في أبيات قصيدة الشاعر مؤيد عبد القادر
– شاغِلٌ قرّاءَهُ بعنصر الدهشة ليقفَ على مسافة الحيرى في دواخلهم
– جسّدَ صورةً حسيّةً رائعة اقترنت بدلالة الحركة الفعلية للمشهد الشعري
– يبدأ مؤيد قصيدته بهذا الاستهلال:
ما زلتُ أؤمن، إننا كنّا معاً في حياة سابقة منذ عقود أو حتى قرون.. فيما نحن الآن على شكل أوهامٍ في سراباتِ توقِ الأمسِ وأشواقهِ المجبولةِ بأحلامِ أجملِ لقاء مُنْتَظَر / مؤيد عبد القادر
كتب سعد الدغمان:
الشعر في كله أو جزئه، إيحاءٌ وشعورٌ، تُنَظّمُ تلك الأحاسيس عبر مفردات في أبيات القصيدة، وفق قواعد تحكم نُظمَها وترتيبَها، ومنها تظهر الحبكة الفنية للعمل (باعتبار الشعر فنّاً من الفنون الأدبية)، وهي التي تمنح القصيدة الرؤيةَ التي تتناسب والمحتوى والشكل العام للقصيدة، كما أن الغرض من الكتابة يحكم التصور الذي عليه القصيدة، فالوجدانيُّ له أبوابٌ، والهجاءُ كذلك، ومثلهُ المديحُ أو شعرُ الحماس، والوصفُ الذي سنبيّن من خلال شروطه وأسبابه عائديةَ قصيدة (مؤيد عبد القادر) إليه.
يحاول مؤيد عبد القادر، أن يلفت نظر القارئ بدلالة (الأنا) الرمزية التي بدأ بها مطلع قصيدته، مستخدماً الدلالة كرمزية (لَوّنتُ)، (أنا) والتاء بعائدية للدلالة على من قام بفعل (التلوين)، لكن هذه (التاء) بعائديتها الشخصية، ألحقها مؤيد بمفردات من المبالغة لأغراض تهويل المشهد فيما بعد، وليكون مطلع قصيدته، مؤثر يحمل المزيد من التشويق، وإلا كيف لصاحب (الأنا) إضفاء اللون على أشرطة الغبار، فهي صيغة للمبالغة بالتهويل وشد القارئ نحو تعظيم الصورة الشعرية التي نجحَ برسمها في أول شطر من القصيدة.
وفي (الأنا) أيضاً يُكملُ مؤيد خطابه الذي ضمّنه الحوار الشخصي بصيغة المتكلّم، فيؤكدُ حقيقةً كونيةً مفادها، أن وجود الإنسان ما هو إلا لحظة من عمر هذا الكون، وهي إشارة صريحة ذات دلالة رمزية دقيقة جداً، وظّفَ فيها الحقيقة، بقصد الإقناع والتأثير على المتلّقي، وهذا الأخير حين يقرأ ما يحتويه النص من حقائق مؤكدة يؤمن بها، سيعمد إلى توظيف عناصر الثقة بينه وبين الشاعر، وهذه الحالة تخلق تواصلاً روحياً بينهما، كما يركز التواصل النفسي بين المتلقي وما يكتب الشاعر، أي أن مؤيد لعبَ بذكاءٍ وفطنةٍ، ليضربَ عدة عصافير ببيت واحد، أفردَ من خلاله مساحةً واسعةً من التصور، أتاحت للقارئ أنْ ينمّي مَلَكَة التفكير في الوجود الإنساني (لم أكن في الكون إلا لحظة) وفتراته التي لا تعادل لحظات من عمر الكون، ثم أفسحَ له التصوّر الواقعي حينما نَقَلَه بحقيقة مؤكدة، تمثّلت بمعادلة وجوده بلحظة تلك اللحظة هي (حَجر) مؤيد عبد القادر، الذي جمع من خلاله كل المقاصد في بيت من شطرين، وتلك عبقرية طاغية وإبداع في تصوير المشهد الشعري الذي كُتب بدلالةٍ رمزيةٍ هائلةٍ ضمّنها صوَراً غايةً في الجمال والروعة..
