25 نوفمبر، 2024 9:53 ص
Search
Close this search box.

من الطائفة الى الأمة، من الفقه الى الثقافة

من الطائفة الى الأمة، من الفقه الى الثقافة

انطباعات حول كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»للدكتور علي المؤمن

د. محمد الكاظم

(باحث وإعلامي من العراق)

   المتأمل لخارطة انتشار المذاهب الإسلامية، سيكتشف ببساطة أنّ هناك خطوطاً ذات جذور فقهية وكلاميةوتاريخية، تسير بالتوازي مع الخط الاجتماعي الناظم لحراك المجتمع. في نفس الوقت؛ نحن لا نستطيع الحديث عن مجتمع حنبلي أو مجتمع شافعي أو حنفي، وهذا عائد الى طبيعة نوع العلاقة بين المذهب الديني والسلطة عبر تاريخ الإسلام، لكننا نستطيع بكل ثقة الحديث عن (مجتمع شيعي)، ما يعني أن الخط المذهبي والخط الاجتماعي للتشيع هما عبارة عن شبكة مترابطة من العلاقات التي جرى حبكها عبر الزمن والتجارب القاسية، ولا يمكن فصل تلك الخطوط عن بعضها.

   وأنا ممن يذهبون الى عدم إمكانية الفصل بين التشيع والمجتمع الذي انتشر فيه، لدرجة لا نستطيع معها الجزم بمن الذي صنع الآخر، وكان سبباً في ديمومته؛ فالتشيع مدرسة فقهية، وحالة اجتماعية، واتجاه فكري، وأداة تربوية، وبوتقة صهر ثقافي، ولا يمكن عزل هذه العناصر عن بعضها. أي أنّهناك حديثاً يمكن الاعتداد به عن (المذهب) و(المجتمع) لدى أغلب المذاهب الأُخرى، سواء كانت اسلامية أو غير اسلامية، أما في حالة التشيع فإنّ فكرة (المذهب/ المجتمع) تكون أكثر حضوراً ووضوحاً. ولهذا السبب بقيت مفردة (الطائفة) مرافقة للتشيع طوال قرون؛ فالطائفة تعني الأبعاد الاجتماعية الضيقة لأي مكون، وهذا ما صنع فيما بعد مشكلة تتعلق بـ(جيتو) اجتماعي عاش فيه التشيع، استصحب منهج عزلٍ مارسته الأطراف الاخرى وأنظمتها الحاكمة ضده؛ فحديث المرء عن شيعيته وهويته ومعتقداته صار يعني حديثاً طائفياً خارجاً عن الحديث الوطني المعياري الذي لم يكن للشيعة يد في وضع محدداته، في الأقل في البلدان العربية التي يتواجد فيها الشيعة، بعد أن وُظِف اشتقاق (الطائفية) من (الطائفة) أبشع توظيف على صعيد الإعلام والسياسة والخطاب التداولي؛فصار الانتماء للطائفة الشيعية تحديداً ضداً للوطنية التي صيغت ملامحها ومحدداتها في ظروف معقدة رافقت تأسيس دول الشرق الأوسط.

   الباحث المعروف الدكتور على المؤمن في كتابه «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»، يضع مبضع الجراح الواعي في «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، ليسلط الضوء على محركاته وعناصره ومراكز القوى فيه، وقد أفلح الباحث في الإحاطة بكثير من جوانب الموضوعة،رغم أنّ كثيراً من المساحات المتعلقة بالاجتماع الشيعي تقع في دائرة المسكوت والمتغاضى عنه، نظراً لوجود الكثير من الحساسيات، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بتركيبة مؤسسة المرجعية والتفاعلات الحاصلة داخلها، والعلاقة بين المرجعيات والهوامش التي تكون متوناً في بعض الأحيان. أما الحديث الأكثر حساسية الذي أثاره الدكتور المؤمن؛ فهو الحديث عن مستقبل المرجعية في عالم متحول لا يعرف الثبات، وهي إشارة لافتة ومهمة يطرحها الدكتور المؤمن بمسؤولية عالية، داعياً الى المزيد من مأسسة منظومة المرجعية، استعداداً لتحديات المستقبل وتقلبات الزمن.

