عندما مات جمال عبد الناصر شيعه 30 مليون مصري، وعندما مات عبد الحليم ، شيعه 30 مليون مصري أيضاً، وعندما مات علي حسيب، شيعه كل ابناء المدينة، فما الذي قدمه علي حسيب للمدينة حتى يحظى بهذا الاهتمام؟ علما أنه لا يملك شيئاً من حيث الماديات. ولا يملك شيئاً من حيث الفكر (مجنون). ولا يملك شيئاً من حيث الوجاهة ، فلا هو بشيخ عشيرة يحضر مناسبات الشيوخ وابنائهم واقاربهم الاغنياء منهم، ويرسل غيره لحضور مناسبات الفقراء. ولا هو بموظف حكومي كبير جمع أموالا من خلال طرق عديدة ولا حتى موظف صغير جمع أموالا بنفس الطرق العديدة التي استخدمها الموظف الكبير. ولا هو عضو برلمان ولا عضو مجلس محافظة ولا ولا.
فمن هو علي حسيب إذن؟
علي حسيب هو ذلك المجنون الذي لم يفته يوم للسير في أية جنازة تخرج من المدينة. فهو أول الحاضرين في أيام مراسيم الفاتحة. ولم تفته أية منسابة فرح، فهو أول الحاضرين.
علي حسيب الذي يمتلك كل المدينة، فهو يأكل في كل مكان دون أن يدفع مبلغ الطعام. ويمتلك كل سيارات المدينة، فهو يركب احسن السيارات بمجرد ان يؤشر بيده، ويمتلك كل شوارع المدينة فهو ينام على اي رصيف يحبه عندما يغلبه النوم.
علي حسيب الذي اعتقل اثناء الانتفاضة الشعبانية في معسكر المحاويل، وقد عُذب كثيراً، ويكاد يكون هو الوحيد الذي نجا من الموت باعجوبة. حيث اطلق سراحه بعد شهر من الاعتقال تقريباً.
علي حسيب كان فعلاً بالضد من حزب البعث وأزلامه، وخير شاهد على ذلك: أنه عندما زار أمين سر فرع وعضو فرع بابل المدينة في عصر أحد الأيام، وبينما عم الصمت مكان تواجدهم في سوق المدينة، انطلق صوت علي حسيب مدوياً وبكلمته التي اشتهر بها : (حيوااااااااااااان) (حيوااااااااان) ( حيوااااااااان)، فانصدم أمين سر الفرع ونظر الى علي حسيب وتكاد عيناه تتطاير من الشرر، لكن ، أنقذ الموقف، عضو الفرع وهو من ابناء المدينة عندما همس باذن أمين سر الفرع حيث اخبره بان هذا الشخص مجنون، مما جعل امين سر الفرع يضحك ضحكة صفراء ليداري حرجه أمام الجمهور.
علي حسيب الذي وقف يوما ما بالقرب مني عندما كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن زمن الاشتراكية عندما ادعى الاسلاميون أن الإسلام اشتراكي والنبي اشتراكي والامام على ابو الاشتراكية. ولما انتهت الاشتراكية وحلت محلها الديموقراطية، قال الاسلاميون أن الاسلام ديموقراطي والرسول ديموقراطي والامام علي أبو الديموقراطية. انطلق صوت علي حسيب مدوياً وبكلمته التي اشتهر بها : (حيوااااااااان) (حيواااااااااان) ( حيوااااااااان)، لكن لم ينصدم أحد ولم ينظر أحد الى احد ولم يهمس أحد بأذن أحد.((أحدٌ أحدْ)).
علي حسيب الذي سألته ـ هازئاً ـ يوما ما لماذا لا يتطوع في جيش القدس أو في الجيش الشعبي لأن الوطن بحاجة للجميع, انطلق صوت علي حسيب مدوياً وبكلمته الثانية التي كاد أن يشتهر بها : ((درووووح آني زووووج؟!)).
علي حسيب الذي كان يتعاطف مع كل من يتعرض للظلم من قبل البعث والرفاق، لكنه مجنون، فلم يُسأل عن هذا التعاطف من قبل الشعبة الحزبية، وله مواقف كثيرة في هذا الاتجاه.
علي حسيب هو الوحيد الذي رأى أخي كاظم في المعتقل، والوحيد الذي كان يواسني على موت أخي. والوحيد الذي كان يذكره لي في كل لقاء بيننا. ويذكر اسم أخي كاظم بحسرة شديدة أشعر معها بمدى حزنه عليه. حيث كان يقول: (( كاظم صديقي)).
اسألكم بالله، مع هذا كله، ألا يستحق علي حسيب أن تكون حياته كلها خدمة جهادية؟ ألا يستحق أن يكون ضمن أعضاء مؤسسة السجناء السياسيين التي دخل عضويتها آلاف المزورين. ولو أوردنا قصص هؤلاء المزورين لأريناكم العجب. ولطال المقال علينا وعليكم، لكن أنا واثق بأنكم تعرفون كثيراً منها.
علي حسيب، مات اليوم وترك فينا ذكريات يصعب نسيانها او تجاهلها. فتعساً لظالميه وشكراً لأهالي المدينة التي شيعته ذلك التشييع المشرف مما يدل على أن الناس مازالوا بخير وعلى هذا نتأمل خيراً في تغلب الخير أخيراً والانتصار على الشر المتمثل بالنفعية والمصلحية الذي بدأ يطوق حياتنا وممارساتنا.