17 نوفمبر، 2024 11:37 ص
Search
Close this search box.

أنا وطالِباتُي في الكِنْدِي وإنتيخريستوس

أنا وطالِباتُي في الكِنْدِي وإنتيخريستوس

بَعدَ مخاضٍ عَسيرٍ في محاولتي إيصال تفاصيل محاضرةٍ بُحَّ فيها صَوتي ، عُدتُ أدراجي إلى قاعة إستراحة الأساتِذة وكالعادة أول شيءٍ تصطدِم به عيوني هو إجتماع الأضداد الخاص بالأستاذ صدام وأعني هنا علبة سجائره وفوقها تتربعُ ولاعته وبجوارها أكداس أدويته التي تُخفف من آثار التدخين والكانيولة التي لا توشكُ أن تُغادِر أوردته وما أن أنظر إليه حتى يُبادر قائلاً :

أُدركُ ما يدور في خَلَدِك ونظرات إستفهامك وجوابي هو أنَّ السجائر هي دائي وإبتلائي ، وأزيز صدري وضيق أنفاسي هو آثار سجائري وبجوارها أدويتي التي هي حَبل نجاتي ؛ إذن فقد إجتمع الداء وآثاره والدواء .

لكنني في هذا اليوم الشتوي السَمَاوي ما أن دخلت القاعة حتى أبْصَرَتْ نواظري أطباقَالقيمر والعسل والشِلَّة المُعَتَّقة بالسَمْن الحُر والدِبس التي تناثرت بسخاءٍ حاتمي وقد تَعالى دخان حرارة الصمون الذي يفَتح القريحة والشهية للإنقضاض على هذه المائدة والسُفْرَةِ التي تَنَغَّص لنا بها الأستاذ قُصي الرميثي ومحمد ؛ ويقيناً لا غرابة في هذا الكرم الذي أدمناه فنحن في أرض كَلكَامِش حيثُ أرض أوروك التي شَهِدَت وِلادة نبي الله إبراهيم الخليل “عليه السلام” الذي كان للجُودِ عنوان ويقيناً هي جِيناتهُ تِسري في عُروق أحفادهِ ؛ تعالت أصوات قُصي وعبد الزهرة وقيس وهم ينادوا بالله عليك يا زِياد أسرع :

أن هَلُمَّ إلى زادِك فنَحنُ في سِباقٍ مع الزمن وليس لدينا اليوم بِطُولِه ….

تتابعَ وصول الأساتذة إلاّ ميثم الذي آثر أن يبقى في الطابِق الثاني أو الثالث كي يستثمر الوقت وربما لديه عداءٌ مع إرتقاء ونزول الدرج أو السلالم أو هي فوبيا المصاعد ؛ المهم أنه طلب حصته بأن تصله في الأعلى فكان له ما أراد .

واقِعُ الحَال هذه الوجوه الصبوحة والأنفس الطيبة تجعلنا ننسى حسابات إرتفاع الضغط ومعدلات السُكّر وأجزم أنه سيكونُ هنيئاً مريئاً بل وشفاءاً مِنْ كُل داء .

نظرتُ إلى عقاربِ الساعة فإذا وقتُ محاضرتي في قاعةِ العَطاءِ يُوشك على البدء إذن لا بُدَّ وأنْ أُسرِع الخطى خاصةً مع بُعد المسافةِ النِسبي ، تتابَعَتْ خُطاي وطَرَقت مسامِعي مفردات غريبة :

“غو كَغتِي لا لونةَ مو ناميِ تيغو ….”  

أكيدٌ أنها ليست مفردات آشورية أو سومرية أو أكدية ، ثُمَّ تذكرت أنها محاضرة الأدب الفرنسي لزميلي وصديقي د. حارث وربما ست هِبة ؛ حاولت أن أسرع لكنني مُرغَماً أبطئت خطواتي وخففت مِن ضرب الكعب وإصطدامه بالأرض فها هي إنخيدوانا الكندي أستاذتنا الفاضلة سِهام حَنون النخلة السَمَاوِية السومرية السامقة فلا مناص إلاّ بالوقوف وأداء التحية والسلام لهذا الملاك الذي يزاحم شَبْعَاد وكوبابا …. وها هي سمير أميس الكندي بقوامِها الممشوق إنها ست تقى الموسوي وقد أحاطت بها الطالبات وكأنهن الحمائم اللائي كُنَّ يرعينها وهي تجوب جنائن بابل المعلقة ، ولسان الحال يقول : أن لا مكان لعشتار وفينوس وأفروديت في بهاءِ إطلالتها ، تعالت نبرات صوتي وأنا ألوح بيدي مُردِداً : مرحباً ست أسيل حي هلا زهراء ؛ صباح الخيرات تبارك و…. وأنا أجوب أروقة أكاديمية الكندي الصرح العلمي الفَتي الذي أثبت بكل عنفوانٍ وشموخٍ صُلبَ أرضيته وأصالةَ ومثابرةَ إدارته ورصانةَ أساتذته وكفاءة طالباته وطلابه بما يجعلني أشمخ مُتشَرفاً أن يقترن إسمي بالكِندي

أروقة الكندي داعبت شِغافَ قلبي وأعادتني لأكثر من ثلاثين عاماً حيث جامعة الموصل العريقة ومركزها الطلابي ومكتبتها الخالدة وحدائقها وكليّاتها ليجنح بي الخيال إلى نِينَوى الحدباء ورياضِها الغَنّاء وغاباتها الفيحاء ؛ يا الله …. ضمآنةٌ روحي تَتُوقُ لترتشفَ الماء من دجلةَ الخير وقد داعبت أمواجه أشجار شُطآنه بعدَ أنْ حَطّت عليها الحمائِمُ والنوارسُ فعانق هَدير الموج زقزقة العصافير وشَدوَ البلابل وغناء الكروان وترانيم الطيور في تناسقٌ يَسحر الألبابَ ويشرِح الصدور فتسعد القلوب وتأنسُ النفوس …

ما أروع تَتَابع الفُصولَ في وطني فها أنذا أحط الرِحال في شِتاء العام 1992م وقد وصلتُ مُتأخراً عن موعدِ لقاءِ الأحبة اليومي في كلية الآداب جامعةِ الموصل الحَبيبَة التي أودعناها أحلى سنين الصِبا والشباب وأحلام العاشقين ، لربما ألتمس العُذر لنفسي بأني تأخرت ؛ فإنه يومٌ شتويٌ ممطر وشَدّني الجَمال الخَلاب لسحر الطبيعة وقد عانقت قطرات المطر أديم أرض نينوى وتُرابها لتفوح رائحة هذا العناق شذى عطرٍ يَسحَرُ القلوب على وقع حفيف أغصان الصفصاف واليوكاليبتوس والأشجار التي إنتظمت لتزين شوارع جامعة الموصل ،نسمات الهواء البارد تلفحُ وجهي وأنا أرنو بِبَصِري صوب الأشجار وقد داعبت حبات المطر أغصانها

لم أستِفِقْ من عالمي لولا قبضةُ يدٍ تشدني من ساعدي وصوتٌ يخبرني بأنه قد تأخرنا عن موعد محاضرة أ.د عمر الطالب إنها يدُ رئيس الإتحاد الطالب أحمد اللهيبي (أ.د. أحمدخضر إبراهيم) يقول لي :

دَع التأريخ للتأريخ وتعالَ معي إلى قِسمنا قسم اللغةِ العَربية فقد إستأذنت د. عمر كي تحضر معنا لأنه سيتناول شرح قصيدة نزار قباني بالنقد والتحليل وهذه محاضرةٌ لن تُعَوضْ ؟

شَرع الدكتور في نقده وتحليله للقصيدة إختاري :

إني خيرتك فاختاري ما بين الموت على صدري … أو فوق دفاتر أشعاري
الجميع منصتٌ يصغي حتى وصل إلى كلمات القصيدة التي أثارت حفيظته فإنفعل وهو يقرأ :  

آهٍ لو حبك يبلعني …. يقلعني … مثل الإعصارِ … ووجه تحفظه مفردة (يبلعني)
إنتهت المحاضرة وعدتُ مسرعاً إلى قسم التأريخ لأجد أن  أ.د سيار الجميل شرع في محاضرته بعد أن غض الطرف عن تأخري فجلست بكل هدوء بجوار صديقي عبد الحمادي …

تَعالت ضحكاتُ الأستاذ لؤي وهو يُقهقه كعادته ناثراً السعادة حيثما حَلَّ أو إرتحل ليُعيدُني صوت تلك الضحكات إلى عالم الكِندي بجسدي وروحي وكلُ جوارحي ؛ لأرى الأستاذ باسل وهو يُهرول مُسرعاً كعادته وكأنه أقسم أن لا تضيع ثانيةً واحدةً من محاضراته …..

