19 نوفمبر، 2024 8:32 ص
Search
Close this search box.

“عائلة حفيظة”.. قصة قصيرة

“عائلة حفيظة”.. قصة قصيرة

يكتبها : محمد فيض خالد

تستقر جلستها أغلب الوقت فوق الدكة القديمة إلى يمين الباب الرئيس، وبيدها فرع صفصاف رخو، تهش به كلاب الشارع ودواجن الجيران، يتحاشاها الصغير ويرهبها الكبير، كلمتها كالسيف لاترد مسلطة  فوق الرقاب ، ومشورتها واجبة النفاذ في أمور البيت والغيط “حفيظة” امرأة قاسية ركبت في شخصها شخوصا عديدة، أغلقت عليها قلبها، وخنقت أنوثتها، فلم يتبقى منها غير اسمها، وشعرها الأحمر المكلل بالشيب، تظهر جمته من تحت حرامها القطني الأسود.

 صغيرة مات عنها زوجها، وترك لها ستة من الذكور وفدان من الأرض، وأمل عريض في قلبها المتهيء للحياة، لكنها لم تهنأ كالنساء، سلبتها الدنيا مذاق الراحة، وصفعت وجهها بقسوتها وشغبها غير المنتهي.

لم تنشغل يوما بنفسها ،فحلمها أن يصبح لها عزوة تجد فيها السلوى مبلغ أمانيها، تنتظر ذاك اليوم الذي تجد رجالها الستة، وحصادهم من الذراري وقد ملأوا الدار ، ربطت المرأة بينهم برباط الحب والألفة، لا يجحد الأخ أخاه، بل يفتديه بنفسه وبنيه، نجحت “حفيظة” في احتضان أسرتها، والسير بها وسط الناس، وهي في سبيل ذلك لا تقلع عن إسداء النصائح، وفرض هيبتها، اختارت لأبنائها نسائهم، انتقتهم من بنات العائلات الكبرى أصحاب الجاه، علها تشد بهم عضدها، وتراهم ركيزتها وقت استدعت الحاجة، ترى في كل واحد منهم جبلا شامخا، وهمة لا تفتر، تقول في ارتياح وقد تكسر بصرها في حجرها: “الرجالة متتكرهش”، في جبروت تميل على مشاكل البيت فتخنقها بلا هوادة، في فورة وغليان تقول: “عليا الطلاق”، عبثا لا تطلقها، بل للضرورة عندما يشتد الوطيس.

ههنا تشهر سلاحها في وجه من تسو له نفسه العبث، تكون كلمتها رادعة بما يكفي لإطفاء تمرد المشاغبين، يعود المقود ثانية ليدها، يظن حريم الدار أنها ضليعة في أعمال السحر وتصريف الكهان، وإلا فأنى لها وكل هذه المقدرة، يتعجب الناس لقبضتها المستميتة التي لا تفرق بين رجل وامرأة، لكنها حتى وإن بدت صارمة الملامح عبوسة الوجه قاسية الكبد قليلة الكلام.

تخفي في قلبها حنان الأمومة وشفقة الأبوة، التي تهبها عطفا، وتترجمها قبلات حارة فوق الوجنات، ونفحات لا تنقطع لقطع النقد، وتأثرها حال ألمت بمن في الدار ملمة من مرض وخلافه.
لكن الدنيا بخيلة، لا تعطي المرء كل شيء بل تراوغ وتلاوع، اعتقدت أن قبضتها محكمة، وصرامتها كافية لتسير الأمور وفق هواها، تسلل السوس على حين غفلة ليرعى في الجسد وينخر فيه.

مرت الأيام والدار كما هي، حتى ضاقت عليهم بما رحبت، وفشت في النساء أماني أن يصبح لكل واحدة دارها المستقلة، أن تحيا في مملكتها الخاصة تأمر وتنهى، أن تنفك من قبضة العجوز التي لا تضعف، وتسلطها الذي لا يشيخ، كانت على دراية بكل شيء، تراقب يوما بعد يوم تململ النساء وعصبية الأزواج حتى وإن أظهروا الطاعة، مؤخرا تنازعنها كوابيس مخيفة، أصوات شجار مختلطة بنشيج وبكاء، صغار يرتجفون في زعر، نساء بشعور متناثرة يلطمن الخدود، ودماء مسكوبة ودجاجة في حجم الجمل تطاردها في توحش، تهب مذعورة تلتقط مسبحتها، تشرع في استغفار طويل، تقوم لتدلف إلى صالة الدار تتلمس الحيطان في وجيب، تعتلي الدكة يلفها صمت حارق، تجمع ملابسها منكمشة على نفسها ، تظل على حالها حتى تشق الشمس صفحة الفضاء الأزرق ، وتدب الحياة في الشارع ، وتنفح داخل غرف البيت، يتعالى نهيق الحمار وبكاء الصغار، وعراك الأمهات..
تحرص على أن يستقبل الدار ضيوفه كما اعتاد، حتى وإن استدانت، وإن بيع القمح في سنبله، تقول في استعلاء : “الأرض أمرها بسيط، والمحصول سهل، لكن أن تصبح وسط الكبار فهذا أمر مجهد”، لم ينتظر الدائنون طويلا، انفجر البيت بمن فيه، حل النزاع وعلت الأصوات في جرأة.

وقاطع الأخ أخاه، أغلقت “حفيظة ” فمها في تقطيبة  مخيفة، تبدي جمجمتها أحيانا على استحياء، وأحيان ترقد يقظة تفكر في قلق، تنظر لمن حولها كقديسة من زمن بعيد كشفت عنها الأيام، توضع صينية الأكل النحاسية وعليها أطباق الجبن والعسل، تلوك لقيمات في تكاسل، ثم ترفع يدها في زهد، قائلة:”الحمد لله”، لايجرؤ أحد على سؤالها، قضت أياما قلائل داخل حجرتها لم تغادرها، اضمحل نفوذها، انفكت قبضتها، أخذ الصغار يمرحون بلا تحفظ، يتقافزون فوق الدكة، حتى انفكت أخشابها وركنوها إلى جوار الحائط بلا اكتراث، استندت إلى الجدار تطالع من جانب الباب مآل الدكة، هزت رأسها في استعبار، عادت لفراشها متداعية، اكتفت بنظرات غائمة، تمرر كفها فوق الوجوه والرؤوس في عطف زائد، وعند الضحى دخلوا لجدوها منكفئة في جلال الموت، ممسكة بصورة زوجها الراحل.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة