تعد الاماكن الشعبية ثروة هائلة بالشخوص، مما يجعل حركة الاحداث غير مسيطرة عليها ؛لأنها لا تتخذ مناهجا واحدا يمكن ان تسير عليه طبيعة المجتمع . هذا الخليط المجتمعي مفعم بالسرديات الثرة ،ونافذة يمكن ان يطل عليها الباحث المعرفي. استطاع عدد من الروائيين العرب استثمار هذا الثراء النوعي والخزين المجتمعي في رسم صور ابطالهم؛ بما يسهم في حلقة مجتمعية دائمة الحركة كصندوق الدنيا. تعد أحداث بدايات القرن العشرين، مصدرا للكثير من الكتاب العرب ؛ لان هذه الفترة تبعدهم قليلا عن مواجهة الواقع المرير وقتذاك الذي يعيش تسلط الحكومات التي ادعت الثورية ، وسعت لخلاص الجماهير من الملكيات العميلة وغيرها من الشعارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت. مساحة الحرية الفكرية الضيقة هي التي من اوجدت الغوص في دهاليز الماضي ونقد سلبياته بكل اريحية بدون مقص الرقيب. وربما لجأ بعض الكتاب العرب الى الرمزية للتخلص من قيود المراقبة والمنع.
هناك تشابه كبير في الاحداث بين مصر والعراق ،فكلا البلدين تخلصا من الملكية الدستورية وسيطرة العسكر على المقاليد . ولد هذا التحول نوعا من مخاض العسير على جميع مفاصل الحياة ،منها الادبية ،وطبعت على مجرياتها مسحة النفي والغربة الداخلية. هذه الاسباب وغيرها هي من دفعت الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ ( 1911 – 2006) ان ينغمس في اجواء الماضي الجميل و اجواء الحارة الشعبية وازقتها، واستطاع ان يكون له اسلوبا يميزه عن الآخرين في تناول الشخصيات الشعبية، وتقريبها من القارئ . لقد وجد محفوظ في مثل هذه الاجواء ضالته التي يبحث عنها حيث التنوع الطبقي المجمعي مما اعطاه مساحة واسع للغوص في اعماقها بشكل واقعي وبدون تزويق. وتعد ثلاثية القاهرة (1956 – 1957):بين القصرين (1956)،قصر الشوق (1957)،السكرية (1957) من اكثر اعمال محفوظ تصورا للشخصيات الشعبية متجردا من المثالية العربية في رسم السلبيات قبل الايجابيات؛ لأنه اراد يعكس لنا مرحلة زمنية مهمة من التاريخ ،وهنا لابد من الواقعية التصويرية التي ترصد دقائق الامور ،وتحولها الى أداة للنمو الفكري والحضاري. وأمام هذا التحدي الكبير لابد للكاتب من سعة الرؤية في رسم الشخصيات بحيث تحاكي الواقع أو تقترب منه إلى حدٍ بعيد. ولعل شخصية سيد احمد من أكثر الشخصيات جدلا ؛لأنها تعيش ازدواجية التي تحقق لها الرعبة الروحية للعيش في ملذات الحياة وليالي الانس والرقص وقوة الشخصية وجبرتها والابوة المتسلطة التي تريد أن تزع الفضيلة في نفوس ابنائها. أما امينة زوجة سي سيد فهي مثال للمرأة الشرقي التي تجد تؤيد كال ما يقول الزوج ،وان كانت بعض الاحيان غير معتنقة. ورغم من التربية الشديدة لابد من وجود احد يكون صورة للاب الزاهد في النهار والخامر في الليل . لم تكن شخصية ياسين سوى صورة جزئية لسيد احمد برغم انها كانت اكثر وضوحا وعاشت بوجه واحد. اي انها من شخصيات غير مركبة عكلس شخصية سيد احمد التي عاشت بشخصيتن في مجتمعين بحيث قسمت نفسها كل حسب متطلبات ذلك المجتمع الذي تعيش فيه.
اما الروائي العراقي غائب طعمة فرمان( 1927-1990) نجده في رواية (النخلة والجيران )1966 قد تحرر من الضغوط التي واجها سلفه محفوظ ، فرسم لشخصيات الحارة حالة من اليأس الذي خيم على اجواء الحارة الشعبية ليغوص في احداثها التي مركبة من خلال شخصيات: سليمة(خاتون)الخبازة.ابن زوجها حسين.مصطفى احمد الدلال(ابو ابراهيم).اسومة العرجة، وزوجها مرهون السايس(ابن الحجية عمشه)، وابو قنبورة.حمادي العربنجي، وزوجته رديفة، ام خشم الاقجم. خيرية، وزوجها رزوقي الفراش.تماضر.صاحب ابو البايسكلات(ابو مهدي).محمود ابن الحولة. الخالة نشمية). ومن خلال اسماء هذا الرواية ندرك حجم الشعبية التي جسدها فرمان وشخصياتها رغبة منه في كشف العلاقات الانسانية التي تصاب بالرتابة، وتعيش كي تتنامى بشكل تدريجي، لتكون احداث مهمة في تاريخ العراق المعاصر برغم ان ضعف الاشارات السياسية التي تكاد تكون قليلة ،ولكنها مغلفة بإطار الحوار الشعبي الذي يمثل سلوك بعض الشخصيات رواية (النخلة والجيران)،ولعل لحالة النفي منحت غالب تلك مساحة من الحرية في رسم الاحداث بشكل كبير برغم من ابتعاده عن أجواء العراق جغرافياً ، ولكنه ابداع في تصوير الحالات الانسانية بدقة متناهية ، وحتى تلك الالفاظ الشعبية التي أطرت ابطال روايته . انه الانغماس في المحلية البغدادية لدرجة الانصهار . في حين عاش محفوظ تلك الاحداث وعاصرها بشكل حي مما سهل عليه ان يلج في اجواء الحارة المصرية بصورة اعمق من غيره من الكتاب المصريين الذين تناولوا الحواري، وتفنوا في رسم شخصياتها. مارس نجيب محفوظ التدردج الطبقي في ثلاثيته، فبدأها من شخصيات قاع المجتمع الى الطبقة الاستقراطية التي ظهرت بشكل جلي في (السكرية ). في حين قاس غالب فرمان الحارة بمسطرة الطبقة الواحدة مع اختلاف بسيط في بعض السلوكات والالقاب الشخصيات التي كانت موغلة في الشعبية مثل(سليمة الخبازة، اسومة العرجة،ابن الحجية عمشه، ابو قنبورة،حمادي العربنجي، ام خشم الاقجم، محمود ابن الحولة).
لعل تقارب بين الروائيين الكبيرين محفوظ وفرمان، أنهما كانا يريدان تصوير الواقعية الشعبية بأسط صورها ، وأن يكونا على اتصال قريب بأبطالهما من خلال الحوار والزمان والمكان حتى ان محفوظ أنسالت قريحته الروائية وغلب عليه قلمه السردي القوي في الاستمرار في اجزائه الثلاثة ( بين القصرين ،قصر الشوق، السكرية ) وكرر هذا الابداع في ( الحرافيش ). هذا النمو الزمني نجده، قد توقف عند فرمان. ربما يكون وراء هذا التوقف الزمني عدم استقراره وحالة الانتقال السندبادي التي ولدت عنده تشظي فكري، فهو يبتعد عن الوطن مما جعل خزينه الشعبي يصاب بنوع من الجمود المؤقت، واكفى بروايات منفصلة (خمسة أصوات ،1967المخاض ،القربان 1975،ظلال على النافذة 1979،آلام السيد معروف 1980،المرتجى والمؤجل 1986،المركب 1989).