   جرأة الكاتب ودقته في تناول هذه الموضوعة، لا تنم ــ في تقديري ــ عن الرغبة في التوصيف فقط، بل تتعادها الى الإشارة الى ما تمنحه عناصر النظام الاجتماعي الديني الشيعي من ممكنات في ظل عالم متغير. ويمكنني أن اعتبر هذا الجهد محاولة للتنبيه الى ضرورة إعادة الحسابات، من أجل تحول الشيعة من دهاليز الطائفة الى فضاء الأمة، وانتقالهم من ذهنية المعارضة الى مسؤولية الدولة، ومن قوقعة الذات الى آفاق التحول الى ثقافة عالمية، والخروج من الزاوية التي حوصروا فيها لقرون، وهي زاوية الأكثرية العددية والأقلية السياسية، والسماح لثقافتهم أن تأخذ حظّها من الثقافة المعيارية للدول التي يعيشون فيها، دون أن يعد ذلك خدشاً في وطنيتهم. فالأُطروحة التي يقدمها لنا الدكتور المؤمن،معنية بدراسة (الشيعة) كظاهرة اجتماعية سياسية ثقافية، لا مجرد مذهب ديني فقهي، ومن هنا تنبع أهميتها في هذا العصر. وكثير من كتابات الدكتور علي المؤمن الأُخر التي اطلعت عليها، تؤكد على أن هذه الموضوعة تأخذ الكثير من اهتمامه، وتمثل جزءاً هاماً من مشروعه الفكري.

   التشيع بقي يتحرك في دائرة المجتمع ودائرة الثقافة، وهذا واحد من أسباب قوته الاجتماعية، وقدرته على تجاوز التحديات الفكرية والوجودية التي واجهته على مدى التاريخ، كما ساعدته على إيجاد الكثير من الإجابات لأسئلة الراهن، وإيجاد كثير من التسويات مع التحديات الفكرية التي يطرحها الزمن،بمقابل بقاء تركيبة (المذهب/ المجتمع) كوحدة قابلة للبقاء، بينما حصل عبر التاريخ أنْ غيّرت المجتمعات مذاهبها أو غيّرت المذاهب المجتمعات، بمجرد أن يتغير مذهب (الخليفة/ السلطان/ الوالي/ رئيس الدولة). فقد تعرّض الشيعة طوال تاريخهم الى حملات إبادة وتهجير وقمع وتغييب، كانت كافية لمحوهم من الوجود، والمتأمل لخرائط انتشار التشيع يكتشف حجم التعسف الذي تعرضوا له، ما أدى الى انتشارهم في مختلف أقطار العالم الاسلامي، لكنهم تمكنوا من اجتياز تحدي البقاء، نتيجة لوجود عوامل محركة حافظت على بقائهم، بل أنّهم حوّلوا تلك المنافي الاجبارية الى مراكز للشيعة خارج المناخ التقليدي للتشيع. تلك العوامل التي كفلت الاستمرار، جديرة بالتحري عنها، وتدعيمها وتقويتها وتوظيفها. وجهود الدكتور علي المؤمن الفكرية من هذا النوع الذي يبحث في عوامل الاستمرار والتفاعل مع العالم بوسائل معاصرة.

   في العادة يُنظر الى الشيعة من زاوية الحدث التاريخي أو من زاوية الخلاف العقدي والفقهي أو من زاوية الخلاف السياسي الممتد عبر الزمن، وأحيانا يُنظر الى الشيعة من خلال زاوية مؤسسة المرجعية، باعتبارها القيادة التي تحافظ على روح الطائفة وتماسكها، وهذه العناصر هي حجر الزاوية في صورة الشيعي لدى الآخر، بل أحيانا تمثل هذه العناصر المرايا التي ينظر بها الشيعي الى نفسه أيضاً، وفي الغالب يجري التعسف في التعامل مع هذه العناصر التي تشكل هوية الشيعي، والتي أصبحت جزءاً من عالم معاصر يحوي الكثير من الهويات الأُخر داخل الهوية الكبرى. فهل مفردة (الشيعة)تقتصر على ثلاثية التاريخ والفقه والسياسة؟ وهل تقتصر على الجدل حول مواضيع تخصصية، مثل الخُمس والعصمة وولاية الفقيه؟  وهل أن الدراسات التي تعاملت مع الشيعة من زاوية مناهج علم الاجتماع الديني التقليدي ومفاهيمه الأوروبية تنسجم مع واقع الظاهرة الشيعية وركائزها الروحية والاعتقادية والاجتماعية؟

