الإمام الحسين (عليه السلام) وارث الأنبياء والمرسلين والصديقين ، ولذلك كان شعاره شعارهم ، وهدفه هدفهم ، وعنوان وهدف نهضته هو (الإصلاح) امتداداً لمسيرة الإصلاح الإلهي ، ومشروعا لإعادة مسيرة الرسالة إلى بوصلة الإسلام الأصيل بعد أن تعرض ذلك الإسلام إلى تشويه وتحريف في مقاصده وأهدافه ومبادئه على يدي حكام الجور وسلاطين اللهو والعبث والظلم ، ولم تثنه المخاطر والتهديدات والمصير المحتوم للمصلحين بالقتل لأنه لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة ..
لم يترك الإمام الحسين (عليه السلام) وسيلة لإيضاح وتبيان ذلك الانحراف السلطوي والاجتماعي ومستوياته الخطيرة إلا واستحضرها لهداية الناس وبيان الموقف الشرعي وإلقاء السمع عليهم لتكون ذكرى لمن كان له قلب وشهادة على إبراء الذمة من الدعوة والنصح والتبليغ ، ولذلك تجده أثناء إلقائه خطبته على جيش الحر الرياحي يبين الحقيقة الدامغة للحكومة المنحرفة ويفضح المتسلطين عليها وجلاوزتها الذين بلغوا من الفساد والظلم مبلغاً لا ينبغي السكوت إزائه ويلقي الحجة على المجتمع (ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله) .
في خطابه الموسوم (الإصلاح رسالة الامام الحسين (عليه السلام)) يستدل سماحة المرجع اليعقوبي على ان الاصلاح هو الهدف الأساسي في حركة الإمام باعتباره الوريث الشرعي والامتداد الحقيقي لرسالات الأنبياء وذلك من جهتين ، الاولى هي ما نطقت به الزيارة المشهورة المروية عن الائمة (عليهم السلام) والمعروفة بزيارة وارث ، ومن جهة ثانية هو اجتماع هدف رسالات الأنبياء جميعا في رسالة الامام الحسين (عليه السلام) ، ويستدل المرجع اليعقوبي لتوضيح هذه الفكرة عبر استنطاق محور رسالات الأنبياء وعلى لسانهم الشريف من خلال آيات القرآن الكريم ( وما كانت رسالات الأنبياء ؟ ، لقد لخصها نبي الله شعيب عليه السلام في قوله تعالى { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } ( هود: 88) ، هذه رسالة الانبياء جميعا (الاصلاح) ).
ويبين المرجع اليعقوبي أن الاليات التي يتحرك بها الانبياء لتحقيق هذا الهدف الالهي الكبير هي آليات مختلفة بحسب الزمان والمكان والظروف الموضوعية المحيطة بهم ، إلا أن هذا الهدف مشترك مع تنوع ادوارهم (هذه هي رسالة الأنبياء جميعا الاصلاح وان تنوعت آليات عملهم واختلفت شرائعهم من حيث الإجمال والتفصيل).
الرسالات السماوية الإصلاحية انتهت صفحاتها نبوياً برحيل الرسول الخاتم (محمد صلى الله عليه واله) الا انها استمرت بتبليغ الهي من بعده في مشروع الامامة والخلافة الإلهية التي تمثلت بوصيه وخليفته الشرعي امير المؤمنين علي (عليه السلام) بنص ايه التبليغ { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } (المائدة :67) .
ويؤكد الامام علي (عليه السلام) على وحدة هذه الرسالة الإلهية (الإصلاح) وانها المشروع السامي لحركته وتصديه لقيادة شؤون الأمة والخلافة الشرعية بقوله (عليه السلام): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك. فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك ) .
هكذا يتضح أن مشروع الإمامة هو مكمل لمشروع الرسالات السماوية في تحقيق الهدف الإلهي الأسمى وهو الاصلاح ، ولان الارض لا تخلو من حجة فإن مشروع الإصلاح مستمر وقائم في الائمة المعصومين وفي غيبة قائمهم من خلال نوابه العامين من العلماء المجتهدين الرساليين المصلحين.
وراثة الامام الحسين (عليه السلام) للأنبياء وبالتالي وراثته لرسالاتهم سوف يجسده الامام من خلال نهضته المباركة في كربلاء ، وقد أوضحها (عليه السلام) في مواقف عدة كما يبين المرجع اليعقوبي وذلك من خلال :
1- خطاباته التي عرف من خلالها بأهداف خروجه المبارك .
2- سجّله في وصيته التي دونها وختمها وأودعها عند اخيه محمد بن الحنفية : (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام).
3- في خطبته امام الحر الرياحي .
ومن خلال مقارنته بين كلام الامام علي (عليه السلام) وخطب ولده الحسين (عليه السلام) يرى المرجع اليعقوبي وجود وحدة بالهدف بين الإمامين (يظهر من كلمة امير المؤمنين وولده الحسين (عليهما السلام) التواصل والتطابق في الهدف ) , ثم يصل سماحته الى حقيقة مهمة في فلسفة الإصلاح وهو شموليته لجميع مفاصل الحياة وعدم اقتصاره على جانب معين يتم اختزال النهضة الحسينية فيه وتحجيمها في حدوده ، ويعبر سماحته عن هذه الرؤيا بوضوح ( ان الاصلاح الذي سعى إليه المعصومون (عليهم السلام) وبذلوا وسعهم لتحقيقه هو مشروع متكامل لا يختص بالأمور الدينية بل يشمل جميع نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية ) .
ثم يبين سماحة المرجع اليعقوبي نتائج وثمار المشروع الإصلاحي المتكامل من الانبياء والائمة ومن ينوب عنهم في زمن الغيبة من العلماء العاملين وهو ما يميز الخط الرسالي الاصلاحي الحركي في موضوع نيابة المعصومين (عليهم السلام) ، ويبين الخط المرجعي الأصلح من بعدهم لمواصلة الرسالة الإسلامية ومشروعها الأساسي والهدف الرئيسي من القيادة الإسلامية ، ويرد كذلك من خلالها على دعاوى العلمانيين وأشباههم من الذين يدعون لفصل الدين عن حياة المجتمع وحصره في دائرة ضيقة وهو العبادة الشخصية ، ويحاولون بمشاريعهم الهدامة استئصال أي دور للدين أو مشروع لتفعيله في حياة وقوانين المجتمع الإسلامي .
ومن الحقائق التي يفصح عنها الإعلان الحسيني في وصية الإمام الحسين (عليه السلام) هي أن شريعة الله وإصلاح المجتمع وظيفة لا ينبغي التقاعس عن إحيائها لأنها هدف الرسالة ومشروعها الأكبر وأن تلك الوظيفة وآليات تطبيقها وتفعيلها يجب أن تكون خاضعة للميزان والتقييم على ضوء سيرة وسنة النبي الأكرم واله الأطهار (صلوات الله عليهم) ، والإمام من خلال تشديده على القول (وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ) يؤشر على الظاهرة الخطيرة المتمثلة بالانحراف عن معالم الرسالة الإلهية ، وهو الواقع الذي افرز الموقف الذي اقتبسه الإمام الحسين من سيرة أبيه أمير المؤمنين (عليهما السلام) عندما وقف ليعلن رفضه لأهواء من ساومه على كرسي الخلافة بعد مقتل الخليفة الثاني وأعلنوا بصراحة عن استعدادهم لتسليم القيادة إلى الإمام علي (عليه السلام) مقابل أن يسكت الإمام وان يغض النظر عن المظالم والانحراف الذي أصاب كيان الأمة بعد رحيل الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله) وتسلط غير المسحقين لقيادة الامة ، ولذلك كان موقف الإمام علي (عليه السلام) حازماً وواضحاً وإعلاناٍ مشهودا للمنهج الإصلاحي الرسالي عندما أوضح إن أنه ملزم وملتزم بحكم القرآن وسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) لا غير وهو ما عجل باستمرار مسلسل الإقصاء والتهميش له وللائمة الهداة من أبنائه على مدى التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلى عباده الصالحين المصلحين.
