ليس الكائن الثقافي معطى طبيعي خالص ، أو انبثاق وجودي محض – رغم إن للعوامل البيولوجية والايكولوجية حصة في هذا التكوين النوعي والتشكيل المميز – إنما هو بالتعريف منتوج اجتماعي وتركيب إنساني ؛ نسجت تناقضات السوسيولوجيا صيرورته ، وبلورت احتقانات السيكولوجيا شخصيته ، ونمذجة صراعات الايديولوجيا وعيه ، وأطرت ارتكاسات الانثروبولوجيا مخياله . بمعنى إن كينونة (المثقف) الفعلي ليست حاصل تجميع معارف معطاة ، واحتواء مهارات متبناة ، واستيعاب تصورات منتقاة . بقدر ما هي تراكم خبرات حياتية متنوعة في معطياتها ، وتقطير قيم أخلاقية متباينة في توجهاتها ، واجتياف معتقدات دينية متصارعة في تفسيراتها ، واستبطان رموز نفسية متضاربة في إيحاءاتها ، وتبني أفكار متغايرة في مستوياتها ، وهضم حضارات كونية متنافسة في إبداعاتها ، وتنضيد ثقافات إنسانية متخلفة في خياراتها . ولهذا فمن الخطأ الفادح الاعتقاد بأن المرء قادر على أن يغدو شخصا”(مثقفا”) من الطراز الحديث ، لمجرد إن ظروف تكوينه الثقافي وعناصر تشكيله المعرفي ، تقاطعت في شخصه وتجسّدت في بيئته وتبلورت في علاقاته ، حتى أضحى يتعاطى فن الكتابة ويتقن حرفة التأليف ، ناهيك عن امتياز تحصيله العلمي واستحقاق تدرجه الأكاديمي . وعلى ذلك فقد كتب الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) ذات مرة موضحا”(( لو أردتم مثالا”على هذا التصور الشائع للمثقف ، لقلت إن صفة (المثقف) لا تطلق على علماء يعملون في حقل انشطار الذرة لتطوير أسلحة الحرب الذرية وتحسينها : فهم محض علماء ، لا أكثر ولا أقل . ولكن إذا ما انتاب هؤلاء العلماء أنفسهم الذعر لما تنطوي عليه الأسلحة التي تصنع بفضل جهودهم وأبحاثهم من طاقة تدميرية ، فاجتمعوا ووقعوا بيانا”لتحذير الرأي العام من استخدام القنبلة الذرية ، غدو من فورهم مثقفين )) . نعم قد تتهيأ للبعض – ممن فضّل هذا الخيار – فرصة أن يصبح (كاتبا”) معروفا”، أو (باحثا”)مشهورا”، أو (مفكرا”) مرموقا”. إلاّ إن كل هذه الألقاب اللامعة والنعوت البرّاقة ، لا تمنحه حقّ الادعاء كونه بات (مثقفا”) ، وفقا”لمعايير الفكر ومقاييس الثقافة ، طالما كان يفتقر لتلك الشروط والمواصفات التي نعتقد أنها تؤهله ؛ ليتبوأ هذه المكانة والتمتع بتلك الهالة والتبختر بتلك الهيبة والتجلبب بذلك الاعتبار . فالإنسان المثقف ليس شخصا”عاديا”يمكن لمؤسسات الدولة أن تستولد منه الكميات التي تريدها والنوعيات التي تحتاجها ، لحظة شاءت وأنى شاءت . كما انه ليس فردا”مستقلا”يتبرعم خارج رحم المجتمع ، وينمو بعيدا”عن نسغ ثقافته ورحيق قيمه ، كما لو أنه زؤان اشرأب على ضفاف حقوق تناقضاته ، واستقوى بدون الاندغام في أتون صراعاته . كما انه ليس (مونادا”) مجردا”يتصير بمنأى عن ملابسات التاريخ وتجاذبات الجغرافيا واستقطابات الهوية ، بحيث يبدو وكأنه أقرب إلى (مثل) أفلاطون منه إلى صيرورات الوقائع المعاشة ، وسيرورات الأحداث الملموسة . بل الأحرى أن ننظر إليه من واقع كونه إنسان قطع أشواطا”واسعة في مضمار ؛ تشذيب نوازعه البدائية بعد أن عقلن طباعه ، وتهذيب دوافعه العدوانية بعد أن أنسن علاقاته ، وكبح خرافاته التعصبية بعد أن شرعن تطلعاته . وخلافا”لما هو شائع عند المعنيين بشؤون الثقافة وشجون المثقفين ، لاسيما إهمالهم وعدم اكتراثهم بالفوارق السوسيولوجية والتباينات الابستمولوجية ؛ بين من يلقبون (بالمثقفين) من جهة ، وبين من ينعتون (بالمفكرين) من جهة أخرى ، خصوصا”لجهة الدور والوظيفة والمكانة والالتزام ، المفترض أن يقوم بها ويشرع منها ويحتكم إليها . حيث جرت العادة على اعتبار انه برغم إن كل من هؤلاء وأولئك ، يمارسون النشاط ذاته ويتعاطون الوظائف عينها ، إلاّ إن الاختلاف الذي يفصل ويعزل بينهما يتمثل بامتياز الوعي ، واحتياز المعرفة ، معتبرين إن