   الواقع يقول أنّ هناك زوايا نظر مختلفة الى النظام الاجتماعي الشيعي المعاصر؛ فهناك المؤسسات المرتبطة بالمرجعيات الدينية، وهناك الحوزات وطلبتها، وهناك العشائر والمجتمعات الشيعية الصغيرة، وهناك الاتجاهات الفكرية داخل التشيع، والعتبات المقدسة، وهناك المواكب والهيئات وجماعات الخدمة، وهناك الخطباء ومريدوهم، والرواديد ومعجبوهم، وهناك جماعات المثقفين والكتاب والأكاديميين الذين أصبحوا طبقة مؤثرة، وهناك الأحزاب الشيعية، والبيروقراطيون، والتجار وأصحاب رؤوس الأموال، وهناك الفنون والآداب التي خرجت من (البيئة الشيعية)، والتي لا يمكن أن توجد في بيئة أُخرى، وهناك السرديات التي ينتجها المخيال الشعبي، وهناك الشعائر والطقوس التي يتعامل معها الناس، وهناك الاحتفالات والعادات والتقاليد والطعام الخ، وهذه العناصر لا يمكن فصلها عن جسد التشيع، لأنها صارت لوازم من لوازمه، أي أننا أمام (ثقافة) متميزة، قد يشكِّل البعد المذهبي واحداً من تجلياتها، وهذا ما يدعو الى الانفتاح على تلك (الثقافة الشيعية)، لتكون هي المعبر عن المجتمع.

   فلم يعد التشيع هو تلك الحالة المرتبطة بالولاء لآل البيت فقط، بل تداخلت معه مفاهيم الاقتصاد والسياسة والانثروبولوجيا والسوسيولوجيا، ومفاهيم الهوية والمواطنة، بغض النظر عن كون ذلك الشيعي متديناً أم لا، أو مقلداً لأحد المراجع أم لايقلد، وبغض النظر عن كونه مؤمناً بأنه جزء من نظام اجتماع شيعي أم لا، بل أستطيع أن أُوسِّع نطاق دائرة الاجتماع الشيعي ليشمل حتى أبناء المذاهب والديانات الأُخر التي تعيش في (بيئات شيعية) متأثرة بثقافة التشيع؛ فمجتمعات الشيعة عموماً مجتمعات حيوية متحركة، تحتوي يوميات أفرادها على الكثير من التفاصيل المرتبطة بالمذهب، وهذه التفاصيل اليومية تنتقل بسهولة الى الآخر المختلف مذهبياً أو دينياً، نظراً لطابعها الثقافي الاجتماعي المغري.

   من زاويتي التي أنظر بها الى الأمر؛ أعتقد بعدم إمكانية فهم الاجتماع الديني الشيعي المعاصر دون الغور في عدد من العناصر الأساسية الأُخرى التي يمكن اضافتها الى مفردات الاجتماع الشيعي المعروفة، وأولها تلك الغواطس الحضارية التي وجدت في العقل الشيعي مساحة لها، لتعبر عن نفسها بطريقة لم تُتَح للمذاهب المرتبطة بثقافة الصحراء، أو بثقافة البلاط؛ فالتشيع نشأ في بيئة تلاقحت فيها الحضارات القديمة والدول التي سبقت الإسلام، ولابد أنّ ذلك التلاقح الحضاري أبقى جزءاً منه في بيئة التشيع ذات الطابع المديني الزراعي.

   العنصر الآخر هو الميراث الرمزي الطقوسي الموروث من مجتمعات أكثر قدماً، ساهم في تحريك الخيال والعاطفة وصناعة المشاعر والقضايا القادرة على مواجهة تحديات الزمن،وساهم في إيجاد أفكار لسد الثغرات العاطفية التي يحتاجها الإنسان. والعنصر الثالث هو أن جغرافيا التشيع هي نفسها (جغرافيا الماء)؛ فوجود المياه والخضرة والزرع كان واحداً من العوامل التي تؤدي الى الاستقرار النفسي والشعور بالاطمئنان، وهو ما يقود في النهاية الى التعامل مع الأفكار الأساسية الوجودية بنوع من الهدوء، الذي يختلف عن عقلية المحو التي تحملها البيئات الصحراوية. هذا (الاستغناء) يختلف أيضاً عن نزعة التكالب التي أنتجتها عقلية البلاط.