ويشير الإمام الحسين (عليه السلام) في محاور خطبته للحر الرياحي وجيشه من خلال قوله (وأنا أحق من غير) إلى مسألة مهمة أخرى ، وهي أنه وبحكم وراثته للأنبياء والأوصياء فإنه الأولى بالنهوض وحمل راية الإصلاح لما يمتلكه من مقومات ومرتكزات تكوينية وذاتية قيادية تؤهله لحمل راية الإسلام ومشعل الإصلاح ، وهذا الاستحقاق والشرف والاستعداد باقٍ ببقاء حجج الله في الأرض واستمرار الخلافة الإلهية للائمة المعصومين من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) والمتمثلة بالإمام المهدي(عليه السلام) ومن ينوب عنه في غيبته من العلماء الرساليين العاملين ، لذلك كان هدف تغيير القيادة المنحرفة بالقيادة الصالحة أحد أسمى اهداف النهضة الحسينية ، لأن الاصلاح سوف يكون محدودا على مستوى التأثير وعلى صعيد الموقف لو اقتصر على الجزئيات .
ان تحقيق مشروع الإصلاح المتكامل الذي سعى الإمام الحسين (عليه السلام) اليه وأوضح معالمه بخطبه العديدة في طريقه من مكة الى كربلاء كان قائما على اساس التغيير على عدة أصعدة ، ومن اهم تلك الاصعدة هو موقع القيادة باعتبارها رأس الهرم لمؤسسات الدولة ، وبالتالي لا يمكن إتمام مشروع الإصلاح المتمثل بالقضاء على مظاهر الفساد المالي والاداري وتحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق القوانين والحدود بدون وجود آليات التغيير والقدرة على اتخاذ القرارات وضمان تنفيذها أو وجود شخص المصلح القائد على رأس هرمي القيادة الدينية والسياسية ، خصوصا اذا كان الواقع الاجتماعي على قدر كبير من الهشاشة أو أن ارضية ميدان الاصلاح كانت شبه جرداء ، وتحتاج الى اعادة اعمار النفوس والأفكار قبل التوسع في إصلاح المفاسد الأخرى .
ويؤكد المرجع اليعقوبي على هذا المعنى والمطلب المهم في عملية الإصلاح (إنما يتم الاصلاح ويكمل غايته عندما تصلح قيادتاه الدينية والسياسية ، وتفسد الأمة إذا فسدت مؤسسته الحاكمة ، ولم تقم القيادة الدينية بواجباتها ومسؤولياتها) ، من هنا يمكن فهم مشروع الإصلاح في النهضة الحسينية والدوافع التي أنطلق منها الإمام الحسين (عليه السلام) للخروج والثورة على الحاكم الفاسد ، فالواجب والتكليف الشرعي الذي استنبطه الإمام هو ضرورة التصدي المباشر للسلطة المنحرفة لاستنقاذ الناس من الجهالة والضلالة اللتين كانتا الداء الخطير الذي نهش جسد الامة وأجدب روحها ، حتى وصل الامر بها الى الانقياد الأعمى لقيادتها المنحرفة ومخططاتها والاستسلام لوسائلها الشيطانية لاستعبادهم .
ويرى المرجع اليعقوبي أن عملية الاصلاح اذا لم تأخذ المدى الواسع لها فإنها ( تبقى حركة محدودة ومحجّمة وربما تذوب تدريجياً) ،ويضرب سماحته مثالاً ساطعاً على تلك الرؤية من خلال استعراض الحركة النبوية المباركة والتي لم تبقى تراوح في مكانها بمكة لأن النتيجة كانت ستكون آنذاك القضاء عليها في مهدها نتيجة أساليب قريش الاجرامية ضد المسلمين والبطش بهم قتلاً وتهجيراً وحصاراً ، لذلك لم يبقى الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله) ساكناً ازاء ذلك الظلم وإنما ( كان يسعى لتوسيع دعوته وعرض نفسه على قبائل العرب حتى بايعه الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى ، وأخذ منهم المواثيق في بيعة العقبة الثانية) ، ثم اتخذ الخطوة الأهم في حركة وتاريخ الاسلام والرسالة وهي الانتقال والهجرة من مكة الى المدينة ، وكان ثمار هذه الحركة المباركة أنه (صلى الله عليه وآله) ( أسس دولته المباركة لينشر الإسلام العظيم الى كل الدنيا) .