كل مفكر هو مثقف بالضرورة والنتيجة ، هذا في حين إن ليس كل مثقف هو مفكر بالحصيلة والواقع . وهكذا فقد أورد الباحث (زكي العليو) رأيا”مؤداه انه (( يمكن استخدام المفكر والمثقف كمفهوم واحد تسامحا”، فما ينطبق على المثقف ينطبق على المفكر ، ولكن هناك مستوى آخر لا يوضعان كحالة متطابقة ، باعتبار أن كل مفكر هو مثقف وليس كل مثقف هو مفكر في حالة الاهتمام بالمعرفة والوعي ، ومن هنا ما يطالب به المفكرون يختلف نسبيا”عما يطالب به المثقفين )) . والواقع إن النهج الذي نأخذ به هنا يتعارض مع هذا الطرح ويتقاطع مع هذه الرؤية ، لأسباب سوف تتوضح مسوغاتها في سياق الحديث عن طبيعة المثقف ونوعية خصاله . وكتلميح مسبق لماهية التصور الذي سنأخذ به ونشرع منه ، نعتقد إن رأي المفكر (بوب باران) قد لامس ، وان بصيغة موجزة ومقتضبة ، مضمون وجهة نظرنا حيال هذه القضية حين كتب يقول (( إني أقترح انه ، عندما يتعلق الأمر بموقف إزاء القضايا التي تطرحها الصيرورة التاريخية بأكملها ، يجب أن نبحث عن الخط الفاصل بين العمال الفكريين وبين المثقفين )) . ولتحاشي نزعة الإطناب وتلافي رغبة الإسهاب في تعداد المناقب والفضائل ، التي ينبغي أن يتحلى بها المرء لكي يستحق شرف أن يكون (مثقفا”) ، ويغدو مشروعا”له الزهو بلقبه والتفاخر بكنيته ، فقد ارتأينا إدراج دلالات هذه وتلك ضمن مجموعة المعايير القياسية التالية ، والتي توخينا أن تكون بمثابة المفاتيح لشخصية المثقف ، والمدخل الواقعي لرحاب الثقافة .
أولا”- المعيار الوطني / الأخلاقي : لا ريب في إن شروعنا باختيار هذا المعيار قبل غيره وتفضيله على ما سواه ، ليكون باكورة انطلاقنا في البحث عن كينونة المثقف الأصيل ، إنما كان لغاية مقصودة لا يخفى مبررها على إدراك القارئ اللبيب . ذلك لأن من يفتقر لمتطلبات هذا المعيار المركزي ، أو يبدي العجز في مجهود تحصيله والمحافظة عليه ، سوف لا ولن تسعفه بقية المعايير الأخرى ، حتى ولو اجتمعت فيه وتوافرت لديه . فالذي يتهاون في مسائل ولائه الوطني ، ويفرّط في قضايا انتمائه الاجتماعي ، لن يرقى إلى مرتبة ذلك (المثقف) المعياري ، حتى وأن بلغ عتبة العبقرية العلمية وطاول تخوم الإعجاز المعرفي . فليس من الثقافة في شيء تلك الأفكار والتصورات التي تستدرج المرء للإعراض عن واجباته الوطنية والإشاحة عن التزاماته الأخلاقية . كما ليس من شيم المثقف الفعلي أن ينصاع لتلك النزعات والتطلعات ، التي تدعوه للتخلي عن مصالح مجتمعه والتنصل من تبعات هويته . ولعل المفكر المصري الدكتور (حسن حنفي) قد أصاب كبد الحقيقة حين قال فيما معناه ، وهو يرد على مقدم برنامج (من قريب) على قناة الحرة بتاريخ 15/5/2011 ؛ كيف لي أن أكون مثقفا”وأدعي الثقافة ، إذا لم أهجس بهموم المجتمع الذي أنتمي إليه ، وأرهص باختلاجات عقله وانفعالات وجدانه . أي بمعنى كيف للمثقف أن يطالب المجتمع الذي انبثق من صلبه وترعرع في بيئته وتغذى على قيمه ، أن يمحضه ذلك الامتياز المعرفي والتوقير الاعتباري ، ما لم يكون في المجال السياسي (رقيبا”) لا يداهن و (ناقدا”) لا يحابي ، يعري كل أوجه الفساد ويفضح أقنعة المفسدين ، لا أن يكون داعيا”ديماغوجيا”ومرودا”مستتبعا”؛ يهش عن مآرب هذه الفئة وينش عن مضارب تلك . كما أن من واجبه في المجال الاجتماعي أن يكون (ناشطا”) في كل المجلات و (فاعلا”) على جميع المستويات ، يرمم الصدوع هنا ويرتق الشقوق هناك من جهة ، ويقوي أواصر اللحمة الاجتماعية ، ويعزز مظاهر الإجماع الوطني من جهة أخرى . دون أن يغمط حقوق هذا الفريق لحساب ذاك ، وينتصر لدعاوى هذه الجماعة على حساب تلك ، بحيث لا يكون (منعزلا”) ومشاهدا”(منفعلا”) ؛ لا تحرك ساكنه تيارات التصارع في السلطات ، ولا تقضّ مضاجعه انهيارات التقاطع في الإرادات ، وكأنه لا ينتمي للمجتمع الضّاج بالحراك