22 نوفمبر، 2024 7:07 م
Search
Close this search box.

فشل الإسلاميين الذريع في اختراق العملية الثقافية في العراق

فشل الإسلاميين الذريع في اختراق العملية الثقافية في العراق

على الرغم من أن الجماعات الإسلامية الشيعية هي جماعات عقدية ثقافية بالأساس، في تكوينها وأهدافها ووسائلها، وهكذا بالنسبة لعموم المثقفين المتدينين الشيعة، وأن العملية الثقافية هي محور حركتهم وأهم أدواتهم، إلّا أن ما حدث بعد العام ٢٠٠٣ في العراق، كشف عن فشل ذريع للإسلاميين الشيعة في الإمساك بالعملية الثقافية ووعي أهميتها، برغم إمساكهم التدريجي بالعملية السياسية وبأغلب مفاصل الدولة، من خلال إرادة عالية على التنافس والتدافع وكسب أصوات الشعب واكتساح الانتخابات، ووعي موضوعي بأهمية الإمساك بالعملية السياسية والأمنية. وليت اهتمامهم بثقافة الدولة وإعلامها وفنونها ومؤسساتها ونقاباتها، يصل الى واحد بالمائة من اهتمامهم بالعملية السياسية والمالية والأمنية.
ولا أنفي وجود وعي نظري نسبي بأهمية العملية الثقافية والإعلامية والفنية لدى كثير من الإسلاميين، وخاصة لدى مثقفيهم، ولكن على المستوى الواقعي والعملي يختفي هذا الوعي عند الجميع، حتى نجد أنهم لا يعون خطورة إدارة ظهورهم للعملية الثقافية والإعلامية الرسمية وشبه الرسمية، ومؤسساتها ونقاباتها، والتي لا تقل عن خطورة التفريط بالعملية السياسية والأمنية، ولا يعون خطورة فشلهم الذريع في الإمساك بالعملية الثقافية والإعلامية، وتسليمها على طبق من ذهب للبعثيين والشيوعيين والعلمانيين، الذين باتوا يوجِّهونها وفق أجنداتهم وأهدافهم وأفكارهم وخلفياتهم السياسية والايديولوجية، حتى بات الإسلاميون غرباء عنها بالكامل.
ومن خلال التأمل في واقع المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية والمدنية التي تصنع ثقافة العراق وإعلامه وفنونه وآدابه، وتوجهها، ومن يمسك بها وبتفاصيلها وجسدها؛ سنقف على هذه الحقيقة بوضوح:
وزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية والفنية والإنتاجية التابعة لها
شبكة الإعلام العراقي والقنوات والإذاعات والمؤسسات الإنتاجية التابعة لها
بيت الحكمة وأقسامه
نقابة الصحفيين، في المركز والمحافظات
نقابة الفنانين، في المركز والمحافظات
مؤسسات الإنتاج الدرامي والفني
شارع المتنبي ومؤسساته الثقافية
اتحاد الأدباء والكتاب.
ولا يتصور أحد أن البعثيين والشيوعيين والعلمانيين مهيمنون بالقوة على هذه المؤسسات، بل أنهم جاءوا من خلال مهنيّتهم ونشاطاتهم واندكاكهم بها من جهة، وعبر الانتخابات الحرة من جهة أخرى، ولأنهم وجدوا أنفسهم متفردين بهذه المؤسسات من جهة ثالثة، بعد أن ظل الإسلاميون، مصرين على إهمالها، وعلى إثبات وعيهم الفاشل بها وبأهميتها وخطورتها.
ولعل هناك من يتذرع بأن المتدينين عموماً والإسلاميين خصوصاً، محارَبون في هذه المؤسسات ولا يُسمح لهم بأن ينشطوا فيها، بسبب هيمنة البعثيين والشيوعيين والعلمانيين عليها. نعم؛ ربما يكون جزءاً من هذه الذريعة صحيحاً، لكن الأصح هو أن الحرب والإقصاء والتمييز أمر طبيعي في هذه الحالات، ولا يتحمل البعثيون والشيوعيون والعلمانيون مسؤوليته، لأنهم الأكثرية العددية والنوعية في هذه المؤسسات، وأن المتدينين والإسلاميين غرباء فيها، وبالتالي؛ من حق الأكثرية المهيمنة التمسك بامتيازاتها ووجودها، وفرض عناصرها البشرية وتوجهاتها وأهدافها الخاصة على هذه المؤسسات، وخاصة أنه يتم تحت سقف القانون غالباً.
