النتائج السياسية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام).
لم يعرف التاريخ القديم والحديث حدثاً كان له هذا الانعكاس الذي كان لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) فقد زلزلت هذه الثورة الأرض من تحت أقدام بني أمية، وهزّت مشاعر المسلمين في كل زمان ومكان، إذ لا زال المسلمون وبعد أربعة وعشرين قرناً من وقوع الواقعة وهم يسمعون صداها في نفوسهم، وكأن الحدث قد وقع بالأمس القريب، إذ لا زالت دماء الشهداء طرية لم تجف لأنها لا زالت حية تطالب بالثأر من القتلة، ولا زال صوت الإمام الحسين مدوياً يسمع في أرجاء كرتنا الأرضية ليّس في كربلاء وحسب، بل في أرجاء العالم.
لقد صدمت البشرية حوادث كثيرة في طول التاريخ وعرضه لكن حادثة واحدة لا زالت توقع في القلوب الصدمة بعد الأخرى، كلما عادت إلى الذاكرة.
فقد ينسى الإنسان موت أعزّ إنسان عليه، لكنه لن ينسى حادثة كربلاء، لن ينسى شهادة ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلك الصورة الفجيعة، ولا تلك الطفولة التي حطمت ضلوعها أرجل الخيل، ولا تلك النساء الخافرات من بنات رسول الله وهنّ أسيرات بأيدي الوحوش الكاسرة. فالحوادث تبقى وتؤثر بمقدار ما تملك من معاني وبما تترك من قيم، ولولا ذلك المخزون القيمي الذي تمتلكه واقعة كربلاء لما كتب لها البقاء كل هذه المدة الطويلة.
وإذا أردنا أن نحصي آثار الواقعة لاحتجنا إلى تخصيص كتاب كامل حول هذا الموضوع لكثرة آثارها وانعكاساتها، لكننا سنقتصر على الآثار السياسية للواقعة والتي يمكننا أن نجمعها تحت ثلاثة عناوين.
أولاً: تعرية الحكم الأموي.
فقد تلبس هذا الحكم بالقناع الديني ردحاً من الزمن، متظاهراً بالإنتماء الديني، وحتى بالقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد تحدثنا في هذا المجال في الفصول المتقدمة وفضحنا الأساليب الملتوية التي اتبعها بنوا أمية في الظهور بالمظهر الديني، وكانت عقيدة الناس في هذا النظام مستندة إلى هذه المظاهر المزيفة، فهذا مسلم بن عمرو الباهلي يجيب على سؤال مسلم بن عقيل عندما سأله من أنت؟ قال له: أنا من عرف الحق إذ تركته، ونصح الأمة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته
وذكر الطبري أيضاً أنّ الإمام الحسين كان يقرأ الآية [ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ô مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ] فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تراقب أصحاب الإمام الحسين فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون مُيزنا منكم، ثم أنه قال لبرير بن خضير (من أصحاب الإمام) إنّا لله عزّ عليّ، هلكت والله، هلكت والله
وهذا مسكين الدرامي يقول في يزيد وولايته على المسلمين:
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر*****ومــــــروان أم ماذا يقــــول سعيد
بنـــــي خــــــلفاء الله فــــهلا فــــإنما*****يـــــبوئها الرحـــــمن حيث يـريــدُ
إذا المنـــــــبر الغربي خـــــلاه ربـــــه*****فـــــإن أميـــــر المـــــؤمنين يـــــــزيد
وكل من كان في معسكر ابن زياد سمع مقالة عمر بن سعد يوم عاشوراء عندما أطلق صفارة الهجوم قائلاً: يا خيل الله اركبي وابشري(3)، يعني أبشري بالجنة. وهذه هي النظرة العامة عن الحكم الأموي، وهناك أمثلة عديدة، لا مجال لذكرها، لأن بحثنا يتمحور حول أثر ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في تغيير هذه النظرة.