والتفاعل ، بقدر ما يعيش في جزيرة (روبنسون كروسو) المتخيلة . ولعل الذين يشترطون على المثقف المعاصر ، إذا ما سعى لأن تكون له قيمة في حقول الثقافة ، وتاق لأن يصبح له شأن في مضامير الفكر ، بالتحول إلى كائن عابر للأوطان والقوميات ، ومتخطي للثقافات والهويات ، ومتجاوز للتواريخ والذاكرات ، من منطلق إن سياقات ما بعد الحداثة تستلزم ابتداء ؛ رجم الأصوليات ، وهتك المحرمات ، وهجر السرديات . نقول إن المطالبة بتلك الاشتراطات التعسفية ستكون – قبل أن يكتسب مناعة الولاء الوطني ويتشرب قيم الانتماء الاجتماعي – وبالا”ونقمة عليه ، ليس فقط على مستوى تكيّفه الاجتماعي وتوازنه النفسي فحسب ، بل وكذلك على صعيد قيمة إنتاجه وثراء إبداعه الفكري . وهو الأمر الذي لا يلبث أن يحيله إلى (ثرثار) هلامي ، يدعي الانخراط بالعالمية ليس من منطلق إسهامه الحضاري ، وإنما على خلفية إحساسه بالاغتراب ، ويتظاهر بالانفتاح على الآخر ليس لأنه تخطى مسبقاته ، ولكن من واقع شعوره بالضياع . ولكي يتجذر الولاء الوطني ويترسخ الانتماء الاجتماعي ، لابد من اقترانهما بتوافر شعور المرء بالمسؤولية الأخلاقية والالتزام الأدبي ، ليس فقط تجاه فكرة الوطن المجردة ، التي طالما ارتكبت تحت يافطتها أفضع أنواع المظالم وأشنع ضروب الانتهاكات فحسب ، وإنما حيال المسلكيات الاجتماعية والقناعات الوجدانية أيضا”، التي تجسّد مضامين تلك الفكرة في الوعي ، وتبلور قيمها في الممارسة . إذ ليس هناك من هو أحرص من المثقفين على المبالغة في تضمين خطاباتهم (الشفوية والمكتوبة) صيغ الوطنية الطافحة بالرومانسية ،وتطعيمها بشذرات من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية ، إزاء واقع الوطن ووضع المجتمع . ولكن ما أن يتم مضاهاة تلك الأقوال بالأفعال والادعاءات بالممارسات ، حتى تتضح سعة الهوة وبعد الشقة ما بين هذه وتلك . وآية ذلك إن المثقف ، شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر ، مسوق للتعامل مع هذه المفاهيم والمقولات ، من منطلق وعيه الذاتي لمعناها السطحي / الإجرائي (الوجود فوق أرض محددة ، والعيش وسط أناس معينين ، والتوطن بموجب وثيقة مخصوصة) ، مثلما هو ملزم بالتعاطي مع تلك المؤسسات والعلاقات من منطلق إدراكه الشخصي لمضامينها التقليدية / الشائعة (الخضوع للدولة ، والامتثال للقانون ، والانصياع للنظام) . بحيث اعتاد – أو قل تكيف – على إن يكون مدى ارتباطه بها وتقييمه لها واحتكامه إليها ، لا يخرج أو يتجاوز عن سقف ارتباط العامة / الجمهور بها وتقييمهم لها واحتكامهم إليها . وهو الأمر الذي قد يفسر لنا حالات النكوص والارتكاس ، التي عادة ما نلاحظها عند بعض المثقفين من خفيفي الوزن الفكري وخفيضي العيار المعرفي ، حين تستدعيهم الظروف الطارئة وتستصرخهم الأوضاع الشاذة ، لإظهار حسن نواياهم وصدقية مواقفهم ، حيال الثوابت الوطنية والمرجعيات الرمزية ، التي تشكل خطوط حمراء وسواتر أخيرة لا يمكن التفريط بها والمساومة عليها ، وإلاّ اهتزت الأسس الاجتماعية ، واختلت المعايير الأخلاقية ،وتصدعت المقاييس القيمية ، التي أجمع على كونها من لوازم استقرار المجتمع وسلامة علاقاته وتوافق ذهنياته . وهكذا فان مضمون هذا المعيار الذي نشترط توفره لدى المثقف الحقيقي ، يستلزم اكتناه المعنى العميق / المبدئي لمفهوم الوطن والمواطن ، بقدر ما يتطلب استجلاء المغزى الجوهري / الإنساني لطبيعة المؤسسات والعلاقات ، التي تعين الحقوق وتحدد الواجبات في الحالة الأولى من جهة ، وتجسّر العلاقات وتؤطر الالتزامات في الحالة الثانية من جهة أخرى . بمعنى إن يكون الموقف العملي والإحساس الوجداني للمثقف ، إزاء القضايا الوطنية والمسائل ذات الشأن العام ،بمثابة (بارومتر) يقاس من خلاله مستوى عمق انتمائه الاجتماعي ومتانة صلات ولائه الوطني ،تلك التي قلما روعيت أهميتها وقدرت ضرورتها وثمنت قيمتها ، بزعم الانخراط في تيارات الحداثة وما بعدها .
