17 نوفمبر، 2024 3:25 م
Search
Close this search box.

عائد إلى طنجة

قد يبدو “عائد إلى حيفا”.. و”عائد إلى طنجة”.. وجهان لقضية واحدة.. بطلان لقصة متشابهة.. تتمحور أحداثهما حول الوطن والهوية.. حول الترحيل والرحيل.. والحق في العودة.. الفارق زماني.. مكاني.. البعد فلسفي.. إنساني.. القلق وجودي.. عدمي.. قصتان مشوقتان.. مستوحاة أحداثهما من وحي الواقع.. أمران يشكلان قضية إنسانية.. انعكاس الماضي على الحاضر.. سلطة الأحداث وحتمية المصير.. قدرة الإنسان على إبداع الأشكال.. وتغيير المسار.. كانت النكبة.. كانت النكسة.. تم الهروب.. تلاه الأمل.. ثم العودة.. تبدلت الملامح والأحوال.. تغيرت الأقوال والأفعال.. هذا ما جنته عليه الأديان.. هذا ما خبأته له الأقدار.. هذا تنكرت له الزقاق والرفاق.. هذا تنكر له الديار والأوطان.. سبحان مدبر الأقدار.. سبحان مغير الأحوال..
الأول يحكي قصة إنسان عان من الوجع.. جرح غائر اسمه الوطن.. عان الظلم والوهن.. اضطر للسفر.. “مجبرا أخوك لا بطل”.. بعيدا عن المعاناة والألم.. تاركا أغراضه وحقائبه.. جارا ذيول الخيبة وراءه.. متمسكا بحبال من الأمل.. آملا أن يعود ذات يوم للوطن.. سجل قضيته بحبر من ذهب.. يحكى لصفية قصة العشاء الأخير.. احتار له العقل والضمير.. أحرج المسلمين والمسيح.. التف حوله الشيخ والمريد.. رحل الرجل تاركا وراءه الطفل الرضيع.. تحت القصف الشديد.. بين أيدي القدر اللعين.. بين العودة والرحيل.. آمن بأن يصبح خلدون ذلك البطل العظيم.. فبرغم انتهاء رحلته الشاقة.. لم تنته معانات الرجل البسيط.. ولم يتحرر الوطن الأسير.. وجد “سعيد” نفسه يهذي.. بين الحلم الضائع والأمل المنشود.. بين الماضي المغتصب والحاضر المفقود.. بين قاهرية الغربة والاغتراب المكتوب.. هذا جزاء من يترك الوطن.. بين المطرقة والسندان يموت.. لم يصبح الابن ذلك البطل العظيم.. بل أصبح يحمل البندقية والحقد الدفين.. متنكرا للقضية ولذويه.. “القدس مازالت قضية”.. أما خلدون فقد أصبح يحمل اسما.. غير اسم أبيه.. برغم النكبة لم يمت الصبي.. برغم العودة لم يجد النبي.. رغم وفائه بالوعود.. تنكرت له كل الدروب.. نسي الجميع “سعيد من يكون”.. حينما عاد إلى أرضه.. لم يجد تلك الأشياء العالقة في ذهنه.. بل وجد أشياء تغيرت في بيته.. نكسة أخرى تضاف إلى رصيده.. لم يعد “خلدون” للقضية عنوانا.. بل وجد “دوف” لأهله حاقدا.. لم يجد الذات التي كان يعرفها.. بل وجد وطنا أصبح له متنكرا..
والثاني يحكي قصة سايلا الذي.. لم تكن بيده أية حيلة.. كانت قريته منتصبة في الجبال منسية.. التضاريس عارية.. المواصلات شبه منعدمة.. والمياه فيها قليلة.. أسرته فقيرة عديمة.. المدرسة والمدينة عن أهله كانت بعيدة.. الرحيل إلى اسبانيا كان من الأمور الحتمية.. كانت أحلامه صغيرة.. أفعاله، قالوا عنها غريبة.. ظروفه لم تكن مواتية.. والآذان لم تكن له صاغية.. فاختار الهروب من قريته الصغيرة.. نحو عوالم أخرى بعيدة.. خوفا من المكيدة.. عملا بالنصيحة.. حاملا ذاته.. بحثا عن الحقيقة.. عن نصيبه من الغنيمة.. كانت الرحلة شاقة طويلة.. انتهى به المطاف إلى معانقة الصدفة العجيبة.. وولوج مدرجات الغابة الكبيرة.. حيث المجالس السعيدة.. والأشجار الكثيفة.. اصطاد حماما.. قطف أزهارا.. أصنافها قليلة.. اقتحم القصور فزاد شهرة.. احتسى القهوة فزاد شهوة.. سكب كؤوسا زاد شموخا.. رغم تنكره لها لم تنساه القبيلة.. أنسته النهود والرموش.. صاح “ثرلي هذه، من تكون؟”