ومن هذا المنطلق يرفض المرجع اليعقوبي الاتجاه التقليدي في المرجعية الدينية والذي يتخذ منهج العزوف عن استثمار الآليات الممكنة لتشجيع الناس على الالتزام الديني والإصلاح الاجتماعي ، والتقصير في أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو عدم مواجهة الانحراف بداعي العزوف عن التدخل في القضايا السياسية ، ويرى سماحته ان هذا الاتجاه الحوزوي هو تقصير واضح في اداء الرسالة والامانة التي تقع على عاتق القيادات الدينية ، وانزواء لا مبرر له في ظل توفر الامكانيات والظروف المناسبة للتغيير والاصلاح والتي يجب الاستفادة منها لصنع فرص تثبيت الدين وارتقاء المجتمع الى مستوى من الوعي والثقافة الدينية ، وان عواقب هذا الانكماش وخيمة على صعيد العلاقة بين المجتمع والدين ( أما ما دأبت عليه مرجعيات كثيرة على مدى قرون ومقلديهم من الانزواء والانكماش والسلبية والعزوف عن العمل بالآليات الممكنة لإيجاد بيئة مشجعة على الدين والصلاح فإنه تقصير غير مبرر وله عواقب وخيمة ، فلا بد من استثمار كل فرصة لإيجاد هذه البيئة بل صنع الفرص لها وليس انتظارها لاستثمارها) .
ويبرز المرجع اليعقوبي الموقف المسؤول من الامام الحسين (عليه السلام) في مواجهة طغيان وانحراف السلطة السياسية ، وعدم سكوت الامام عن فساد المتصدين لإدارة الدولة ، والذي كلفه تقديم نفسه وال بيته واصحابه وسبي حرم الرسول (صلى اله عليه واله) قرابين للحفاظ على الدين واصلاح المجتمع الاسلامي (( لم يجد الإمام الحسين (عليه السلام) لنفسه عذراً في القعود عن تصحيح وضع السلطة الحاكمة ومعالجة انحرافاتها بكل ما أتاه الله، فجاد بنفسه الشريفة وبأهل بيته وأصحابه، وعَرَّض حُرَمَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) للسبي بيد الأعداء من بلدٍ إلى بلد ) ، وان الامام كان يمكنه الاحتفاظ بامتيازات مكانته ومقامه الشريف بين المسلمين والاكتفاء بإداء واجباته ووظائفه التقليدية (وكان يمكنه الاكتفاء بموقعه الديني وامتيازاته التي يحظى بها في المجتمع ويكتفي بالحد الأدنى من العمل ) ، الا انه انتفض غضبة لله تعالى ونصرة لدينه بعد أن رأى المنكر والانحراف والفساد السلطوي والظلم والانحدار الذي وصل اليه المجتمع الاسلامي (لكنّه (عليه السلام) وهو سبطه وريحانته ووارثه، أصرَّ على اللحاق بركب جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال (عليه السلام) في خطبته على الحرّ وجيشه (أيّها الناس، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله(.
النهضة التي قام بها الإمام الحسين (عليه السلام) هي نهضة ذات منهاج شامل متكامل ولا تقتصر على معالجة الجزئيات بقدر ما تستهدف تغيير الواقع بكل مفاصله ، وأهم آليات الإصلاح هي العزم على أحداث ذلك التغيير بكل الوسائل المتاحة ، ولكي تحقق النهضة أهدافها كان لابد من أن تشمل عملية الإصلاح القيادة السياسية والدينية فإنهما أساس صلاح الامة وفسادها .
ان كل دعاوى الإصلاح يجب أن تخضع للمعيار الحسيني للإصلاح لإثبات مصداقيتها أو بطلانها ، ومن هذه المعايير أنها تكون خالية من الأطماع والمصالح الشخصية والفئوية الخاصة ، ومن أهم تلك المعايير أن تكون قيادة تلك النهضة أو الثورة أو الانتفاضة قيادة واعية وفوق الشبهات ، فأكمل ما في النهضة الحسينية الخالدة إنها كانت بقيادة أبي الشهداء الحسين (عليه السلام) ، الامام المفترض الطاعة والقيادة الشرعية الرئيسية في زمانها ..