ويكفي للتدليل على عظمة الثورة وعظمة آثارها في تعرية الحكم الأموي عندما نسمع لهذه المقولة: “ضحى بنو أمية بالدين يوم كربلاء” والتي أصبحت مثلاً رائجاً يردده الكبار والصغار، الأعداء والأصدقاء.
يقول أبو العباس المبرد: “كان يُقال ضحى بنو حرب بالدين يوم كربلاء، وضحى بنو مروان بالمروءة يوم العقر (ثم يستدرك المبرد قائلاً) يوم كربلاء، يوم الحسين بن علي بن أبي طالب وأصحابه، ويوم العقر؛ يوم قُتل يزيد بن المهلب وأصحابه وعبارة “كان يُقال” يطلق على المقولات الشائعة التي تجري مجرى الأمثلة. وأصبح هذا المثل يتردد على ألسن الشعراء والأدباء، ففي الأغاني ذكر أبو الفرج الأصفهاني عن حفص الأموي قال: كنت اختلف إلى كثير أترّوى شعره، قال: فوالله إني لعنده يوماً إذ وقف عليه واقف فقال: قُتل آل المهلّب بالعقر فقال: ما أجلّ الخطب! ضحى آل أبي سفيان بالدين يوم الطف، وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر ! ثم انتفخت عيناه باكياً
وذكر ابن خلكان : قال الكلبي: نشأت والناس يقولون ضحّى بنو أمية بالدين يوم كربلاء، وبالكرم يوم العقر
فقد عرّتهم كربلاء أية تعرية حتى صاروا مثلاً في التاريخ.
فأصبح أولئك الذين يدعون القرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قتلة لأولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغ صدى الفاجعة إلى البيت الأموي.
يذكر الطبري هذه الحوادث عندما وصلت سبايا أهل البيت إلى الشام أتى يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم فقال للموكلين بالأسرى ما صنعتم، فذكروا له ما فعلوا، فقال لهم: حُجبتم عن محمد يوم القيامة لن أجامعكم على أمرٍ أبداً، ثم قام فانصرف، ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه الحديث، قال الراوي: فسمعتُ دوي الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كُربز وكانت تحت يزيد بن معاوية فتقنعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله قال: نعم فادعولي عليه وحدّى على ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصريخة قريش عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله ثم أذن للناس فدخلوا والرأس بين يديه ومع يزيد قضيب فهو ينكث به في ثغره ثم قال: إنّ هذا وإيانا كما قال الحصين ابن الحُمام المُرّيّ.
يفلقن هاماً من رجال أحـــبة*****إلينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُقال له أبو برزة الأسلمي أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين، أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرشفه أما أنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شفيعه ثم قام فولى .
ولم يتحقق هذا الهدف إلاّ نتيجة الإعلام المكثف الذي قام به الإمام الحسين (عليه السلام) ومن بعده أخته العقيلة زينب وولده الإمام زين العابدين في الكوفة والشام، فقد كانت لخطبة الإمام زين العابدين في مجلس يزيد بمثابة الصاعقة على الحكم الأموي، وجعل هذا الحكم يترنح تحت وابل الكلمات التي أمطرها الإمام في عاصمة الأمويين وفي قصر الخلافة حتى تعرّى عن آخر قناعٍ له.
ثانياً: تعميق الوعي السياسي.
لاحظنا في الفصول السابقة كيف أصيبت الأمة بالشلل وانعدام الذاكرة وفقدان الوعي نتيجة الحكم الأموي الذي لم يقضِ على نبراس العقل والفكر وحسب، بل قضى أيضاً على الإرادة الإنسانية عندما أخذ يروّج المذهب الجبري، لقد ساد منطق اللا مبالاة في المجتمع الإسلامي، وباتت مصادر التثقيف محصورة بالوسائل التي أتاحتها السلطة الأموية كالقصص والأحاديث المختلفة وأصبح نتيجة ذلك انهيار النظام المعرفي في المجتمع الإسلامي، وبالأخص الوعي السياسي الذي هو منشأ الإحساس بالمسؤولية والعمل على ضوء هذا الإحساس.