لوّنتُ أشرطةَ الغبارِ،
ولم أكنْ في الكونِ إلا لحظةً
أقعى بها زمنُ الزوالِ
مسكينةٌ هذي الخُطى،
تمضي على أفِقِ الأسى،
تستدرجُ الأحزانَ من حالٍ لحالِ
ويجيءُ مرسوماً على خطوِ التعثّرِ صوتُها:
هذي انفعالاتُ التوغّلِ في مفازاتِ المُحالِ
استخدمَ مؤيد عبد القادر، مفهوم الدلالة الحركية للخروج من الجمود في النص، وأرادَ منها ايضاً أنْ يخرجَ من الثبات في الصورة، فجعلَ من الحركة هاجساً يوحي للقارئ أنَّ هناك تغيّراً في المفهوم سيَلمسه المتلقي في القادم من أبيات القصيدة، لذلك جاءَ بكلماتٍ دالّةّ على الحركة.(أقعى، زمن الزوال، الخطى)، وغلّفَ أبياته بنبرةٍ تدلُّ على مسحةٍ من الحزن (مسكينة) وهذه للتفاعل مع القارئ وتبيان الحالة الموصوفة بالحزن، والتعبير على التعاطف والحزن، يبدأ بلفظ (مسكين أو مسكينة)، ومن ثم نأتي لشرح ما بعد تلك الصفة التي سبقت تبيان الحالة، حينها سنجد أنَّ التوصيفَ الذي أدخله (مؤيد عبد القادر) على أبياتهٍ ضمّنه استمرار السرد، فأخذَ يبرّر صفة (المسكينة)، حين ذهب لشرح الحالة في أبياته وكأنه يسرد قصةً مُشوّقةً بالتتابع الزمني الوصفي والمكاني، فجاء على تبيان الحالة بأنها كثيرة الأسى، والمراد (بأفق الأسى)، استمرار المعاناة ، فالأفقُ مفتوحٌ والذي يسير عليه لا تنتهي معاناته، كونه لا نهايةَ له، فأراد (مؤيد) منها أنَّ الأسى الذي تعانيه الروح (المسكينة)، لا تنتهي معاناتها.
واستمراراً للوصف العام، كان المشهد الأول لقصيدة (مؤيد عبد القادر) شبه ثابت في وصفه لما تعانيه (المسكينة) الخطى، وهي كناية عن الروح أي الإنسان مَثّلَهُ مؤيد بالخطى، فهي التي تأخذ الإنسان حيث يريد، وذهب لشرح ما تعاني، حسب تبدّل حالتها من (الجلوس في الأسى إلى استدراج الأحزان)، تلك التي أخذت شكل المشهد الأول من القصيدة، وكأن مؤيد أراد لها أن تكون قصيدة أحزان، أو رثاء يرثي من خلالها ما سقط من نفوس البشر من الصفات الحميدة وبات الأسى هو الطابع العام للنفس البشرية. ثم ليُسْدِلَ الستار على مشهده الحزين، على أنَّ ذلك الأفق المفتوح، ما هو إلا محال يسير وراءَه الناس نحو اللاشيء، وتلك تعدو أكثر من انفعالات تخلقها الحالة التي عليها النفس البشرية، وهي تحاولُ الخلاصَ مما تعاني. وعلى الرغم من الحزن الطاغي على المشهد في مطلع قصيدة مؤيد عبد القادر، إلا أنها كانت تتمثّل بالتوصيف الدقيق والمناسب للحالة، ومؤيد لا يعاب عليه ما يكتب، فهو أستاذ في التوصيف والدلالة، وله باع طويل في الميدان الثقافي الأدبي بكل تفاصيله.
فامشِ كما يمشي الدبيبُ
على جبينِ البيدِ رَملاً
سفَّ بالكسلِ المُدجّنِ
في مسافاتٍ من البلوى طوالِ
لا أدريّنَ، لمن أمدّ يدَ الزمام:
للموتِ مقتعداً سماواتي،
على كثبٍ حيالي،
أمْ للتي صارت،
برغمِ مسيرةِ الأمسِ الطويلِ حبيبتي،
أم للمُكدّسِ من خيالي؟
القصيدةُ تحمل الطابع الوصفي، وهي متكاملة من ناحية المعنى والشكل التكويني المتمثّل بعناصر البناء، ناهيك عن أنَّ موسيقاها تتناغم والمفردات التي وظفها (مؤيد عبد القادر) وهي لوحةٌ نابعةٌ من صميم معاناة جسّد مؤيد ومن خلالها صورةً تتناسب وحبكة الحدث التي شكّل منها القصيدة.