ثانيا”- المعيار العلمي / المعرفي: لابد لعقل الإنسان أن يكون عقل موسوعي مشيع ؛ بالثقافات الإنسانية الحيّة ، وملئ بالمعارف الاجتماعية المتجددة ، ومكتنز بالأفكار العلمية المستحدثة ، وإلاّ فانه سرعان ما يستنفد رصيده ويستهلك طاقته ويضمحل عطائه ويتلاشى تأثيره . ويصبح ، بالتالي ، عالة على المجتمع ومتطفلا”عليه ، بدلا” من أن يكون منتجا”له وفاعلا”فيه . كما ويغدو عنصر عطالة يشل إرادته ويشده نحو الحضيض ، بدلا”من أن يكون مصدر حثّ لقدراته وقوة دفع لمعنوياته ، لتسمو به صوب قمم المجد وذرى التقدم . إذ لا شيء يسلب المرء حق الادعاء بالثقافة ، ويسقط عنه هالة الزعم بالمثقف ، مثل ابتلائه بعاهات التحجر الإيديولوجي والتصحر المعرفي والتنمر الأخلاقي والتبربر الحضاري . لاسيما وان تلك العاهات – وان بدت منفصلة ومختلفة بعضها عن بعض – تستلزم كل واحدة منها الأخرى وتستدعي وجودها على نحو عضوي . وحين نستحسن للمثقف أن يتحلى بفضائل هذا المعيار المهم ، للدلالة على كونه استحق هذا اللقب وبلغ الشأو إلي يؤهله حيازة ما يسبغ عليه من مزايا ؛ الجاه الاجتماعي والسلطان السياسي والاعتبار الرمزي والنفوذ الكاريزمي . لا نسعى لحثه – في الوقت ذاته – كي يبرع في استذكار النصوص الغامضة عن ظهر قلب ، دون اكتناه روحها واستخلاص مغزاها وتأويل معناها . كما لا نتوخى تشجيعه لاستحضار النظريات الصعبة عن سابق دراية واطلاع ، دون استلهام دروسها واستيحاء دلالاتها واستنباط معانيا ، والصيرورة ، من ثم ، إلى مجرد أرشيف لحفظ المعلومات وخزن البيانات . بقدر ما نريد له أن يقرن قدراته المعرفية ومهاراته العلمية ، بالواقع الاجتماعي المعاش والوضع التاريخي الملموس ، بدلا”من اتصافه بالحرص على بقائها نقيّة ، والهوس على جعلها طاهرة ، والتحمس على إظهارها بريئة . كما ويترجم حصيلة مداركه وخلاصة تجاربه ، إلى ممارسات حياتية نابضة وعلاقات إنسانية فاعلة ، بدلا”من الاكتفاء بها والتقوقع فيها والانغلاق عليها . فمن خصائص نبوغ الوعي العلمي ونضوج الإدراك المعرفي ، لا النأي عن صدامات الواقع وتناقضات التجربة ، إنما الإصغاء لضجيج الأول والاستجابة لمفارقات الثانية . لا التحليق في عوالم المجردات والطوباويات ، إنما الانغماس في دنيا الموجودات والواقعيات . لا الانصراف عن وقائع التاريخ وحقائق الاجتماع ، إنما الابتعاد عن أصنام الإيديولوجيات وأوهام الأسطوريات . ولذلك فليس بلا مبرر أن يرى الباحث السعودي (زكي الميلاد) انه (( لا يكفي من المثقف أن يحسن الكلام ويكون أكثر شيء جدلا”، بل علي أ ن يصدق كلامه بالعمل ، لكي يكون ملتزما”بقيمه وأخلاقياته ، وصادقا”مع نفسه ووطنه وأمته )) . ولعل الكثير ممن واتتهم الظروف وسنحت لهم الفرص ،لكي يحرزوا تقدما”- حقا”أو باطلا”- في مضمار تحصيلهم العلمي أو في مجال تدرجهم الأكاديمي ، قد حسبوا أنفسهم من أعضاء رهط المثقفين البارزين ، وإنهم باتوا وفقا”لذلك يصنفون في عداد النخب المثقفة ، دون اعتبار لضرورة عما إذا كانوا يتوفرون فعلا”على أي رصيد معرفي خارج نطاق تخصصهم الضيق ، يضع بين أيديهم ثمار المعارف الاجتماعي والإنسانية من جهة ، ويتيح لهم القدرة ، من جهة أخرى ، على ممارسة التحليل النظري والتأويل الفكري والتأصيل المنهجي . مؤثرين مضمون الفكرة الساذجة التي مؤداها ؛ إن كل من نال حظا”/ قسطا”من التعليم هو بالضرورة إنسان مثقف ، لاسيما وان الأوضاع الاجتماعية الصعبة ، والظروف الاقتصادية القاسية ، والمعطيات الثقافية المجدبة ، إبان عهود الاحتلال الاستعماري لبلدان العالم الثالث ، كانت تسوّغ مثل هذه القناعات وتبرر مثل تلك الاعتقادات . هذا بالإضافة إلى إن تواريخ تلك البلدان كانت