وقد يتصور بعضهم أن استبدال المسؤول العلماني، سواء تمثل بالوزير أو وكيل الوزير أو المدير العام أو رأس المؤسسة والنقابة، بمسؤول إسلامي؛ سيحل المشكلة، والحال؛ إن هذا التصور غير صحيح وغير عملي، لأن المشكلة هي في مفاصل هذه المؤسسات وتفاصيلها وجسدها؛ فالإسلاميون الشيعة تسلموا في فترات سابقة المناصب الرأسية لبعض هذه المؤسسات، لكن المفاصل والأهداف والتوجهات والنتاجات العلمانية لهذه المؤسسات بقيت كما هي، وكانت مهمة الإسلامي الذي يقف على رأس المؤسسة؛ التعامل مع الواقع كما هو، وتصريف الأعمال كمدير محايد تجاه انتمائه العقدي، وليس بوصفه إسلامياً يحمل هموم أهداف انتمائه الديني والسياسي، في حين أن المسؤول البعثي والشيوعي والعلماني، يفكر بوقعنة انتمائه وهويته الايديولوجية على عناصر المؤسسة ومشاريعها.
فمثلاً؛ أبدى أحد المثقفين والمفكرين الإسلاميين؛ استغرابه من عدم استضافته في برنامج حواري على قناة العراقية يتحدث فيه الضيف عن سيرته الثقافية والفكرية، ومن أن البرنامج يستضيف العلمانيين فقط أو بعض المثقفين الإسلاميين المتحولين من ذوي النزعات الليبرالية والعلمانية؛ فقلت له: البرنامج جيد للإنصاف، لكن من حق مقدمه ومعده أن يحصر ضيوفه بالعلمانيين؛ فهو يعبر عن هويته وانتمائه من خلال ذلك، كونه علمانياً معادياً للجماعات الإسلامية والمثقفين الإسلاميين، ومسؤوله علماني ومدير القناة علماني ومدير الشبكة علماني؛ فكيف تريد أن يستضيفوك؟!
ولعل هناك من يتصور أيضاً؛ إن هذا الكلام ينطوي على إشارة لإقصاء العلمانيين من هذه المؤسسات، بأسلوب تعسفي وغير قانوني وغير حضاري. كلا بالتأكيد؛ فالعلماني يتساوى مع الإسلامي في الحق في التواجد في أي منصب ومفصل من مفاصل الدولة ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية؛ فكلاهما عراقي ويحظى بالحقوق والواجبات نفسها تحت سقف القانون.
أتذكر قبل (15) سنة تقريباً؛ كنت برفقة صديق صحفي إسلامي مخضرم عند رئيس الوزراء؛ فبدأ الصديق بالشكوى من وجود أحد البعثيين وأبواق النظام الصدامي على رأس إحدى النقابات، وهناك من يشيع بأنه مدعوم حكومياً؛ فنفى رئيس الوزراء وجود أي دعم حكومي لهذا الشخص، وقال بالحرف الواحد: هذا الرجل جاء الى رأس النقابة وفق القانون، بانتخابات حرة نزيهة.. اذهبوا أنتم وانشطوا في النقابة وليكن لكم وجود حقيقي، ثم نافسوه في الانتخابات، واحصلوا على رئاستها، أما أن تتدخل الحكومة في هذه الأمور فهذا لم يكن ولن يكون.
من جهتي؛ أيدت كلام رئيس الوزراء؛ لأن المثقفين الإسلاميين تعودوا على الشكوى والتململ داخل اجتماعاتهم وجلساتهم وندواتهم ومجموعات التواصل الاجتماعي التي تجمعهم، ويطالبون الزعماء السياسيين بدعمهم في التعيين في مواقع المسؤولية، دون أن يتحركوا ويقتحموا العملية الثقافية والإعلامية والفنية، عبر حركة تنافسية جماعية مدروسة، ويتخندقوا في عقلها وجسدها، ويوجهوها وفق أهدافهم الإسلامية.
كما أن أغلب المثقفين الإسلاميين يفضل أن يعمل في إطار العملية السياسية، وأن يكون في منصب إداري أو استشاري أو عضواً في مجلس النواب أو سفيراً، أو حتى مسؤولاً خارج اختصاصه الثقافي، دون أن يكلف نفسه عناء السعي وبذل الجهد الجماعي مع إخوانه في إطار العملية الثقافية. بل حتى الزعماء السياسيين أنفسهم، لو تم تخيير أحدهم بين أن تكون حصة حزبه مواقع سياسية واقتصادية وتشريعية وأمنية، وبين أن تكون مواقع ثقافية؛ لفضّل الأُولى قطعاً.