استكمالاً للمعنى الذي ضمّنه المشهد الأول مطلع قصيدته، (وأنا فضلتُ أنْ أُجزئ القصيدة إلى ثلاثة مشاهد)، لتكون القراءةُ هادفةً مستوفيةً لجوانب الإبداع فيها، فقد عَرِفنا (مؤيد عبد القادر) مبدعاً في فنون الصحافة وكاتباً من الطراز الأول بفنه وإبداعه في كل المفاصل التي كتب عنها. وبالعودة للقصيدة، نجد أنه قد أكثرَ من الوصف الدلالي، إذ وظّفَ (التوصيف المُقترن بالدلالة للوصل إلى تثبيت المعنى)، وهي طريقةٌ رائعةٌ مُبسّطَةُ يكتب بها حتى الكبار من الشعراء الرواد ومن وَرَثَ إبداعَهم من جيل الستينيات. تمنح القصيدة معنىً شفيفاً يسهّلُ على القارئ فهمَه دون تعقيد أو استخدام ألفاظ صعبة، تحيلُ القصيدةَ، وإن كانت تندرجُ في خانة الإبداع، إلى تصوّرٍ جامدٍ مُنْفرٍ عند القارئ سرعان ما يغادرها. وأرى أنَّ هذا الوصفَ، لا ينطبق على ما جاء به مؤيد عبد القادر من صورةٍ حسيّةٍ رائعةٍ اقترنت بدلالة الحركة الفعلية للمشهد الشعري.
أما المفردات الدالة التي تضمنتها القصيدة، فتنم عن حركة بطيئة تحمل ذاك الأسى الذي أشرنا إليه في المشهد الأول، وهي دلالة حية تخلق تفاعلاً وتواصلاً ما بين القصيدة والمتلقي (يمشي الدبيب، جبين البيد، الكسل المدجّن، مسافات من البلوى، طوال)،كما تمنح الاستمرار للحدث الذي مَثّلهُ مؤيد (بالأسى) أو التيه (جبين البيد)، (دبيب) ومشي الصحراء (البيد) يكون على شاكلة الدبيب، وهو كما معروف (للنمل وما شابهه من الكائنات)، ودائماً ما تكون طريقة المشي في الصحارى، متكاسلةً لطول المسافة ربما، أو لصعوبة الحركة وسط الرمال، وهي التي أراد منها مؤيد، أن يصف حال من استطالت عليه الأحداث الثِقال المؤلمة، حينذاك تكون بلوى (في مسافاتٍ من البلوى طوال) تعبيرٌ مجازيٌّ رائعٌ يجسّدُ صورةً شعريّةً هائلةَ المعاني، وظّفها مؤيد بدقة وعناية.
إلا أنه في نهاية المشهد، غيّرَ مسار القصيدة نحو الحيرى، وكتب بطريقةِ مَنْ يبحث عن جواب ربما، وهذه الصورة أكثر إبداعاً من الأولى، التي أطال فيها الأسى، بحيث أدخلَ من خلال أبياتهِ القارئَ في دهشةِ الحدث أو (الحبكة)، التي بنى عليها المشهدَ الشعريَّ، فتوقّفَ عند حيرة السؤال، الذي يحمل في طيّاتهِ العديدَ من التساؤلات، أيْ أنَّ مؤيد أرادَ للقارئ أنْ يعمل التفكير في تشعّبات القصيدة ومضامينها، وهل أن السؤالَ موجّهٌ للقارئ ليقفَ على جواب، أو أن مؤيداً نفسه سيجيب عن تلك التساؤلات في نهاية القصيدة، ما يجبر المتلّقي أنْ يُكمل القراءة والتفاعل مع أبياتها والعيش في أجواء الأسى والحيرى والدهشة التي أرادها مؤيد عبد القادر (لا أدرينَ لمن أمد يد الزمام)، دهشة تامة تلفّ هذا البيت، الذي أودعه مؤيد في عقل القارئ ليأخذهَ نحو متاهاتٍ لا خلاص منها، إلأ بتأويل الحدث الذي لا يكتمل من الدهشة على اليقين، ليتّضحَ في البيت الأخير من المشهد، أنّ هناكَ من كان يخاطبها مؤيد ضمنيّاً في القصيدة، ولم تُعرف هويّتَها الصريحة وبقيت خافيةً على المتلّقي الذي عرف أنَّ هناك مُخاطباً غائباً لم تظهر ملامحه حتى الآن، ثم ليقفَ عند تداخل المعاني والتوصيف في البيت الأخير، ليعودَ مؤيد ويسحب القارىءَ ليعيدَهُ إلى الدهشة والحيرى ثانيةً، وليتّضحَ أمامه المشهد، بأنه لا زال في دائرة الدهشة، ولم يصل لنتيجةٍ تُذكر، وهو مدعاة لاستكمال الحدث الذي ربما يتضمّنه المشهد الأخير، أقول ربما، ذلك تصوّر القارئ أنقله هنا بدلالةِ (ربما)..
