تكتسب انتخابات مجالس المحافظات لهذه الدورة تحديدا أهمية كبرى بالنسبة للإطار ألتنسيقي رغم إن وجود مجالس المحافظات من عدمها فالأمر سِيَّانِ, ولكنها ستجري هذه المرة في ظل مقاطعة الند القوي المنافس (التيار الصدري) وقوى حراك تشرين وجمهور واسع من المستقلين والذين تشكل مقاطعتهم صفعة قوية للنخب السياسية وتضع شرعية النظام السياسي محليا ودوليا على المحك. هذه المقاطعة سترفع من حظوظ الإطار للفوز بأغلب مقاعد مجالس المحافظات, وإمكانية تشكيل الحكومات المحلية والهيمنة عليها, وإعادة استنساخ تجربة الهيمنة على مجلس النواب بعد انسحاب الكتلة الفائزة الأكبر (التيار الصدري) والاستحواذ وتقاسم مقاعدها مما مهد له وبغياب المعارضين من تشكيل الأغلبية البرلمانية وأعادَ رسم مسار النظام السياسي من جديد لصالحه.
لقد أفصح زعيم الإطار ألتنسيقي “نوري المالكي” أمام تجمع لأنصاره عن نيته البدء بجولة من التصفيات السياسية للخصوم بعد انتهاء الانتخابات وضمان الفوز بأكبر عدد من المقاعد, وأعلن صراحة بان أداء المحافظين للفترة التي عطل فيها عمل مجالس المحافظات سيخضع للمراجعة والمحاسبة, وبالتأكيد فان المراجعة لن تشمل محافظي الإطار والموالين لهم وهم الأكثر فسادا كما هو معروف, وربما سيوفر الإطار الحماية الدستورية والشرعية ومنع إجراءات الرقابة والاستجواب ضدهم كما هو معتاد سابقا.
هيمنة الإطار ألتنسيقي على النظام السياسي وما أفرزته الفترة السابقة لأداء رموزه من نهم سلطوي وإقصائي وتصاعد مؤشرات الفساد وانحدار مستوى الأداء الحكومي والبرلماني وشيوع ظاهرة الدولتين العميقة والموازية والتبعية السياسية الإقليمية قد عزز الترسانة المعادية للإطار ألتنسيقي, وضاعف أعداد المقاطعين للانتخابات المقاطَعَة أصلا من شرائح واسعة من أبناء المجتمع أفراد وتنظيمات من الذين لا ينظرون لصناديق الاقتراع بصفتها أداة من أدوات التغيير الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة, وإنما هي نوع من أنواع الاستحواذ على الحكم واكتساب شرعية زائفة بطرق احتيالية, والسعي من خلال المقاطعة الى نزع شرعية النظام السياسي وإثارة الرأي العام الدولي إلى الأساليب الاحتيالية التي تمارسها النخب الحاكمة للتحكم بالنظام السياسي والاستحواذ على السلطة بعد إلغاء قانون الدوائر المتعددة للانتخابات الذي انتزع من مجلس النواب بتضحيات المئات من شباب تشرين المنتفض ومؤازرة النواب الصدريين, وإعادة العمل بطريقة (سانت ليغو) لمنع وصول الكيانات السياسية الصغيرة والناشئة, ودون تحديد “العتبة الانتخابية” أو “الحد الأدنى لعدد المشاركين في الانتخابات” واعتبارها ناجحة حتى وان شارك في الانتخابات عوائل المرشحين فقط !!!
الناخب العراقي كان قد عكف عن المشاركة في الانتخابات, وظلت نسب المشاركة تنخفض بين انتخابات وأخرى لأسباب تدعوه عنوة إلى مقاطعتها, فقد اعتاد على أن ينتظر نتائج الانتخابات لفترة قد تمتد الى شهر, فهو إذن لا يتوقع أن يكون صوته سببا لتغيير الحال من حال الى حال, وإنما تصويته هو تحصيل حاصل لما ستتمخض عنه مباحثات تقاسم الحصص بين الغرماء, وعليه أيضا أن ينتظر لفترة قد تقارب العام لتشكيل الحكومة نتيجة الأنانية بين الغرماء وتدافعهم الصفري فيما بينهم في رحلة الصراع على تشكيل الحكومة ونيل مغانمها. وما التصويت وضجيج الدعاية الانتخابية إلا للمنافسة على هامش بسيط من المقاعد لا يقدم ولا يؤخر لإضفاء اللمسة الديمقراطية على نظام الحكم.
لعل من الأسباب المنطقية لمقاطعة الانتخابات حتى من أعضاء الأحزاب المشاركة ذاتها, هو إن اغلب رموز النظام السياسي قد استنفذوا كل حيلهم التي دأبوا فيها على استمالة البسطاء وخداعهم للسطو على أصواتهم, ولم تعد خطبهم الدهماوية مؤثرة حتى في قياديي أحزابهم. في الانتخابات النيابية السابقة أظهرت خلاصة النتائج المسلمة على قرص مدمج من المفوضية المستقلة للانتخابات لحزب إطاري نافذ يتزعمه احد الشعبويين, إن 65% من الأعضاء المؤسسين لهذا الحزب قد امتنعوا عن التصويت أو صوتوا لصالح مرشحين آخرين من أحزاب منافسة, وهذا طبعا نكاية بهذا الزعيم الشعبوي الذي كان مخادعا أكثر مما ينبغي, فكان عقابه شديدا من أتباعه وأدت الى إلحاق هزيمة قاسية بحزبه كادت تطيح بمستقبله السياسي لولا انسحاب الكتلة الصدرية الفائزة وتحول بعض مقاعدها إليه, وهذه إحدى الأمثلة لما يمكن للمقاطعة أن تكون من تأثير فعال في إقصاء المخادعين.
إن الامتناع عن التصويت نتيجة عدم الإيمان بإحداث أي تغيير جوهري في شكل النظام يعد بحق هو شكل من أشكال العمل السياسي, وابلغ رسالة احتجاج يسعى الناخبون الى إيصالها للنخب الفاسدة ومعاقبتهم كفئة ضالة مظلة سطت على الحكم بالخداع واستحوذت على مقدرات الدولة دون وجه حق.
من غرائب طرق الإقناع لدى الإطار ألتنسيقي لاستمالة الناخبين والإدلاء بأصواتهم, هي وبعد تحويل البيئة الانتخابية إلى بيئة طاردة للناخبين الساعين إلى التغيير, وبعد إقصاء غريمهم اللدود شعروا بالخطر الذي بدأ يتهدد نفوذهم وسطوتهم في ظل نظام التحاصص الطائفي والقومي, وأن المقاطعة ستؤدي إلى تراجع تمثيل المكون الشيعي, فأغلب المقاطعون هم من الشيعة, وطبعا كونهم الفئة الأكثر تضررا من هذه النخب السياسية, ما يؤدي إلى رجحان كفة الطائفة السنية خاصة في مركز الثقل الانتخابي (بغداد), فحركوا بعض المراجع (السياسية) لمداعبة مشاعر المغفلين باسم الطائفة, والإفتاء بضرورة المشاركة كواجب شرعي وانتخاب مرشحوا الإطار لمنع وصول المرشحين السنة للحفاظ على مكتسبات الشيعة .. انه إصرار عجيب على ممارسة الاحتيال السياسي حتى بعد ان كشفهم الناخبون وفقدوا الأمل في إصلاحهم وإنقاذ البلاد من براثنهم.