اصبح من ثابت الرأي عجز القلم بأي لغة غير العربية في تحويل النص القرآني اليها مهما كانت براعة المترجم المتفقه او المترجم العالم او المترجم المثقف الذي ينبري لهذه المهمة. وهذا الاستنتاج العملي ليس كالقول المجرد او العام، لان نظرة غير العربي المسلم الى النص القرآني لا تعدو النظرة التقليدية الى كتاب محكم الصياغة ولا يرقى الى التعجيز في محاولة الترجمة على المعنى بخاصة ، بخلاف رأي او نظرة العربي المسلم المثقفة او العالم او المثقف من ان القرآن المعجزة في اللغة من اكثر من زاوية بازاء النص الواحد. مع هذا الاستدراك نجد محاولات كثيرة تحققت لنقل معاني القرآن الكريم الى اللغات الاجنبية و الانكليزية على نحو خاص، وهو موضوع مقالنا هنا، اذ ان المسلمين من غير العرب، ومن الناطقين بالانكليزية يمثلون اكثر من 60% من المسلمين في العالم، فاذا انتبه هؤلاء الى مخاطر تعدد المصادر القرآنية مع اختلافها بعضها عن بعض فان الدعوة الى تبني قراءة القرآن وتلاوته ومدارسته بالاصل الذي نزل به تصبح ذات جدوى وتأثير معا، فضلا على حكم توثيق نزول القرآن الكريم باللغة العربية في متن النص القرآني العظيم في مواضع كثيرة.
يفترض هذا المدخل مخاطبة المسلمين من غير العرب، اذن، ومن الناطقين بالانكليزية حصرا، الا ان هذه المخاطبة، وبحكم منهجيتها المقارنة تصلح، بل تلزم، لمخاطبة العاملين في حقل الترجمة، على هذا المستوى الرفيع بحسن نية.
المترجم العربي السوري الشيخ عز الدين الحائك الذي دفع بترجمته تحت عنوان (ترجمة تقريبية لمعاني القرآن الكريم باللغة الانجليزية – 1996) اذ بادخاله كلمة تقريبية عمل على زيادة حجم الحيطة والحذر في الترجمة بازاء الترجمات التي سبقتها وعلى نحو خاص ترجمة العلامة عبد الله يوسف علي تحت عنوان (ترجمة معاني القرآن الكريم بالانجليزية- 1989) فاذا اضفنا ما وقع تحت ايدينا من ترجمات للبروفيسور آرثر جي آربري، كمبردج، بريطانيا) و أم.اج . شاكر (الولايات المتحدة الامريكية) والشيخ ظفر الله خان (الهند طبعة بلغاريا) وجورج سيل (بريطانيا) فان الملاحظات المستنبطة من التحليل المقارن للنص المترجم في هذه المحاولات تعطي او توفر اكبر عدد من الفرص العلمية والموضوعية لاثبات خطأ الاعتماد على النص القرآني بغير العربية التي نزل بها شرفاً واعجازاً، ولا ينفع في هذا السياق ما تراه بعض المؤسسات الثقافية الدينية الاسلامية من ترجيح الترجمة على ترجمة.
ولكن اغلب هذه الترجمات غير متطابقة في معظمها، بل ثمة اختلافات كبيرة في بعض النصوص تصل الى درجة التناقض، وثمة خيارات مختلفة بين معاني الكلمة القرآنية المتعددة ،الامر الذي يجعل ترجمتها في آخر الامر مختلفة وذات معان متغايرة مع سمو ترجمة كل منها على انفراد ومن غير مقارنة احداهما بالاخرى.
