تصريحات الإدارة الأمريكية الحالية بالسعي إلى النقاش بشأن الاستقرار الاستراتيجي ليست سوى كلمات وكما عبر عنها بوتين “خاوية من المضمون” ، ولا يمكن مناقشة ذلك إلا بمجموعة متكاملة من القضايا مرتبطة بالأمن القومي الروسي.
روسيا تمتلك الآن نوع من الميزة في تطوير وإنشاء أسلحة مضادة للأقمار الصناعية ، وهو ما تتخلف عنه الولايات المتحدة في الوقت الراهن ، ومن الواضح وفقا لفلاديمير فاسيلييف، كبير الباحثين في معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ، أن محاولتهم الدخول في مفاوضات حول هذه القضية، وإبرام نوع من الاتفاق، تهدف إلى الحد من قدرة روسيا على تحسين أنظمة الأسلحة هذه وحرمان روسيا من المزايا التكنولوجية ، ويظهر التحقيق الذي أجراه الأمريكيون أنهم يحاولون إقناع روسيا بوقف تطورها ، وإذا لم تكن هناك تطورات، فلن تكون تلك المزايا نفسها موجودة ، ولهذا السبب تم رفض المبادرة الأمريكية ، حيث تصر روسيا بالعودة إلى صيغتها لعام 2008 بشأن مسألة إطلاق جميع أنظمة الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة النووية، إلى الفضاء.
كما ان الغرب يسعى لجر موسكو إلى سباق التسلح، وتكرار المخطط الذي حققوه في ثمانينيات القرن الماضي، حينما كانت تبلغ نسبة تمويل المجمع الصناعي الدفاعي 13% ، الا ان روسيا وكما اكدت عدة مرات انها لن تنجر الى ذلك السباق ، وانها تعمل اليوم على بناء منظومة فعالة لقواتها المسلحة، واستخدام كل روبل لمخصصاتها العسكرية لتعزيز دفاعها والوصول إلى مستوى جديدة للأسطول والجيش ، وشدد بوتين ، على انه لا بد أن يفهم الغرب أن بلاده تمتلك أسلحة قادرة على إصابة الأهداف في أراضيهم ، وانهم( الجيش الروسي ) وعلى عكس الغرب ، مروا باختبارات صعبة، و يعرفون ما تعنيه الحرب ، وتجاوزوا هذه الاختبارات في القوقاز، ويتكرر الوضع في أوكرانيا الآن ، وإن ما يقوم به الغرب يهدد الأمن الأوروبي، ويجب أن يكون هناك هيكل جديد للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة، واعرب الرئيس الروسي عن استعداد بلاده للحوار مع جميع الأطراف.
وروسيا اليوم ترى آفاقا واعدة في شراكة أوراسيا عظيمة في إطار انسجام المشاريع الاتحاد الأوراسي والمبادرة الصينية “طريق واحد-حزام واحد” كما يتم تطوير المشاريع في منطقة “آسيان” ، و لديها شراكات مع الدول العربية لتعزيز العلاقات، وكذلك الحال مع دول أمريكا اللاتينية، وهناك عدد من البرامج لنشر اللغة الروسية حول العالم.
رسالة بوتين كانت واضحة، فهو يرى النصر في أوكرانيا باعتباره صراعا وجوديا محوريا وأن الرئيس الروسي ، وكما قالت صحيفة نيويورك تايمز ، “يراهن على أن الولايات المتحدة تتحرك في اتجاه مختلف ، وتصبح انعزالية بشكل متزايد، وغير راغبة بشكل متزايد في مواجهة التهديدات الروسية، وبالتأكيد غير مهتمة بدرء التهديدات النووية الروسية بنفس القدر” ، ولفتت قناة CNBS التلفزيونية الانتباه إلى حقيقة أن فلاديمير بوتين أشار إلى وحدة الشعب والجيش الروسي في الدفاع عن الوطن الأم ، وأشاد بالمواطنين الروس والصناعة وقطاع الأعمال، وكذلك القوات الروسية في أوكرانيا لجهودهم، ووقف دقيقة صمت حدادًا على القوات المسلحة الروسية، قبل أن يمتدح الخبرة القتالية “الهائلة” التي اكتسبتها خلال عامين من القتال في أوكرانيا، في حين وصفت صحيفة جلوبال تايمز الصينية خطاب بوتين بأنه رسالة ثقة ، و”أظهر التحدي الذي تشكله روسيا للنظام الأحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة”.