كان لقيام الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن بعده الحركات التي قامت بها العقيلة زينب والإمام زين العابدين بمثابة الصاعق الكهربائي الذي أعاد الجزء المشلول من الجسم إلى عافيته، وجعله يتحرك متناغماً مع الأجزاء الأخرى من الجسم.
فقلد وقفت العقيلة زينب في وسط الناس ونقلت صوت الإمام الحسين (عليه السلام) عبر نبرات مدوية هزّت بها المشاعر وحركّت الأحاسيس قائلة: “يا أهل الكوفة يا أهل الختل والخذل، أتبكون؟ فلا رقأت لكم دمعة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة إنكاثاً، تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم إنّ سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً…
أتدرون ويلكم يا أهل الكوفة؟ أي كبدٍ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فريتم أي دمٍ له سفكتم وأي حرمة له انتهكتم.
لقد جئتم بها خرقاء، شوهاء كطلاع الأرض… وملء السماء…
وخطبت فاطمة بنت الحسين:
يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، فأنا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً…
ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً، كأننا أولاد تُرك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس تباً لكم فانظروا اللعنة والعذاب، فكان قد حلّ بكم، وتواترت من السماء نعمت، فيسحتكم بعذابٍ ويذيق بعضكم بأس بعض.
تباً لكم يا أهل الكوفة أي تراثٍ لرسول الله قبلكم، وذحول له لديكم.
وخطب الإمام زين العابدين:
أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه، فتباً لكم ما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأيةعين تنظرون إلى رسول الله؟ إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي.
وقد أثرت هذه الأصوات ونفذت إلى منافذ الوعي لدى أهل الكوفة، وما هي إلاّ أيام قلائل حتى حولت الكوفة إلى بركان يغلي.
وهذه نماذج من انتشار الوعي السياسي، وما رافقه من جرأة الكلمة وشجاعة الموقف:
1- خطب ابن زياد في مسجد الكوفة أمام الملأ قائلاً: “الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته فوقف له رجل ضرير كان متعبداً لا يفارق المسجد يا ابن مرجانة الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، والذي ولاك وأبوه، يا بن مرجانة، أتقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين.
فاستغرب ابن زياد من هذه الجرأة فقال: من هذا المتكلم؟
لم يخشَ ابن عفيف ولم يهرب من تحمل مسؤولية كلمته بل أعطى لموقفه صلابة أقوى وتحدياً أكبر عندما أجاب على سؤال ابن زياد.
– أنا المتكلم يا عدو الله، أتقتلون الذرّية الطاهرة التي أذهب الله عنهم الرجس، وتزعم أنك على دين الإسلام، واغوثاه أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من طاغيتك اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين.
وتحولت المواجهة الكلامية إلى مواجهة مسلحة بين شرطة ابن زياد وأزد قبيلة ابن عفيف.
2- ألقي القبض على جندب بن عبد الله الأزدي، وهو من أسرة عبد الله بن عفيف، وكان من صحابة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما مثُل أمام ابن زياد صاح به: “ألست صاحب أبي تراب في صفين”. فأجاب جندب بكل شجاعة وجرأة: نعم وإني لأحبه وأفتخر به، وأمقت وأباك لا سيما الآن، وقد قتلت سبط رسول الله وصحبه وأهله، ولم تخف من العزيز الجبّار المنتقم، فكان ثمن موقفه هذا هو الشهادة، وهو يعلم بهذه النتيجة.