شاهدا”على عمق جهل أفرادها وتخلف جماعاتها ؛ لا في مضامير السياسة والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والحضارة فحسب ، وإنما في مجالات الثقافة والوعي والعلم والتعليم والهوية كذلك . وهو الأمر الذي ساعد على رواج وتداول مثل هكذا تصورات ، ليس فقط على مستوى العامة من الناس فحسب ، بل وعلى صعيد الخاصة من عليّة القوم أيضا”، بحيث سوّغ للمصلح الديني المعروف (جمال الدين الأفغاني) الربط ما بين مفهوم (المثقف) ونظيره (المتعلم) ، على خلفية ما تواضع بين الباحثين حول (( طبيعة الحياة الاجتماعية – كما أشار الأكاديمي العراقي حميد الهاشمي – في منطقة الشرق الأوسط في تلك المرحلة ، من حيث ندرة المتعلمين فضلا”عن المثقفين ، أو أن الشائع وقتها بل لحد الآن ولدى الكثير من إن المتعلم هو المثقف )) . والحقيقة إن حصيلة التعليم ومستواه العلمي ، وان كان ضروريا”لصيرورة الكائن الاجتماعي (مثقفا”) ، إلاّ انه لا يشكل شرطا”إلزاميا”لكينونته المعرفية . فالتجربة الاجتماعية قضيت لنا التعاطي مع حالات عديدة ومتنوعة ، برهن من خلالها بعض الأشخاص النابهين ، الذين استطاعوا أن يمخروا عباب الثقافة ويمتلكوا ناصية الفكر ويطوعوا عناصر الوعي ، دون أن يكون لهم باع يعتّد به في مجال التعليم العالي / المتقدم . باستثناء ما كان هاجس التطلع الذاتي والتوق الشخصي يدفعهم ؛ لاكتناه ما في الطبيعة من علاقات ، وما في الواقع من تناقضات ، وما في المجتمع من صراعات ، وما في التاريخ من التباسات ، وما في الوعي من تمثلات ، وما في الدين من إشكالات ، وما في الوجدان من تطلعات . بيد إن الإشارة إلى عدم وجوب اقتران المستوى الدراسي / التعليمي بصيرورة المثقف ، لا تعني – في مطلق الأحوال – إن (ملاك) الثقافة سيهبط تلقائيا”على (المثقف) كما يهبط الوحي من ملكوت السماء ، أو أن (شيطانها) سيبزغ له عفويا”من بين شقوق العدم ومسام الفراغ . إذ بقدر ما باتت الثقافة (كمفهوم) شائعة ومتداولة بين العامة والخاصة ، بين الأمي والمتعلم ، بين الأجير والخبير ، إلاّ أنها (كدلالات) أضحت تعاني الإرباك والتشوش بل وحتى الغموض . ذلك لأن نصاب الثقافة القيمي لا يكتمل وشرطها المعياري لا يستوفى ، ما لم تمتزج عناصرها وتتلابس مكوناتها وتتلاقح قيمها وتتناسج مقولاتها . والحال انه إذا كان جائزا”للمثقف أن يقوم بدوره باقتدار ، ويمارس وظيفته بكفاءة ، ويحتل مكانته بجدارة ، دون أن يكون ملزما”بتقديم شهادة رسمية تثبت مستوى تعليمه العلمي / العالي ، فانه من الضرورة بمكان أن يتسم تفكيره ، خلال احتكاكه بالواقع ، بالطابع العلمي الجدلي ، وان يحلل تناقضات المجتمع ويعلل صراعات مكوناته ، من منظور المنهج العلمي القائم على التفكيك والتركيب ، والتحليل والتأويل ، وإلاّ بطلت حججه وتدنت أحكامه وتراجعت طروحاته . وبقدر ما يكون الوعي العلمي للمثقف مشروط بتنوع المعارف ، التي يستوعبها واختلاف الأفكار التي يتمثلها ، فان رصيده المعرفي سيزداد غنى وأفق مداركه سيتضاعف سعة .
ثالثا”- المعيار الحضاري / الإنساني : غالبا”ما أشيع بين عامة الناس ناهيك عن خاصتهم ؛ إن الموقف الحضاري للفاعل الاجتماعي ، ما هو إلاّ تعبير عن تعصبه لتراثه الوطني وانتصارا”لتاريخه القومي ، فضلا”عن انه كلما أظهر ميلا”للتمسك بهويته والحفاظ على ذاكرته ، كلما كان أقرب إلى الروح الكوني وأدنى إلى الجوهر الإنساني ، من منطلق حقيقة فاد الشيء لا يعطيه . أي إن الذي يفرط بأصوله الحضارية حتى وان كانت ضئيلة الشأن ، أو يسترخص منظومته القيمية حتى وان كانت ضعيفة الأرومة ، لا يمكنه أن يتصرف تجاه الآخر بأسلوب ينم عن التعاطف مع تطلعاته وخصوصيته ، كما التثاقف مع علومه ومعارفه . بعبارة أخرى إن رهافة الإحساس الحضاري ودماثة الشعور الإنساني ، ينبثقان / يتولدان كحصيلة مسبقة لوعي