لم يعد يشعرهم بوجودهم في الحياة سوى الفقر نفسه، فقد أحاطهم شعور الرضا بالقدر والإستسلام للواقع وحتمية القناعة التي يُقنعهم بها أثرياء المنطقة الخضراء تحت عنوان أنها “كنزٌ لا يفنى”.
أصبحت الوعود بالنسبة لهم تُثير الإستهزاء والسخرية وصولاً إلى الإشمئزاز، إذ كيف تُقنع مواطنهم الفقير الذي يسكن العشوائيات في بلد يمنح الهِبات والعطايا لجُزُر القُمُر والصومال وتتناثر المليارات من الدولارات يميناً وشمالاً تتقاذفها رياح الفساد أن مستقبله يسير نحو الأفضل؟ في حين أنه إعتاد كل يوم على مزاولة مهنته البائسة التي لا تمنحه الفرصة الأدنى من العيش الكريم.
ويبدو أن سلطة الإسلام السياسي مقتنعة بل ومؤيدة لإبقاء الوضع على ما هو عليه، وتحشيد هذا الجيش الهائل من الفقراء والمساكين جنوداً جاهزين في أي حرب حقيقية أو وهمية أو حتى أعداء مُفترضين تُجنّدهم نزوة حاكم يستيقظ من نومه.
ربما هو التفسير الوحيد الذي يُبقي صلة الوصل بين الراعي والرعية يتم فيه إستغلال الفقراء بشكل لا أخلاقي عند إستعمالهم كأدوات حرب رخيصة أو بيادق يُحركهم أُمراء الحروب وزعامات الفشل، في حين يستنكف هؤلاء المُتحكّمون النظر إلى ما تحت إنوفهم أو حتى يأنفون الكلام معهم بعد أن زادت أرصدة حساباتهم وتعددت قصورهم وإرتادوا أجمل المدن بدماء وأجساد هؤلاء الفقراء العارية.
المصيبة إن الفقراء في وطننا وكأنهم يستلّذون بفقرهم بكل رحابة صدر وقناعة دون مقابل كما لو أنهم يُقادون إلى الموت وهم ينظرون إلى فقرهم الذي لا يرحم بإبتسامة الخنوع.
في معادلة الحياة الجميع مُتآمر على الفقراء إبتداءً من السلطة وصولاً إلى المجتمع الأغلب الذي ينظر إلى الفقير بإعتباره ممقوتاً أو مذموماً وإنتهاءً بتآمر الفقراء على أنفسهم حين منحوا حياتهم ومستقبلهم بالمجان دون أن يُطالبوا بحقوقهم المنهوبة وهم الأغلبية الصامتة.
رحلة العمل التي يقودها فقرائنا لا تعرف إن كانت إشتراكية أو رأسمالية أو نظام جديد تم إستحداثه في العراق في سنواته العشرينية بعد الإحتلال، حين كان العامل لو عاد به الزمن قليلاً إلى الوراء يضمن له مورداً وإن كان بسيطاً لكنه على الأقل رزق ثابت لقاء ساعات العمل الطويلة الشاقّة، في حين يخرج فقراء اليوم منذ ساعات الفجر إلى المسطر (مكان تجمّع العمال) دون أن يضمنوا إن كان سينالهم نصيب من العمل اليوم أو غداً.
من الممكن حل أي مشكلة في العراق إلا مشكلة فقرائه، فهي مُستعصية الحل لأنها بالأصل قضية إحساس ووعي وشعور.
دائماً ما تحاول السلطة تبرير سخطها على هؤلاء بوصفهم “قطيع لا يعرف مصلحته” وأنها لازالت تبحث عن حلول وهي في طور التأهيل والتعليم لهم.
لا يُدرك الفقير في الوطن أن فُقره ليس قدراً محتوماً أو دستوراً يجب التقيّد بقوانينه، بل هي عُقدة الإيثار التي تجعل الفقراء يمنحون سياسييهم وزعاماتهم كل ذلك الرخاء والرفاه والإنتعاش السلطوي والسهر على حماية مصالحهم وحتى سرقاتهم وفسادهم، وحين ينتهي الفقير من التبّرك بأحاديثهم وشرف النظر إلى اوداجهم المنتفخة لإظهار ولائه لهم من خلال سكوته وهوانه على نفسه ووقوفه على الرصيف ساعات طويلة بإنتظار فرصة عمل قد تأتي أو لا تأتي، يعود في المساء إلى بيته الذي هو عبارة عن مجموعة من الصفيح المصفوف عامودياً الذي لا يقيه الحر أو أمطار الشتاء في مساحات الوطن بأماكن تُدعى العشوائيات وهو يُردد كالعادة “الله كريم”، هي المؤامرة التي يُخططها الفقراء للانتقام من أنفسهم.