3- أراد ابن زياد أن يختبر أحد أنصاره، وهو قيس بن عبادة فقال له يوماً: ما تقول فيّ وفي الحسين؟ فقال له: اعفني، فأصرّ عليه ابن زياد، وعندها أخذ قيس يعرض حقيقة ما في قلبه، وما يؤمن به عقله، يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له، ويجيء أبوك فيشفع لك، فغضب ابن زياد قائلاً: قد علمت غشك وخبثك، لئن فارقتني يوماً لأضعنّ بالأرض أكثرك شعراً
4- ووصل الوعي حتى إلى داخل بيت الطاغية ابن زياد، حتى أنّ مرجانة سخطت على ابنها الذي اقترف تلك الجريمة فقالت له: يا خبيث قتلت ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والله لا رأيت وجه الله أبداً
وتبرّأ عثمان أخو عبيد الله ابن زياد من أخيه الذي جلب العار والشنار على العائلة، فقد ذكر الطبري أنه قال: والله ولددت أنه ليّس من بني زياد رجلٌ إلاّ وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنّ حسيناً لم يقتل، ثم ينقل الطبري عن الرواي، قال: فوالله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله ، فقد قالها بحضور أخيه البغي.
وظلّ الأمويون يتذكرون تلك الجريمة النكراء في مواجهة مع العلويين، فقد كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج عندما أراد أن يقتل عدداً من العلويين، “وإني رأيت بني حرب سُلبوا مُلكهم لمّا قتلوا الحسين بن علي
وإذا أردنا أن نسرد ردود الفعل التي ظهرت عقب واقعة الطف في داخل السلطة لأخذنا الكلام بعيداً عن المقصد الذي نريده وهو أن نقارن بين وضع المجتمع قبل واقعة الطف وبعد الواقعة.
قبل الواقعة حيث لخصّ الفرزدق بمقولته المشهورة حالة المجتمع الإسلامي وبعد الواقعة حيث لخصّ عبد الله بن الحر الذي ذكرنا موقفه من الإمام عندما طلب منه النصرة، لكنه أبى، وبعد شهادة الإمام ندم ندماً شديداً على عدم نصرته ونظم قصيدة تكشف عن حالة الوعي السياسي لدى المجتمع بعد الواقعة:
يـــــقولُ أميـــــرأ غادرٌ حـــــق غادرِ*****ألا كــــنت قاتلتَ الشهيد ابن فاطــــمة
فيــــــا ندمـــــي أن لا أكـــون نصرته*****ألا كـــــلُّ نفـــــــسي لا تُـــــسدد نادمــــة
وإنـــــــي لأني لـــــم أكن من حُماتهِ*****لـــــذو حـــــسرةٍ ما إن تفارقُ لازمــــــة
ســـــــــقى اللهُ أرواحَ الذين تأزروا*****عــــــــــلى نصرهِ سُقياً من الغيث دائمة
وقــــــــفتُ على أجداثهم ومجالهم*****فكادَ الحشى ينفضُوالعــين ساجمـــــة
لعمري لقد كانوا مصاليتَ فـي الوغى*****ســراعاً إلـــــــى الهيـجا حماهُ خضارمة
تــــــأسّوا على نصر ابن بنت نبيهم*****بأسيـــــافهم آســـــــاد غليل ضراغــــــمة
فـــــإن يُقتلوا فكــــلُّ نفســـي تقــــية*****على الأرض قد أصحتْ لذلك واجمة
وما إن رأى الراؤون أفضل منهمُ*****لدى الموتِ ســـاداتِ وزُهـــــراً قماقــــمـة
أتقتــــلهم ظـــــــلُماً وترجو ودارَنا*****فـــــدعْ خُطـــةلـــــيست لنـــــــا بملائـــــمة
لعمـــــــري لقد راغمتمونا بقتلهم*****فكـــــم نــــــاقم مِنـاعليــــــكم ونـــــــاقمة
أهـــــمُ مِــــراراً أن أسيـــــر بــجحفل*****إلــــــى فئــــــة زاغـت عـــــن الحق ظالمـة
فكـــــفّوا وإلاّ ذرتـــــكم في كتائب*****أشدّ عليكم مـــن زُحــــــوفٍ الديالمـــــة
ثالثاً: توسيع نطاق المعارضة.
