18 ديسمبر، 2024 9:14 م

إذا تأملنا جيداً أي تجمعٍ للأطفال في روضة على سبيل المثال، سنجد العديد منهم في حالة ٍ من الإنسجام، ولا يخلو الأمر من بعض المشاحنات والغيرة كسلوكٍ طبيعي فيما بينهم وحتى ما بين الإخوة، لكن في الوقت الذي يتم فيه الحديث عن التربية خاصةً تربية الذكور، تذكر حالة من التمييز لصالحه فيما يتم فرض الكثير من القيود على الإناث وهذا فعلاً جزءٌ من الواقع في مجتمعاتنا، لكننا نرى دوماً الصورة مجتزئة دون أن نلاحظ كافة أبعادها، فالصبي الذي يحظى (شكلياً) بهذه الإمتيازات يكبر في أوساط ٍ متناقضة تخلق حالةً من الصراع بداخله، وينشأ على مفاهيم مشوهة تحيط بسلوكه وصورته التي ينبغي أن يكون عليها مابين ضوابط دينية وأخلاقية يجب عليه التحلي بها، وأعراف مجتمعية لا تمانع من أن يفعل ما يحلو له مع أن الدين والأخلاق تسري مفاهيمهما على الجميع..

وعندما يخرج هذا الرجل الشاب إلى الحياة ويحتك بها فعلياً يجد أن معظم ما نشأ عليه في محيطه يحتاج إلى إعادة النظر في مصداقيته، بين مبادىء ثابتة ومفاهيم متغيرة بتغير الزمن والمصالح والموجات والتيارات الفكرية ولا ضحية فيها سوى الإنسان بكل تأكيد..

وسيجد هذا الرجل الذي ولد ممتلكاً للإمتيازات (كما يشاع) في بعض الأوساط في بلادنا نفسه مكبلاً بلا صوت، خائفاً من التغيير أو إبداء رأيه حتى في عمله أو حياته الشخصية، كما سيجد أنه محرومٌ من التعبير عن مشاعره أو من الجهر بحبه، فالمجتمع الذي أعطاه صلاحية أن يكون له نزوات محرمة لأنها عابرة (وسيفيق منها لاحقاً) يمنعه من أن يحب بصدق، ويمنعه من التعلق بإمرأة أو التمسك بها أو البكاء لأجلها لإعتباره ذلك ضعفاً يقلل من رجولته، فالحب النقي ضعف بينما المغامرة (فحولة) أو (شقاوة) كما جرى العرف، وعند رغبته الجدية في الإرتباط والتي غالباً ما تكون بطريقة تقليدية بعيدة عن العواطف سيجد أمامه قائمةً طويلة من المتطلبات التي تفوق استطاعته، والتي تحدد بشكل ٍ أو بآخر مفهوم (الرجولة) لدى الكثيرين (وإن أنكروا ذلك) كي لا يظهروا بصورة تعكس نظرتهم المادية الجشعة التي تحول العلاقات إلى (صفقات) بطريقة ٍمنمقة اجتماعياً..

أما الأنثى التي تكبر مع الكثير من الممنوعات والأوامر فتعيش بسبب بيئتها حالةً من الفصام، وتلحظ ذلك التخبط داخل منزلها ومع أفراد أسرتها واختياراتهم قبل أن تنتقل إلى خارجه، سواءاً كان ذلك على الشاشات أو مواقع التواصل الإجتماعي أو في المدارس وحتى الشوارع بين الملصقات الدعائية ولوحات الإعلانات الضخمة التي تحتلها نماذج لا تشبه ما نشأت عليه و(يفترض) أنها النقيض له، لكنها بشكلٍ أو بآخر هي ما يلقى إقبالاً واسعاً ورواجاً كبيراً بين الناس التي (تنتقده)، وهي ما (يجب) أن تكون عليه لتصبح فتاةً (عصرية) تزيد (فرصتها) في الحصول على (وظيفة) أفضل تجعلها بالتالي (مرغوبةً للزواج) مع (وجوب احتفاظها) بالنمط التقليدي المحافظ الذي تربت عليه..

وحتى في حال استطاع كلٌ منهما المرور بكل تلك المراحل المشابهة للمتاهة، سيدخل كلاهما لاحقاً في حالةٍ من الصراع الداخلي بين مورد رزقه الذي يعيل من خلاله أسرته حتى وإن كان مليئاً بالسلبيات التي تؤرقه، وبين طموحه وشغفه الذي أصبح مكبلاً لأنه لا يملك قراره بسبب التزاماته، والتي تضعهما تحت ضغط ٍ نفسي كبير يصعب التعبير عنه ولا خيار لهما سوى احتماله، وليجدا أن أغلب الأحاديث أو الصور التي تكونت في ذهنهما وصاحبت نشأتهما هي محض أوهام، فالمميزات التي أشيعت عن الرجل لمجرد أنه ولد ذكراً في مجتمعاتنا أو الصورة التي توضع المرأة فيها كأميرة أو (تفاحة مشتهاة) جردتهم من إنسانيتهم ببطىء فباتوا لا يشعرون بها أو بكيانهم، وسقطت منهم في الطريق عاطفتهم وأحلامهم وطموحاتهم وتحولوا لمجرد رقمٍ في الإحصائيات لا يقدم أو يؤخر، يتحدث العديدون على الشاشات بإسمهم دون أن يفوضهم أحد بذلك ودون أن يحكوا عن واقع مايعيشونه، يستفيقون على مواجهة لم يختاروها مع الساسة والمثقفين وبائعي الخضار وسائقي الحافلات ورب العمل وباقي أفراد العائلة، يتخيلونهم جميعاً يحيطون بهم ويوبخونهم بصوتٍ عالٍ في نفس الوقت بينما يستلقي كلُ منهما بصمت في فراشه محاولاً أن يغمض عينيه ليسترخي، وترتسم على وجهه ابتسامة سخريةٍ مرة من مجتمعٍ متناقض يبدو كمصحة عقلية، رسم له حياته ومفاهيمه ثم يحاسبه لأنه اتبعها، ويعيره ب(مزاياه) ويؤنبه لأنه لم يثر عليها، كعادته في صنع النفاق والفساد والتشكي منه واقصاء العقلاء والندب عليهم بعد وفاتهم..