يا مُضْرمَ النيرانِ في كبدِ الرؤى،
يا مستحيلاً ضجَّ من غَليانهِ بردُ احتمالي
مَنْ يَقْتحمْ نضوَ افتعالِ دقائقي
ليكونَ محضَ مُسابقٍ خطوي،
قريباً من خيالي
يستنفرُ الإدقاعَ والشَبَعَ الحقيرَ،
مُسْتَوْفزاً رؤيا حبيبٍ لا يُبالي
إنْ كنتُ كومةَ ميّتٍ، أو بعضَ وَشْلٍ
في كفوفِ الارتحالِ
وَهْماً يلازمهُ خيالي !
جاء (مؤيد) بالنداء، مُتداخلاً مع التوصيف، ليُشَكّلَ منه مزيجاً من التهويل في شكل الخطاب للمنادى، وللتوصيف الدقيق، مستخدماً الصورةَ الحسيّةَ الملموسةَ، والتوصيف الدلالي لخلق مشهد أبعد ما يكون عن الرتابة، لذلك وظّف المُنادى في مطلع المشهد الأخير للدلالة على وقوع الحدث، كدالةٍ فعليةٍ، واستخدمَ عناصر وأدوات التناظر والتشابه ليرسمَ الصورةَ التي أفاقَ على مشهد رؤيتها القارئُ ليرى أنَّ الحدثَ وقعَ واستوفى شروطه (يا مُضِرمَ النيران، يا مستحيلاً، كبد الرؤى، غليانه، برد احتمالي) فيما وظّفَ مؤيد المتناقضات بشكلٍ رائعٍ وجميلٍ، ليُكْمِلَ معنى التضاد والتشابه الذي جاء به في بداية المشهد (مسابقاً خطوي، قريباً من خيالي، الإدقاع، الشَبَع الحقير، حبيب لا يبالي) تلك المترادفات في المعنى، كلمات تخلق جوّاً من الجمال والحيرى عند القارئ لا يخرج منها إلا بتأويل الحدث (الحبكة)، الذي أبدع فيها (مؤيد) ليصنعَ لنا لوحةً جميلةً هادفةً، رسمَها بحيرى التساؤلات الضمنيّة في أبياتها، استدرجني (مؤيدُ) والقارئَ معي إلى قاعِ الدهشةِ والغرابة، ليتنامى في أذهاننا تساؤلٌ مفادهُ: هل هي قصيدةُ غزلٍ أم تحريضٍ أم استنكارٍ، أم تراها شكوى من مُحّب؟
لأصلَ وعن قناعة ولا أدري كيف يفسّرها القارىء، لأقولَ إنها قصيدةُ شكوى و(الشكوى من الشعر الوجداني)، بدلالة التوصيف الدال على طبيعة التوظيف الدلالي واستخدام عناصر التأويل والاستبدال ليرسمَ من خلالها (مؤيد عبد القادر) صورةً شعريٍةً رائعةً، استطاع من خلالها إيهام القراء، بأنها قصيدة استنكار لواقعٍ مشبعٍ بالأسى، ليتّضحَ بعدها، أنها غزل وشكوى؟
ذلك هو التوظيف الدلالي الرائع لمن يستطيع أن يستخدمه بإتقان، ومؤيد أتقنَ توظيف وتجسيد الصورة الشعرية المشبّعة بالدلالة الوصفية، ليستكملَ المشهد الشعري الرصين الذي بنى عليه قصيدته التي (نسي اسمها كما ذكر لأنه (ختير)
لم يركن مؤيد عبد القادر لحالٍ ثابتةٍ في قصيدته، فجعل تَبدّل الحالة العامة أو الشكل البنائي للقصيدة غير ثابت على حالةٍ واحدةٍ يصل إليها المتلقي، ما يثير الاستغرابَ عند القارئ حول المُبتغى والمعنى اللذين أرادهما الشاعر، إلا أن تلك الدهشة وذلك الاستغراب، يتبددان عند النهاية. والمشهد الأخير من القصيدة، الذي ختمه مؤيد عبد القادر بمخاطبة (متيِّمَته البعيدةِ)..
مهلاً، متيِّمتي البعيدةُ، لم يَزَل
حُلُمي يُطاردُ وجنتَيكِ،
لا يعبأنَّ بما تمرُّ من الليالي
في دربيَ المسكونِ في وَهَداتِها.