الذات بأناها الجمعي وذاكرتها التاريخية ، قبل أن يكونا خيارا”مطروحا”للمفاضلة بين جملة خيارات ، يتيحها الوضع الانطولوجي للمجتمع في مرحلة من مراحله أوفي طور من أطواره . إذ كيف يتسنى للإنسان فهم وتقييم الكيفية التي من خلالها ، تنوعت ثقافات الشعوب وتطورت حضارات الأمم ، ومن ثم بلغت هذا الشأو السامق من التراكم العلمي والتنضيد المعرفي والتقدم الاجتماعي ، ما لم يكون قد جاب دروب تاريخه الخاص وجاس تضاريس حضارته المميزة ، واجتاف من ثم أنماط ثقافته المحلية ، وتمثل منظومات قيمه الرمزية . لا من أجل التخندق فيها والتحصن خلفها ، لادعاء التميّز السلالي والتفوق العقلي والتفرد الثقافي ، بحيث يتموضع وعيه الذاتي لمفهوم الحضارة ضمن تصور أشار إليه الفيلسوف الألماني (فردريك نيتشه) بالقول (( إن معنى كل حضارة من الحضارات هو بالضبط تدجين الأوابد البشرية ، ليجعل منها ،عن طريق تربيتها ، حيوانات طيّعة متمدنة )) . وإنما لكي يردك قيمة المجهود الاجتماعي وعظمة الانجاز الإنساني ، الذي بذلته الشعوب المختلفة وتجشمت عناءه الأمم المغايرة لبلوغ تلك الصروح ، وتاليا”عدم تبخيس و / أو تدنيس ما لدى الآخرين مما يعتزون به ويحافظون عليه وبنافحون عنه . ولذلك يختصر ملفا (جدل التنوير) هذه الديناميات الجدلية بعبارة موجزة قائلين (( إن العمق الداخلي للذات لم يتكون بشيء آخر سوى سلاسة وغنى عالم الإدراك الخارجي ، فإذا ما تمت القطيعة بين هذه التداخلات المتبادلة ،يصبح الأنا جامدا”)) . ومن منطلق هذه الاعتبارات التاريخية والاجتماعية والثقافية والنفسية ، يتوجب على شخص (المثقف) ألاّ يلم فقط بطبيعة الثقافات المتنوعة وماهية الحضارات المختلفة ، باعتبارها نماذج مجسّدة لأشكال من الصيرورة الإنسانية ، القابلة للدراسة والموضوعة للمقارنة والمباحة للتصنيف فحسب ، ولكن ينبغي عليه أيضا”أن يتعاطى مع خصوصياتها وتفردها ؛ لا من منطلق الحذر والتوجس والخوف ، بقدر ما يشرع من واقع التواصل والتفاعل والتداول . باعتبار إن (( الأفكار ، الثقافات ، والتواريخ – كما كتب المفكر الراحل اداوارد سعيد – لا يمكن أن تفهم بجدية دون أن تدرس قوتها ،أو بشكل أدق ، تشخصّات قوتها )) . وذلك ليس لأنه فحسب كائن اجتماعي مهجوس بالبحث عن شروط التعايش بين الأقوام ومستلزمات التسامح بين الأديان ، بل ولكون إنسان وئد في نفسه أوهام التعصب لأصوله السوسيولوجية (الأمة وأساطيرها والقومية وخرافاتها والقبلية وأباطيلها والطبقة وأوهامها) ، واجتثّ من وعيه أباطيل التطرف لمرجعياته الانثروبولوجية (الدين ومقدساته والمذهب ومحرماته والهوية وأصنامها والذاكرة وأشباحها واللغة وأوثانها) . ولأن مبادئ التمدن الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والتطور العلمي والارتقاء المعرفي ، أضحت تعتمد – بالدرجة الأساس – على أرضية من تواشج الصلات بين الذات والآخر ، وتواصل العلاقات بين الأنا والأنت ، وتلاقح الثقافات بين النحن والهم . فقد لمس مفكري العالم الغربي فوائد الإقلاع عن دوافع المركزية الحضارية ، فضلا”عن مزايا العدول عن نوازع الاستشراقي المثيولوجي ، التي هيمنت على مباحث الكثير من العلوم الاجتماعية والإنسانية لعقود خلت . من واقع إن المجتمعات تتقدم بالتواصل لا بالانفصال ، وان الفكريات تتطور بالتثاقف لا بالتخالف ، وان الحضارات تترقى بالتلاقح لا بالتكافح . وهو الأمر الذي حملهم – باستثناء القلة ممن لا تزال النوازع العنصرية تعشعش في أفكارهم وتستوطن نفوسهم – على إعادة التفكير بمواقفهم السابقة وتصوراتهم المسبقة ، لاسيما تلك التي كانت تغذي لديهم أوهام الرسالة الحضارية للرجل الأبيض ، تجاه الشعوب البدائية والأمم الهمجية . وشرعوا ، من ثم ، بنبذ التصورات التقليدية والتخلي عن القناعات البالية ، والتأكيد على ضرورة توثيق الروابط الإنسانية بين المجتمعات المختلفة ، وتجسير العلاقات الثقافية بين الحضارات المتباينة ، لما لهذا المنحى العقلاني من آثار ايجابية تطال الجميع وتشمل الكل ،لجهة خلق الظروف المساعدة على إشاعة أجواء التفاهمات والحوارات ، بدلا” من تأجيج أوار الحساسيات والكراهيات . ذلك لأن (( الإنسانية – كما يوضح أحد الباحثين الغربيين – لم تعد إنسانية مميزة بتبعيتها للزمان ، بل بتنوعها المكاني على مرّ الوقت ، وبتعدد المدنيات التي لا يحق لواحد منها أنتكون الوحيدة أو الفريدة )) .