وعلى سبيل فرض المحال؛ لو كان الأمر بيدي؛ لعقدت اتفاقاً مع الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين القابضين على العملية الثقافية والإعلامية والفنية ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية ونقاباتها واتحاداتها في العراق، وبموجب الاتفاق أُسلِّم العملية الثقافية لكوادر ثقافية إسلامية متخصصة، أعرفهم بالأسماء، مقابل إعطاء الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين ما يشتهون من وزارات ومؤسسات سياسية وخدمية وعلمية. ولا أقصد هنا تسليمهم الحكومة ومجلس النواب والقوات المسلحة والمؤسسات الأمنية؛ ليعيدونا الى أيام المقاومة الشعبية وحبال المشانق والسحل وانتهاك الحرمات والمقابر الجماعية وطبول الحروب وقمع من لا يكون معهم، وخنق صوت من لا يطبِّل لهم. كلا بالطبع؛ بل أتحدث عن فتح الفرص أمامهم في المؤسسات السياسية والخدمية والعلمية، مقابل تخليهم عن العملية الثقافية والإعلامية والفنية ووزاراتها ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية ونقاباتها.
ولعل هناك من يقول؛ بأن التقسيم الحالي للواقع العراقي هو تقسيم جيد؛ فالعملية السياسية والأمنية بيد الإسلاميين الشيعة، والعملية الثقافية والإعلامية بيد العلمانيين، وبالتالي؛ لا داعي لأي تغيير. والحقيقة أن هذا الكلام يتعارض مع بديهيات تكوين الإسلاميين وغاياتهم وأهدافهم؛ لأنهم جماعات ثقافية بالأساس، كما ذكرنا في المقدمة، وأن العملية الثقافية هي أداتهم الأساسية قبل العملية السياسية، وإن صناعة العملية الثقافية وتوجيهها نخبوياً واجتماعياً وشعبياً هو واجبهم الذي تأسسوا من أجله، إضافة الى أن هوية الإسلاميين منبثقة من هوية العراق الثقافية ومن الانتماء الاجتماعي الديني للشعب العراقي، ويعون هذه الهوية ولوازم تأصيلها بعمق، على العكس من العلمانيين والشيوعيين والبعثيين، الغرباء عن هوية العراق الثقافية وانتمائه الديني، والذين يعملون بشراسة ضد هذه الهوية، منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 وحتى الآن، وبالتالي؛ فهم إما أُمّيون في مجال استحقاقات الهوية العراقية ولوازمها أو معارضون للجوهر الثقافي لهذه الهوية، ويعملون بالضد منها.
وأقول عن دراية كاملة؛ إن هناك مثقفين ومفكرين وإعلاميين وصحفيين وكتّاب إسلاميين شيعة، أعرف شخصياً (١٠٠) منهم حداً أدنى، بعضهم عاد من الخارج وبعضهم عاد الى الخارج، وآخرون تكوّنوا داخل العراق بعد العام 2003، وهم مهنيون ومحترفون من الطراز الأول، بل لا يرقى لمهنية بعضهم أي بعثي وشيوعي وعلماني، وتصل خبرة من كان منهم خارج العراق الى (٣٠ ـــ ٥٠) سنة، وكثير منهم أصحاب شهادات عليا، وكان أو لا يزال لدى بعضهم زمالات ومسؤوليات في أرقى المؤسسات الثقافية والبحثية والإعلامية والجامعية في الخارج، لكنهم بعيدون عن العملية السياسية من جهة، وغير مؤثرين في العملية الثقافية والإعلامية والفكرية للدولة، لأنهم خارجها من جهة أخرى، ويمارسون نشاطاتهم الثقافية والفكرية والإعلامية والفنية بشكل فردي من جهة ثالثة؛ لذلك فهم مركونون جانباً أو ركنوا أنفسهم، ولا يعرفهم سوى بعض النخب وأصحاب الاهتمام.
ختاماً؛ أرى إن فشل الإسلاميين الشيعة الذريع في هذا مجال العملية الثقافية في العراق، بالرغم من هيمنتهم النسبية على العملية السياسية والأمنية، تعني باختصار فقدانهم الوعي بالأهمية المصيرية للعملية الثقافية والإعلامية والفنية، وعدم تحسسهم خطورة عدم تواجدهم الكمي والنوعي في مؤسساتها، على أساس المهنية والتخصص، وصولاً الى التنافس القانوني والحضاري على توجيه أهدافها ومشاريعها ونتاجاتها.

أحدث المقالات