صدر مؤخرا ديوان الشاعر الدكتور عبود جودي الحلي (في رحاب كربلاء) وحسنا فعلت جامعة أهل البيت (ع) حينما أسهمت في نشر الديوان ، فالشاعر الحلي لم يمارس الشعر كمهنة محترف إنما الشعر عنده يمثل قضية امن بها الرجل دائما ، إنها قضية الإنسان الباحث عن الحقيقة في علاقته مع الله وأنبيائه وأهل بيته (ع) والمجتمع عامة.
وبهذا المعنى فان الشعر عند الدكتور الحلي يجسد الإخلاص في القضية ، وهو انعكاس أيضا لروحه المخلصة في كل سلوكياته ، والقارئ لقصائد الديوان يمكن له أن يلمس هذا الشيء بوضوح لا سيما ان تلك القصائد تميزت بالطابع المباشر والأسلوب السلس وصدق اللهجة والابتعاد عن التكلف والغموض والاعتماد على الأوزان الشعرية الخفيفة ، كل تلك الأمور جعلت قصائد الديوان تعبر عن شخصية شاعرية متجانسة تفكر بعمق وتكتب بوضوح ، وكأن الحلي يستحضر مقولة (كولردج) : ((لم يتمكن احد حتى الآن أن يصبح شاعرا بدون أن يكون فيلسوفا)).
ضم الديوان (27) قصيدة ومقطوعة ونظم أكثرها بالفصحى فيما ضم الديوان قصائد أخرى نظمت بالعامية ، وقد نشرت اغلب هذه القصائد في صحف ومجالات عراقية فيما قرأ عددا منها على المنابر الحسينية .
تدور موضوعات قصائد الديوان حول قضايا محورية أساسية بالنسبة للدكتور الحلي أول تلك القضايا مدح النبي (ص) وأهل بيته ورثائهم , أما الموضوع الثاني في قصائد الديوان فقد كان قريبا من الغرض الأول ، فقد خصص الشاعر عدد من القصائد لتأبين عدد من العلماء الأفذاذ وقراء المنبر الحسيني ، وضم الديوان أيضا قصائد للشاعر يرثي فيها والده المرحوم جودي الحلي .
والشاعر في قصائده في أهل البيت يستحضر التراث الشعري العربي في أبهى صوره وكأن القارئ لتلك القصائد يقف أمام تلك الصور المعبرة التي جادت بها قريحة الشريف الرضي ومهيار الديلمي وابن معتوق الموسوي والأخوين حيدر وجعفر الحليين والجواهري والفرطوسي وغيرهم من الأفذاذ الذين تغنوا في العزف على أوتار حب آل محمد ص لكن كل تلك الصور المعبرة يقدمها الدكتور الحلي وهي تحمل نفسه الشعري الخاص ومصطبغة بتلك الموسيقى العذبة التي عرف بها وكأنه في شعره مصداق للقول : ((لن يستطيع الرجل الذي تخلو روحه من الموسيقى أن يصبح شاعرا أصيلا أبدا)) ففي قصيدة عشق الحسين يقول الشاعر :
واصدح بلحن هواك وانشد معلنا
واسجد على ارض يضوع بتربها أنا عاشق السبط الشهيد بكربلا
ارج النبوة والولاية والعلا
فقد أبان الشاعر قضية ولائه بكل وضوح وسلاسة في قالب موسيقى يأخذ بالألباب لقد قدم الشاعر في هذين البيتين النتيجة على السبب باعتبارها أمرا مفروغا منه لأهميتها عنده فبعد أن أعلن عن ارتباطه الروحي بالحسين ع مقدما بصيغة الأمر (اصدح) في البيت الذي يليه قدم المبرر لذلك الولاء ببيان أهمية التربة وقداستها التي اكتسبتها من ذلك الجسد الذي يمثل امتدادا للرسالة المحمدية وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وشموخ الحسين عليه السلام وعزته في معركة كربلاء ولولا براعة الشاعر وامتلاكه لأدواته الشعرية بوعي لما جمعت كل تلك المعاني في بيتين فقط ، ولقد قيل ((كل شاعر حقيقي هو بالضرورة ناقد من الطراز الأول)) والملاحظ على هذه القصيدة (عشق الحسين) يجد أن الشاعر قد سلك في بنائها مسلك القدماء فقد التزم بالمكونات الأساسية لقصيدة الرثاء الحسينية من مقدمة وتخلص للغرض ومن ثم أشفعها بخاتمة صاغ أبياتها في طلب الشفاعة على عادة القدماء يقول الحلي :