رابعا”- المعيار النقدي / التأويلي : إن وضع هذا المعيار في آخر مصفوفة المعايير ، الذي – باعتقادنا المتواضع – بالتئام عناصره والتحام مكوناته داخل شخصية المرء ، تتيح له بلوغ تخوم (الثقافة) وتمنحه حق التكني (كمثقف) . لا يعني ، في مطلق الأحوال ، إننا نعامله كما لو أنه لا يحتل المرتبة ذاتها من الأهمية ، التي محضناها للمعايير السابقة ، بل على العكس من ذلك تماما”. إذ إن المنظور الذي نأخذ به – ضمن هذه المقالة – لا يضع في اعتباره قضية تسلسل الأولويات الشكلية ، التي عادة ما تكون ظاهرة ملموسة في معظم البحوث والدراسات التي من هذا القبيل . بحيث تتضاءل قيمة الموضوع وتتدنى أهميته ، كلما تموضع في المراتب الدنيا أو التالية للتصنيف . نحن نعتقد إن افتراضنا لتلك المعايير واختيارنا لهذا التسلسل ، لا يجعل منها تمتلك بذاتها أية قيمة أو أهمية خارج سياقها ، ما لم تكتسب ذلك عبر صيرورتها ما يشبه السبيكة ، التي تكتسب متانتها وصلابتها ليس من مجرد تجميع أجزائها / مكوناتها ، بقدر ما تستخلصه من تشابك تلك الأجزاء وتفاعل تلك المكونات . ولما كان اقتران صفات النقد بالتأويل وبالعكس ، يعتبر من المسلمات / البديهيات التي ينظر إليها في الوقت الحاضر ، فان هذه الضرورة المنهجية لم يكن – في مرحلة طغيان الإيديولوجيات الراديكالية – يؤخذ بها أو يعتمد عليها ، باعتبارها من متطلبات الغنى الثقافي للمرء ومستلزمات ثرائه المعرفي ، فضلا”عن عمق وعيه ورحابة تفكيره . إذ بقدر ما كان المثقف الإيديولوجي مخلصا”لمبادئ حزبه ومنافحا”عن قيم عقيدته ومدافعا”عن عرين طبقته ، بقدر ما كان يحتل الصفوف الأمامية لشرائح النخب ؛ اليمينية واليسارية ، القومية والأممية ، الإسلامية والعلمانية . بحيث إن مجرد ذكر – ناهيك عن الممارسة – المنهجيات النقدية والتفكيكية والتأويلية ، كان يعدّ ، في ذلك الوقت ، من الانحرافات السياسية المحرمات الفكرية والهرطقات الأخلاقية . ولأن أنماط الوعي التي كانت سائدة ، وأنساق الثقافة التي كانت رائجة ، لم تستدعي ما يحفز المثقف على التطلع خارج أطر المعتقدات التقليدية ، أو التجرؤ على التحديق بعيدا”عن سساتيم الأفكار البالية ، وهو الأمر الذي أوحى إليه (= المثقف) بان ما يسترشد به من إيديولوجيات ، إنما يعتبر الذروة في سيرورة الوعي – وهنا تحتل الماركسية الكاريكاتورية بنسختيها الغربية والعربية الصدارة في هذا المضمار – وان ما يحتكم إليه من نظريات ، إنما يمثل الصيحة الأخيرة في عالم الفكر . وهكذا أهملت فضائل النقد في مجالات الأولى ، وأسقطت مزايا التأويل في مضامير الثانية ، بحيث تحول المثقف بالتقادم الزمني والتخادم المصلحي ، إلى ما يشبه الحارس المنافح عن مصالح القوى والتيارات ذات اللون الواحد والاتجاه الأوحد ، حتى وان بدت – من حيث النتيجة والحصيلة – معارضة لاتجاهات الواقع ومناهضة لإرهاصات المجتمع ، أو تستحيل وظيفته إلى ما يماثل وظيفة الكاهن / رجل الدين ، لجهة تكفير المخالفين وتخوين المعارضين وتأثيم المجددين من جهة ، وتوقير السلطات الدكتاتوريات وتوثين القيادات الكارزمية وتعظيم الإيديولوجيات الشمولية من جهة أخرى . إلاّ انه ، وفي ضوء ما استوجبه التغيير الكاسح في مجال الفكريات والمنهجيات ، وما استتبعه