وكانت حصيلة العاملين السابقين أن أتسع نطاق المعارضة السياسية ولأول مرة في التاريخ الإسلامي أصبحتالمعارضة للسلطات ظاهرة عامة حتى أنها أخذت تتسرب إلى السلطة نفسها، وقد أدت هذه المعارضة إلى إسقاط سُلطةبني أمية في المرحلة الأولى ومن ثم إسقاط الدولة الأموية في المرحلة اللاحقة، وقد تحدث الكتّاب كثيراً في هذا المجال، وأرجعوا أسباب سقوط الدولة الأموية إلى واقعة الطف ونتائجها على العالم الإسلامي.
يقول نبيه عاقل: “وقد سطرّت هذه الفاجعة صفحة سوداء في تاريخ الخلافة الأموية، وكانت المنطلق الذي انطلقت منه المعارضة الشيعية المسلحة لحكم بني أمية، وكانت في المدى البعيد أحد الأسباب التي أدّت إلى سقوط الحكم الأموي
فقد بعثت ثورة الحسين (عليه السلام) الحماس وروح التمرد لدى المجتمعات الإسلامية ابتداءً بالمجتمع العراقي ثم المجتمع الحجازي.
فقامت ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي والمسيب بن نجيبة الغزاري وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وعبد الله بن وائل التميمي، ورفاعة بن شداد البجلي فقد توجه هؤلاء ومعهم الآلاف من أهل الكوفة إلى قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وأعلنوا ثورتهم من هناك، وقد اتجه التوابون نحو هدف محدد هو إسقاط النظام الحاكم استهدفوا عاصمة الحكم الأموي الشام، وكانت حركة فدائية تعاقدوا فيها على الموت، وكان شعارهم يا لثارات الحسين.
وانتشرت روح المعارضة من العراق ووصلت إلى المدينة التي كانت تغلي أيضاً وتنتظر لحظة الانفجار، فقد ثارت المدينة كلها وأخرجوا بني أمية وبايعوا عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة وولوه أمرهم، وكان للعقيلة زينب وبقية الهاشميات اللاتي كنّ في أسر بني أمية ثم عدنّ إلى المدينة كان لهنّ الدور الأكبر في شحن المجتمع المدني ودفعه نحو الانفجار
ثم أعلنت الثورة على يزيد بن معاوية، وانتقلت الثورة إلى مكة، واستغل ابن الزبير آثار الثورة في إعلان تمرده على آل مروان.
يقول شمس الدين: “وما نشك في أنّ استجابة الناس للثورة التي دعا إليها ابن الزبير كان مبعثها هذه الروح الجديدة التي بثتها ثورة الحسين الدامية في نفوس الجماهير .
وفي عام 66 للهجرة قام المختار بثورته المسلحة التي كانت تستهدف بالأساس الانتقام من قتلة آل البيت، وقد انضم إلى المختار إبراهيم الأشتر الذي يقول عنه ابن عبد ربه: “ومن الرافضة الحسينية وهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، وكانوا يطوفون بالليل في أزقة الكوفة وينادون: يا لثارات الحسين، فقيل لهم الحسينية
وتمكن المختار أن يجذب أعداداً غفيرة من الموالين الذين كانوا يشكلون قاعدة شيعية مضطهدة في الكوفة، واستطاع المختار أن يقتل في يوم واحد مائتين وثمانين رجلاً ممن اشترك في قتل الحسين وأصحابه
وفي سنة 77 للهجرة ثار مطرف بن المغيرة بن شعبة على أحد أركان الحكم الأموي وهو الحجاج بن يوسف، وخلع عبد الملك بن مروان، وبالرغم من عدم وجود صلة مباشرة بين ثورة الإمام الحسين وثورة ابن المغيرة، لكن عندما نتمعن في أدبيات هذه الثورة من أمثال كتاب ابن المغيرة إلى سويد بن سرحان والذي جاء فيه “أمّا بعدُ، فإنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه، وإلى جهاد من عَنَدَ عن الحق، واستأثر بالفيء وترك حكم الكتاب
الملاحظة الدقيقة في هذا الكتاب بين لنا أنّ ثورة المغيرة كانت تستمد روحها ومنهجها من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، وبالإضافة إلى الآثار التي تركتها هذه الثورة في المجتمع العراقي بصورة عامة لا زالت قائمة حتى يومنا هذا.