.. انضمت حوله النجوم.. هتفت باسمه الحشود.. سلطت عليه الأضواء.. اختلطت عليه الأذواق والأوراق.. ألقى خطابا شهيرا.. قال فيه “أنا جبل”.. “على قول الحقيقة” من كان يجرأ.. وجد سايلا في الرباط مغنى.. إلا أنه لم يجد لوجوده معنى.. قرر أن يشد الرحال نحو وجهة أخرى.. ترك الوطن.. نسي الهدف.. رحل الجسد.. رحل الرجل.. اشتد الحر.. لم يتغير الوضع.. رحل سايلا.. لم يرحل الوطن.. بعد سنوات من الغياب.. قرر سايلا العودة للديار.. حاملا بشرى يزفها للرفاق.. انتهى به الأمر.. انتهى به العمر.. تغير اللون والشكل.. تغيرت الملامح والشعر.. حتى كدنا لا نعرفه.. “ليس كل ما يلمع يا سايلا ذهبا”.. و”ليست كل عودة تحمل مطرا”.. “اللحية السوداء لا تصنع فيلسوفا”.. و”اللحية البيضاء لا تصنع نبيا”.. “الذئب ذئب ولو في ثوب حمل”.. و”القرد قرد ولو على قمة جبل”.. “متى كان للظاهر على الباطن وقع؟”.. و”متى كان المظهر على الجوهر حكم؟”.. “من ينظر إلى المرآة يرى بطلا”.. و”من ينظر إلى الماضي يرى عجبا”.. خذ معك المظهر والظفر.. دع لنا الأسى والوطن.. إذا كنت يا سايلا من الرحيل عائدا .. محملا بما كنت تريد.. فهل أنت ذاهب معنا حيث كنا نريد؟.. كيف لك أن تجد الذات هناك.. وهي هنا بين الدروب تحتضر.. هناك من يختار الهروب من الوطن.. بحثا عن النجاة.. عن شيء اسمه دفئ الحياة.. وهناك من يختار الغروب بحثا عن الذات.. وهناك من يفر منها.. لأمر لا يطاق.. فلأي هروب ينتمي سايلا يا رفاق؟..
خوفا من ألم الهزيمة.. وعقاب العشيرة.. رفض النبش في الذاكرة المنسية.. كيف لمن يخشى النكبة.. أن يعيد بناء المدينة؟.. كيف لمن اختار الهروب أن يجد لرفاقه السكينة؟.. كيف لمن يكره الكراسي أن يواجه المآسي.. العيب ليس في الصعود أو النزول.. إنما العيب يا سايلا في عبادة الكراسي.. ما جدوى رحلة الذهاب والإياب.. والعودة ينقصها البيان.. قد تتغير المظاهر والأحداث.. لن تتغير المواقف والرجال.. قل لمن ضاقت الدنيا به.. وضاع الوطن بين يديه.. وتاهت الذات عن دربه.. ألا يبحث عنها خارج بيته.. الفساد آفة.. والهروب خيانة.. الوطن كلمة.. والرحيل كما العودة حق.. رحلة البحث عن الحقيقة.. دامت ستة وخمسون سنة.. على متن قارب رحلته مثيرة.. انتقل سايلا بين القرية والمدينة.. عاش أشياء غريبة.. إلا أنه لم يصادف الحقيقة.. احتضنته الحضيرة.. أحرجته الطبيعة.. حاورته المذيعة.. قال “ها نحن قد عدنا”.. لكنه رفض الإدلاء بالحقيقة.. أبى أن يفصح عن سر العودة والقطيعة.. أبى أن يمزق الجريدة.. ويوقع العريضة.. اعترف ضمنيا بالخطيئة.. قرر أن يموت شهيدا.. بين أحضان العشيقة.. (يتبع).

أحدث المقالات