التحول العاصف في مضمار الاتصالات والعلاقات ، وما استلزمه الانقلاب الجذري في حقول المعتقدات والسلوكيات . لم يعد يجدي معها الاحتكام إلى ما تواضع عليه المثقفين طيلة عقود القرن العشرين المنصرم ، لا في ميادين النظريات والإيديولوجيات ، أو مضامير الفكريات والمنهجيات فحسب ، بل وكذلك في مجالات المقولات والبراديغمات أيضا”. للحد الذي دفع بالعالم الاجتماعي الفرنسي (آلان تورين) ، إلى الإعلان عن وصول العالم إلى تخوم مرحلة جديدة ، بات فيها انزياح المعطى (الاجتماعي) لصالح نظيره (اللااجتماعي) يشكل الملمح الرئيسي في عمليات التحليل والتأويل ، بعد أن ساقته جدليات التفاعل وديناميات الانفعال إلى ولوج عصر الخطاب (الثقافي) ، الذي أعقب أفول الخطابات الاقتصادية والسياسية على التوالي . ولهذا فقد (( لبثنا لفترة طويلة نتوسل ، في وصفنا وتحليلنا الواقع الاجتماعي ، مصطلحات سياسية ، كالفوضى والنظام ، والسلام والحرب ، والسلطة والدولة ، والملك والأمة والجمهورية ، والشعب والثورة . حتى إذا تحررت الثورة الصناعية والرأسمالية من قبضة السلطة السياسية وظهرتا (قاعدة) للتنظيم الاجتماعي ، عمدنا إلى الاستعاضة عن البراديغما السياسية ببراديغما اقتصادية واجتماعية ، بحيث أصبحت الطبقات الاجتماعية والثورة ، والبرجوازية والبروليتاريا ، والنقابات والإضرابات ، والتناضد الاجتماعي والحراك الاجتماعي ، والتفاوت وإعادة التوزيع ، هي مقولاتنا التحليلية الأكثر تداولا”. أما اليوم ، وبعد انقضاء قرنين على انتصار الاقتصاد على السياسة ، فقد باتت هذه المقولات (الاجتماعية) مبهمة ، تترك في الظل قسما”كبيرا”من تجربتنا المعاشة ، وبتنا معها بحاجة إلى براديغما جديدة ، لأنه لم يعد في وسعنا العودة إلى البراديغما السياسية ، لاسيما وأن القضايا الثقافية بلغت من الأهمية حدا”بفرض على الفكر الاجتماعي الانتظام حولها )) . وهكذا فإذا كان مثقفي الغرب قد استشعروا ضرورة الاستعاضة عن الخطابات والمقولات القديمة بخطابات ومقولات أخرى جديدة ، تحايث التغيير في العقليات وتواكب التطوير في المنهجيات ، بعد أن بلغت حدود النقد للفكريات والتأويل للسرديات مستويات بالغة العمق والشمول ، على يد كبار الفلاسفة والمفكرين القدماء والمحدثين . فان مثقفي بلدان العالم الثالث عامة والعراقيين خاصة ، مطالبين اليوم وقبل أي وقت مضى ، ليس فقط بالكف عن اجترار ما فات أوانه واستنفد حداثته ، من نظريات وإيديولوجيات غادرها العصر وتنكر لها الواقع ، بل والإقلاع عن تكرار ما فقد سياقه التاريخي واستهلك رصيده المعرفي ، من مقولات ومنهجيات باتت تصلح لللارشفة والتوثيق الكرولونوجي (المرحلي) . ولذلك لا يشفع ، بعد الآن ، لمن يزعم امتلاكه مقومات كونه (مثقف) ، ويدعي حيازته لشروط انتسابه (للثقافة) ، حتى وان كان له باع طويل بالكتابة ، أو بات له صيت ذائع بالخطابة ، ما لم يكن قد تسلح بالمنهجيات الحديثة ، التي لا تستدعي مسبقا”أن يقف المثقف على آخر ما أبدعه الفكر البشري من فلسفات وثقافات وإيديولوجيات فحسب ، وإنما توجب عليه أن يراجع مسبقاته الفكرية ، وأن يعيد النظر بقناعاته المعرفية ، وأن يحدّث تواضعاته المنهجية ، وأن يغربل مخزوناته المفاهيمية . ولهذا فقد اعتبر المفكر اللبناني (علي حرب) إن همّ (( رجل الفكر هو الفهم والتشخيص ، وشاغله اغناء المعرفة وتوسيع عالم المفهوم . ولذا فهو يقيم مع فكره علاقة نقدية ، متحركة ومفتوحة ، هي عودة على المسلمات والبداهات بالمساءلة والفحص ، بقدر ما هي بناء متواصل للفكر ، على سبيل السبّر والكشف أو التحليل والتشكيل أو التفكيك والتركيب ، وبصورة تتيح للمرء إعادة صياغة أدواته المفهومية وإستراتيجيته العقلية ، لاستيعاب المستجد من المواقف والمعطيات ، أو قراءة الجديد من الأحداث والوقائع )) .
[email protected]