ثم قامت ثورة زيد بن علي بن الحسين سنة 121هـ على اسم كربلاء وعلى دماء الحسين يقول زيد: “وإنما خرجت على بني أمية الذين قاتلوا جدي الحسين وأغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيت الله بحجر المنجنيق والنار . وقد تجاوب مع الثورة جموع كبيرة من المسلمين في الكوفة والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان، وتعتبر ثورة زيد أول تحدي شامل للحكم الأموي أوصل صوت المعارضة إلى كافة أنحاء الدولة الإسلامية، ولولا تسرّع زيد في إعلان الثورة لكانت قد اندلعت في جميع الأمصار في وقت واحد، ولم يكن من السهل القضاء عليها.
وبعد زيد قام ابنه يحيى بحركته المشهورة التي أدت أيضاً إلى شهادته، وبعده ظهر أبو مسلم الخراساني بحركته آخذاً بثأر يحيى قاتلاً قتلته . وكانت حركته تلك بداية الانقضاض على الدولة الأمية، ثم سقوطها وبعد ذلك قيام الدولة العباسية.
يقول نبيه عاقل في هذا المجال: “ويعزو الكثيرون نجاح الثورة العباسية إلى جهود الحزب الشيعي الذي وفّر للثورة العباسية المبادئ الفكرية والقوة المسلحة، وجاء العباسيون في اللحظة الأخيرة، فاقتنصوا كل ذلك وانقلبوا على الشيعة واستولوا على السلطة لصالحهم
هذا مجمل الحركات والثورات التي قامت بعد واقعة الطف، والتي جاءت إمّا امتداداً لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، أو أنها استثمرت تلك الثورة لإحراز النصر على الحكم الأموي، وكان شعار الغالبية هو الثأر لقتلة الإمام الحسين (عليه السلام).
يقول الخربوطلي: “واتفق هؤلاء على صيحة جديدة تستتر وراءها أغراضهم المختلفة هي “يا لثارات الحسين” وكانت هذه الصيحة من أهم العوامل التي قوضت بنيان الدولة الأموية
إذ كانت التعبئة للمعارضة ضد الحكم الأموي بجميع صورها تتمحور حول واقعة كربلاء.
فهذا المنصور العباسي يحشد طاقات المسلمين ضد الحكم الأموي قائلاً:
حسبت أمية أن سترضى هاشم*****منهـــــا ويذهب زيدها وحسينها
كــــــــــلا وربِّ محــــــمد وإلــــهه*****حـــــتى تُباح ســــــهولها وحزنها
وتــــــذلُّ ذُلّ حــــــليله لحلــــيلها*****بالمشرفيّ وتســـــــترد ديــــونها
وهذا سُريف يحمس أبي العباس السفاح ويحثه للانتقام من بني أمية:
واذكروا مصرع الحسين وزيداً*****وقتيـــــلاً بـــــجانب المهــــراس
ولم يجف دم الإمام الحسين إلاّ بعد أن سقطت الدولة الأموية، بل لم يجف ذلك الدم الطاهر حتى بعد اندثار الأمويين، فكلما رفع ظالم سيفه كان دم الحسين يلاحقه حتى انتصر ذلك الدم الطاهر على سيوف الطغاة.
وحريّ بنا ونحن نختم الجزء الأول من تاريخ كربلاء السياسي الذي سيكون مدخلاً لدراسة هذه المدينة دراسة سياسية، أن نتأمل في كلمات العقيلة زينب وهي تطيَّب خواطر ابن أخيها الإمام زين العابدين عندما مروا بالأسرى على جثث القتلى، قالت له: “مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأخوتي، فوالله إنّ هذا العهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات، ,إنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدُرس أثره ولا يمحى رسمه على مرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلاّ علواً .