عبود عبدكم وطاب قريضه في ذكر حبك يا حسين وقد حلا
وفي قصيدة (قدوة الشهداء) يتغنى الشاعر بشجاعة الحسين ووقفته الأبية في كربلاء راسما صورا معبرة تنبض بصدق العاطفة ودقة التعبير يقول الشاعر :
يا شهيدا بك الجنان تباهت
لست في الثائرين محض شهيد وبك الأرض قد زهت والسماء
إنما أنت قمة شماء
وهنا يذكرنا الشاعر بمجموعة من شعراء العراق في النصف الأول من القرن العشرين الذين رفضوا أن يكون الأمام الحسين (ع) موضوعا للبكاء فقط أمثال : مظهر اطيمش وإبراهيم الوائلي والجواهري وعباس الملا علي ومحمد صالح بحر العلوم وغيرهم .
ومن القصائد التي ضمها : الديوان قصيدة (كمال الكون) في النبي محمد ص وهي من القصائد المقيدة القوافي وفيها يقول الشاعر الحلي :
رسول الله مبعوث بهدى
هو الفجر الذي قد لاح يزهو دعا وهدى إلى الحق وارشد
يبشر امة الإسلام بالغد
فقد جمع الشاعر صيغ الماضي ( دعا ـ هدى ـ ارشد ـ لاح) مع صيغ المضارع (يهدي ـ يزهو ـ يبشر) كناية على امتداد الرسالة المحمدية وديمومتها في الماضي والحاضر ، وقد عرف الشاعر الدكتور عبود جودي الحلي بوطنية الصادقة وحبه لبلده العراق لذلك لم يغب عن باله أن يضمن ديوانه قصيدة جمعت حبه لوطنه مع إيمانه بقضية الإمام الحسين (ع) عنوانها (عراق الحسين) ومن أبياتها الجميلة قوله :
ما دام في ارض العراق ضريحه
فعراقنا يأبى الرضوخ لظالم
ما عذر من عرف الحسين وعاث سيضيع كيد الظالمين بها سدى
ما دام فيه أبو الأئمة سيدا
في شعب العراق مشتتا ومبددا؟!
وتسير أبيات القصيدة كلها على هذا النفس المتحدي والنبرة الرافضة لكل أنواع الظلم والحيف الذي يحاول البعض أن يمارسه ضد شعب العراق وأرضه المباركة التي ضمت ابرز معالم الرفض والثورة في تاريخ الإنسانية .
وفي قصيدته في رثاء والده يحاول الشاعر الحلي أن يعبر عن مشاعره الصادقة إزاء والده بنبرة شابها طابع الحزن الشفيف يقول الشاعر :
سابكيه ولو نضبت دموع فدمعي ليس يدركه النضوب
أب وفراقه خطب جليل وكم هانت علي به الخطوب
ولم ينس الشاعر وهو مهموم بذكرى والده قضيته الأساسية في حب الحسين فحاول أن يمزج الأمرين معا لكي يكون حزنه على فقد والده جزعا فيقول :
ولو خاب الجوار فان جارا لمن يحمي الضغائن لا يخيب
إذا ناداه مكروب : أغثني بذكر السبط تنكشف الكروب
وقد واليته مذ كنت طفلا ومثلك صرت والباري يثيب
وعندك والدي أمسي غريبا وهل بحماك ينتهك الغريب
وأخيرا لا نريد أن نفوت على القارئ فرصة الاستمتاع بقراءة قصائد الديوان وحسبنا ما ذكرناه من شواهد لنخلص إلى أن الشاعر الحلي قد وفق في نقل هواجسه وتصوير مشاعره في اغلب تلك القصائد .