   هناك عنصر هام أخر في الاجتماع الشيعي، يمكنني أن أُسميه (الكوزموبوليتانيّة) الشيعية؛ فالتشيع نشأ في بيئة مختلطة الأعراق، تلتقي في المكان وقد تختلف في الزمان، وصارت بيئات التشيع مصهراً لها، وهذا ما جعل الشيعة لا يحملون تلك التوجهات المتطرفة والأفكار الشوفينية تجاه الآخر،وهو أمر شجّع حالة التثاقف والصهر الثقافي عبر الزمن.ووجود أعراق مختلفة واتجاهات مختلفة في بيئة التشيع والبيئات المجاورة، جعل الطبيعة السجالية متقدمة، وهذا ما جعل دائرة التراث الشيعي تتسع بدرجة كبيرة؛ الأمر الذي أسهم في انتاجية العقل الشيعي على المستوى الفكري، وتلك الأفكار انتقلت الى المجتمع، لتسهم في تماسكه وحيويته،وتسهم في قدرته الحِجاجية التي حافظت على كيانه طوال قرون، وهذه الخصيصة بالذات تحتاج الى اهتمام مع تزايد اسلحة الحرب الناعمة المعاصرة.

   إضافة الى ذلك؛ يمكن القول أنّ المذهب الشيعي مذهب مشحون بكثير من العاطفة، التي انعكست بأشكال ابداعية كثيرة، وبمستويات متعددة بين أوساط المتدينين وغيرهم، وهذه الاشكال الابداعية ساهمت برسم ملامح وجدان المجتمعالشيعي، وتغلغلت الى الممارسة الشعائرية للمذهب والممارسة الطقسية للمجتمع الحاضن.

   أعتقد أنّ خطوة الدكتور علي المؤمن في كتابه «الاجتماع الديني الشيعي» هي خطوة بالغة الأهمية، ويجب ألّا تقف عند هذا الكتاب الذي يتعامل مع التشيع كظاهرة اجتماعية سياسية وثقافية إنسانية؛ فهناك حاجة الى المزيد من هذه الخطوات التي اصبحت ضرورية في عالمنا المعاصر، لفهم مكامن القوة، ثم امتلاك الجرأة لمواجهة محاولات توهين هوية المجتمع الشيعي، وكسر شخصيته، وجعله يفقد فعاليته وتأثيره. وهذا ما يساعده على  تصحيح أخطاء الماضي وإعادة التوازن،بعد عصور من الغيبوبة والتغييب، لأن عدم فهم مكامن القوة له انعكاسات خطيرة، تدفع الأجيال ثمنها؛ فشيعة القرن الحادي والعشرين في العراق ــ على سبيل المثال ــ يدفعون حتى الآن ثمن أخطاء شيعة القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، لأن الصورة الضيقة للـ(الطائفة) التي كانت سائدة في بدايات تأسيس الدولة العراقية، صنعت قرناً كاملا من الاقصاء والتهميش والابعاد عن دائرة القرار والتعليم والثقافة، وصنعت صورة نمطية عبّر عنها الملك فيصل الاول بالقول: ((إنّالعراق مملكة تحكمها حكومة عربية سُنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلص منها بدعوى أنها ليست من عنصرهم، وهناك أكثرية شيعية جاهلة! منتسبة عنصرياً الى نفس الحكومة …)).

   هذا القناعة الكارثية الذي تبناها الملك فيصل، والبريطانيون من ورائه، تبنتها فيما بعد النخبة العراقية التي كانت مسيطرة على الإعلام والثقافة والتعليم طوال قرن كامل؛ فتأسست ثقافة شحنت ضمير الأمة الأخلاقي بهذه الأفكار المغلوطة التي صنعت شروخاً في الاجتماع العراقي، كما بذرت بذور العنصرية والطائفية والفوقية، وهذا ما يتطلب الإصلاح في لحظتنا الراهنة لإعادة التوازن الى المجتمع.

