ربما يمكن تقييم ديمقراطية النظام السياسي في أي بلد بمدى إهتمامه بالثقافة النفسية ، فكلما إزداد النظام عداءً للثقافة النفسية ، أكد على نوازعه الإستبدادية ودوافعه الطغيانية.
فالأنظمة الديكتاتورية تعادي الثقافة النفسية والقائمين عليها والمهتمين بها ، وتستخدمهم لأغراضها وحسب ، وتحاول أن توظفهم ليكونوا أدواتها لتسهيل إستعباد الجماهير وإمتلاكهم.
ويكون التجهيل النفسي من الخطوات المهمة والأساسية اللازمة لتحقيق أعلى درجات الأمية السلوكية عند الناس ، وبهذا يفقدون قدرات الفهم والتقدير الصحيح لما يرونه من تطورات وأحداث وسلوكيات يقوم بها النظام.
والمختصون النفسيون يعرفون السلوك وبواعثه وبوصلة إتجاهاته , وما سينجم عنه من تداعيات وتطورات ، ولهذا فموقفهم سيكون دقيقا وصائبا في أكثر الأحيان ، مما يضع النظام المستبد في حرج .
كما أن المستبد يعاني من الإضطرابات السلوكية والإنحرافات الشخصية ، ولديه عاهة خفية تقرر ما يقوم به ، فتراه في خشية من المختص النفسي ويسعى لتعويقه وإبعاده عن بلده وتحجيم تماسه مع الشعب.
ولهذا تشيع في الأنظمة الديكتاتورية نشاطات الشعوذة والسحر , وغيرها من النشاطات اللاعلمية ، لأنها تحقق درجة مطلوبة من التشويش والتعويق للثقافة النفسية ، وتوفر المسوغات والعناصر اللازمة لمحاربتها.
أما في المجتمعات الديمقراطية ، فالثقافة النفسية لها دورها وأهميتها وقيمتها الإجتماعية ، حيث يتم توعية الناس في البيت والمدرسة والشارع ، وهناك برامج كبيرة ومتطورة لتعزيز الثقافة النفسية في المجتمع.
وترى المؤسسات المعنية بالتثقيف النفسي فاعلة في وسائل الإعلام والمجتمع ، ولا تخلو صحيفة من مقالة في موضوع نفسي أو تعالج مشكلة نفسية وتضع لها الحلول المناسبة.
ذلك أن الثقافة النفسية ركن مهم من أركان المعرفة البشرية , اللازمة لإتخاذ القرار السليم والخيار الناضج الصحيح.
والمجتمعات الغير مثقفة نفسيا تكون ضعيفة وممعنة في جهلها وأخطائها وسلوكياتها السلبية الضارة بأجيالها ، ولا يمكنها أن تقيم نظام حكم سياسي يحقق مصالحها ، لأنها ستسمح للمضطربين سلوكيا وأخلاقيا من تسنم مراكز القيادة والتعبير عن نوازعهم الشريرة ، وما يساهم بإرضاء رغباتهم المنحرفة وإضطرابات شخصياتهم وعوج أفكارهم ودوافعهم النزقة.
ومن الواضح أن أي مسؤول في الدول الديمقراطية يعرف أنه تحت أنظار الذين يقيّمون كل ما يبدر عنه ويحللونه وفقا للعلوم السلوكية والنفسية , ولهذا فأنه يتحلى بأعلى درجات الإنضباط والدقة فيما يقوله ويشير إليه بلغته وحركة بدنه.
أما في مجتمعات الإستبداد فيتم إضفاء هالة التقديس والنزاهة والعصمة على الطاغية حتى تعمى الأبصار , فلا تراه وإنما تتخيله وتنضوي تحت إرادته الشرسة وقبضته الحديدية , فتحسبه صاحب دلالات وأنوار سماوية , وعليها أن تسبّح بإسمه , وتتغنى به وبرسمه الفائق الإنتشار والمهيمن على المكان والزمان.
ولهذا فأن الأنظمة العربية التي تسعى للديمقراطية يجب أن تهتم بالثقافة النفسية , وتؤازر المختصين بالعلوم النفسية ، لتحقيق القدرات النفسية اللازمة لبناء المجتمع المعاصر ، القادر على الوصول إلى آماله وطموحاته وتقرير مصيره ومستقبله.
فهل عندنا ثقافة نفسية؟!!
د-صادق السامرائي