دخلت قاعة العطاء وقد عَمَّ الهدوء وخَيَمَتِ السَكِينةُ فبادرت بإلقاء تحية الصباح ، وشاء الله أن أرى كتاب بعنوان ( إنتيخريستوس رواية د.أحمد خالد مصطفى) أمام إحدى الطالبات ” أعتقد رُقيّة أو حوراء إن لم تخني الذاكرة” فرفعتُ الرواية بيدي ووجهت الخطاب لطالباتي في القاعة :

بما أننا نوشك أن نُنهي مواد الكورس الأول لذا سأشرح لكم بإيجازٍ غيرِ مُخل فصول هذا كتاب  إنتخريستوس وهذه المفردة اللاتينية تعني (المسيخ الدجال) كوني إنتهيت من قرائته قبل ثلاثةِ أعوام بعد أن أهدتني الرواية ست رواء الجبوري ، أضف إلى ذلك أنَّ العراق وإرثه وحضاراته يمثل محور هذه الرواية ؛ وما يجري اليوم في فلسطين وتحديداً في غزة ليس بعيداً عن فصولِ هذا الكتاب إذن فلن نُشَرِّق أو نُغَرِّب كثيراً لأننا سنُدَندِن حول تأريخنا المجيد .

شرعت في الأمر مستعرضاً تأريخ بدء الخَلق منذ آدم وصولاً إلى نوح “عليهم السلام” مروراً بزاهاك بن كنعان أي النمرود وإستفحال السِحر في أرض بابل وقصة إبراهيم مع النمرود وصولاً إلى التخطيط لهدم المسجد الأقصى والبحث عن هيكل سُليمان المزعوم وأسباب ذلك و….

رَفَعَتْ حوراء يدها وهي تستأذنني بمداخلة وأشترطت عليَّ أن لا أغضب أو أنفعل …. فوعدتها

لتصعقني بطرحها بأن الجميع لم يستوعب المادة المنهجية وقد إقتربت الإمتحانات وبأني أخفقت في إيصال المادة العلمية …. هنا بدأت أشعر بِسنا حرارةٍ تخرج من وجهي لكني مطمئن كوني أتفانى بل وأشرحُ بكلِ جوارحي وادع أبواب النقاش مشرعة وعلى أهبة الإستعدادِ لإعادة الشرح ولو تطلب الأمر 1000 مرة المهم هو هضم وإستيعاب ما أشرح ، وأقولها بأمانةٍ كنت مطمئناً بعض الشيء بأنَّ طرح حوراء هو لحالةٍ فردية ؛ توجهت بالخِطاب للبقية فإذا بـــــ نور الزهراء تقول :

إن وعدتني بأنك لن تغضب فسأتحدث بصراحة ؟

تفضلي يا نور أوصلي وجهة نظرك ! فإذا بها تعضد الرأي السابق …!!! رباه كيف أخفقت في أداء رسالتي لكن بصيص الأمل لا زالت أتشبث به حينما وجهت السؤال لـــ مريم مَسَرَّة … ملَك  … مَلاك   كوثَر نَرجس … رؤى … زهراء … فاطمة … نور الهدى …  فإذا بتطابق عجيب بين أقوال الطالبات ؛ هنا تيقنت أن قيامتي قد قامت حيث خارت قواي مع توهج وإستعارٍ لنيرانٍ تخرج من وجهي وأنا أدور بنظراتي الحائرة في الوجوه كمن يستجدي في الآخرة حسنة تُدخله الجنة … لأفاجئ بتصفيقٍ مُنقطِع النظير مَع تطايرٍ للوُرود وتَناثُرٍ للحلوى وهتافات تتعالى :

أنت الأستاذ الأروع وأنت الأستاذ المُلهِم وأنت   لأدرِك أنني وقعت ضحية مقلبٍ تم إحكامه بإتقانٍ لا يُوصف لتعود الدماء إلى جسدي كسابقِ  عهدها وأشعرُ بالظفر بعد الإنكسار وبالنصر بعد الهزيمة وتترسخ لديَّ قناعةٌ بعظيم إعتزاز طالباتي بأستاذهن شكراً لأكاديميتنا الرائعة أكاديمية الكندي شكراً لإدارتها والقائمين عليها وهيئتها التدريسية وكوادرها وطلابها من البنين والبنات

تحية محبة وإعتزاز وتقدير

أحدث المقالات