   أعتقد أنّ الحديث عن نظام الاجتماع الشيعي، يتطلب إعادة البحث بجرأة وشجاعة، عن تعريفٍ لنسيج العلاقات التي تتحرك في إطار التشيع، وإيجاد تسويات بين مفردات ذلك النظام ومؤسساته، كما أنّ هناك حاجة لمأسسة قيادة الطائفة،باعتبارها الممثل التاريخي للمكوّن الاجتماعي، وتنظيم عمل المؤسسات المرتبطة بالحوزة، والاهتمام بالتعليم والفكر والثقافة، وتوسيع دائرة التعاطي مع مفردة (الشيعي)، دون الحكم المسبق على التشيع من خلال الفقه أو السياسة فقط، ودون التعامل الانتقائي مع مفردات النظام الاجتماعي الشيعي؛ فلا يصح ــ في رأيي ــ الانجرار وراء التدافع المرجعي وإهمال العشائر مثلاً، أو التركيز على النخبة السياسية وإهمال النخبة الفكرية، ولا يجوز-كما أرى- المبالغة في الاهتمام بالشكليات مقابل التقتير على الإعلام والكتاب والإنفاق الثقافي؛فالمجتمعات تُصنع صناعةً، ولا تنمو لوحدها، والجمهور الشيعي جزء من عناصر قوة الاجتماع الديني الشيعي،ويحتاج الى الاهتمام بما يبني مفردات عقله، وعقل الأُمم يحتاج الى المشاريع الكبرى، وإلى منتجي الأفكار والطروحات الجريئة، التي تستوعب الطاقة السجالية للأمة، وتبحث عن أجوبةً لأسئلتها، وتتماهى مع مشاعرها، وتضع الاستراتيجيات للتعامل مع مستقبلها، وتساهم في اختيار القيادة الروحية القادرة على النهوض بمسؤولياتها، واختيار نوعية القيادة أيضاً.

   وقد يكون التخلي عن مفردة (العوام)، وإعادة النظر في طبيعة تعامل المؤسسة الدينية مع حاجات الشارع وتطلعاته،واحدة من الخطوات التي تعزز دور الجمهور الشيعي في البناء العام؛ فالحوزة في زمن الانترنت ليست هي الحوزة في زمن الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي، ونوعية الشيعة في زمن الجامعات والفضائيات، لم تعد نفس نوعية الشيعة الذين كانوا في زمن كاشف الغطاء الكبير والآخوند الخراساني وشيخ الشريعة الإصفهاني والميرزا النائيني.

   إجمالاً؛ يمكن القول أنّ أي مفردة من مفردات «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» لا يمكن أن تنهض لوحدها بأعباء المجتمع، ما لم تتظافر معها بقية المفردات الأُخر. كما أنّ هناك حاجة لإيجاد تكييفات للتعامل مع ما ينتجه العالم المعاصر من مفاهيم، كالديمقراطية والانتخابات وحقوق الإنسان، والجدل حول المقدس، وحول خصوصية المكونات، بمقابل تحديات العولمة وغيرها، كما أن هناك حاجة لاستيعاب المنجز الفكري والابداعي والفني والثقافي والحراك الاجتماعي. وقد أثبت الفقه الشيعي دائماً، أنه يمتلك المرونة الكافية التي تجعله قادراً على التعامل مع معطيات العصر وحاجاته.

   إنّ مشروع الدكتور على المؤمن هو إلقاء لحجر في بركة مياه،تحتاج الى كثير من الحجارة لإذكاء سجال ثقافي معرفي مسؤول، يمكن أن يؤسس لواقع مختلف، ويمثل خطوة في ترميم العقل الشيعي الذي أرهقته المماحكة السياسية والتأسيس الخاطئ الذي أمسكت قوى أُخر بناصيته طوال قرن من الزمن، كما أنّه خطوة مهمة في طريق إيضاح مفردات الهوية الشيعية،وتكريسٍ لوعي المجتمع الشيعي بالمذهب وبنفسه وبالبلاد التي يعيش فيها، في اطار ترتيب أولويات الهويات الأُخر، وخطوة مهمة لمعرفة طبيعة العلاقة بين المجتمعات الشيعية في البلدان المختلفة.

   ويبدو لي أنّ هناك خمس نقاط أساسية لا ينبغي أن تفوت من يقرأ كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» المهم، هي:

1- الحديث بشجاعة عن مركزية الفقه بمقابل مركزية الثقافة.
2- الحديث عن التحول من ضيق (الطائفة) الى اتساع الفضاء الشيعي.
3- الحديث عن مأسسة القيادة والحفاظ على مستقبل المذهب بعد رحيل رموزه الكبار المعاصرين.
4- التفكير بالدور الذي يلعبه الجمهور الشيعي ضمن فضاء التشيع.
5- ضرورة الحفاظ على الثابت وايجاد الديناميكية اللازمة للتعامل مع تحديات الراهن في عالم متحول.

   إنّ كتاب الدكتور علي المؤمن جهد معرفي مميز، ودعوة الى التفكير المنهجي في المستقبل، وتفكيك عميق للاجتماع الشيعي بكل تفاعلاته وتجلياته ومكامن القوة ومواضع التأثير فيه، وما نزال بحاجة الى المزيد من هذه الجهود المضيئة.  

أحدث المقالات

أحدث المقالات