تبدو الملاحظة السابقة التي جمعت بين اكثر من كبار المترجمين صالحة للاعلام بين جميع المترجمين وعلى نحو لاتنقصه الدقة ولا يفتقر الى المثال او الامثلة. ولكن عندما نحاول تعليل هذا الاختلاف بعد دراسة الترجمات وتحديد مستوياتها مع مناهج الترجمة مقارنة بالتفسير (العربي- العربي) مع استذكار المقولة الكبيرة المنسوبة الى الامام علي: ( القرآن حمال أوجه )، فان الاختلاف في ترجمة معانيه يصبح حالة طبيعية من الناحية الفنية او التكنيكية وحتى الاسلوبية فضلا عن الجانب الدلالي المهم اصلا، حتى اذا وصلنا الوجه او الجانب التشريعي في احكام الامر والنهي في العبادات والمناسك من الفروض على نحو خاص فان الاختلاف يتحول الى صيغة مؤثرة في السلوك العبادي الاسلامي، فالفرد (س) الذي يقرأ آية فدية الصوم: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) عند آرثر. جي آربري) تأتي على معنى: ( وعلى الذين يستطيعون الصوم ان يقدموا فدية) لانه ينظر الى مضمون (يطيقونه) من خلال بنائها الخارجي . وهذا المنهج، منهج التقيد الشكلي او الالتزام بشكل التعبير، ليس غريبا ولكنه يتناقض مع غائية النص او مدلوله المستتر او المعنى المقصود خلال المعنى الشائع، وهكذا يذهب الى نقل التعبير القرآني (ان ابراهيم كان امة قانتاً ) الشائع الآن، لانها هكذا متداولة وان القدرة او الامامة متاحة فلماذا لم تستعملا؟ ولكن اذا تعمقنا في المنهج الشكلي لا نجده خطأ دائما، ففي مثال صيرورة ابراهيم (ع) امة nation عند (آربري)، قد تؤخذ على مدلول احتوائه خصائص الامة الصالحة كاملة، وهو صحيح هنا، الا ان هذا الاستدراك لا ينسحب على جميع الامثلة النظيرة فينشأ الاشكال التطبيقي من الاختلاف في التعبير عن النص القرآني الكريم.
وثمة مترجمون يتصرفون في حقل ضعيف من النص القرآني لسبب يفترضون صحته سلفا، فالشيخ ظفر الله خان لا يغفل النصوص القرآنية التي تتعامل مع المعجزات كما هي او على المعنى نفسه دون الشكل انما يحور او يغير في المعنى والشكل معاً لانه كما يترائ لي يريد مخاطبة العقل بما يعقل. ولما كانت كل تجاوزه وتجاوز كل صيغ القوانين العلمية المألوفة، فانه اتخذ قراره بالتدخل في قلب المعنى او تحوير الشكل، الامر الذي يبعد الترجمة الانكليزية عن الاصل العربي شكلا ومضمونا مسافة شاسعة. بالمقابل، نرى جورج سيل يترجم ويفسر معاً، اي ان النص الذي يصدر من ترجمة جورج سيل هو نص ترجمي- تفسيري معا، الا انه يميز التفسير المضاف بالطبع المائل اما الطبع السوي الاعتيادي فانه يمثل الترجمة الاساسية للنص، ثم يضيف عند الحاجة هوامش ايضاحية فيقترب اكثر فاكثر من المعنى القرآني المقصود ويبقى الاعجاز الصياغي، البلاغة والفصاحة وتعدد الوجوه والنظائر (تعدد المعاني Polysemy) موضوع تفاوت على نحو تلقائي وطبيعي.
ولكن، مع كل هذا الجهد الحثيث لا نجد مناصا من الاعتراف بصعوبة التعويض عن النص العربي المنزل بقرآن الله العزيز، حتى اذ تدخل العرب بشخص الشيخ عز الدين الحائك لم نجد ابدا في التنبيه الى ان هذه المحاولة العربية ليست ارقى او افضل من سابقاتها انما هي (كما قال المترجم نفسه في مقدمته) يميل الى التبسيط، والتبسيط لا يعني التعبير في الاصل بل توضيحه وفك غموضه على محمل محدد من المعنى الاكثر قبولاً ورواجاً بين المفسرين، مع
ذلك فلقد نجد بعض المحاولات التي لا نريد ان نقول عنها انها منهجية بل هي عفوية… موجودة ومؤثرة في طبيعة النص القرآني العربي اصلا.
وهكذا نجد في ترجمة كل مترجم منفذاً للدراسة النقدية التحليلية المقارنة ضمن اللغة الانكليزية البريطانية، ولكن عندما نقرأ ترجمة معاني القرآن الكريم عند ام. اج شاكر فانك تتحول الى الانكليزية الامريكية، اذ تبدأ معضلات من نمط جديد ينبغي اضافتها الى الاستدراكات التنبيهات التي وصل عددها العشرات ان لم تكن المئات في المنهج والاسلوب والمعنى والبنية التركيبية.
ولكن حسبنا هنا التذكير والمذاكرة وان المسلم يتعلم قراءة القرآن الكريم واتقان تلاوته عربيا كما امر الله.
* للاستزادة راجع دراستنا: اشكالية ترجمة القرآن الى الانكليزية من قبل المسلمين غير العرب، موقع كتابات، يوم الاثنين 26/ اب/ 2013.