يبدو أن اللهجة السامرائية ربما أقرب اللهجات إلى اللغة العربية الفصحى , فما هو دارج على لسان العامة أصله فصيح مع بعض التحوير البسيط , وكلمة “دبشية” و ” دبشي” , كانت متداولة في لهجة أهالي سامراء وعند المَوْصليين.
وأول ما إنتبهت إليها , كانت لدينا مزرعة في منطقة “الحاوي” أو تسمى ” حاوي البساط” وقد غمرتها المياه في السبعينات بسبب إقامة السدة الترابية التي حصرت المياه ودفعتها بإتجاه منطقة الحاوي.
كنت في وقتها أحمل رقية كبيرة الحجم (دّنْ) قطفتها من المزرعة , فواجهني فلاحها قائلا ” الدبشية ستنفطر في يديك” , ويقصد أنها ستنشق من شدة إرتوائها من الماء بأبسط حركة تتسبب بإهتزازها.
ففهمت أن الدبشية هي الرقية الكبيرة , ولا أعرف مدى صحة فهمي آنذاك , ولكن لماذا دبشية وليست رقيّة؟!!
وذات يوم في صباي كنت أنا وأخي الذي كان دون السادسة من العمر برفقة والدنا في زيارة للبدو الذين كانوا يرعون أغنامه , وقد جاءني أخي الصغير مذعورا من داخل بيت الشَعر وهو يقول ” إنها تريد أن تذبح لي دبشية” , وقد تصور أن الدبشية حيوان أو شيئ ما غريب عليه , فهدأت من روعه وأفهمته بأنها تقصد رقية.
واليوم لا أعرف لماذا حضرت كلمة “دبشية” في مخيلتي وراحت تضغط وتريدني أن أتناولها كموضوع , فتساءلت عن معانيها ورحت أبحث عنها!!
حسبتها تركية أو فارسية وربما هندية أو غيرها لكني لم أجد لها أصلا في اللغات الأخرى , ومن الصعب ربطها بالرقي , لكن الرقي في مدينتنا يسمى أحيانا ” دبشي” ولا أعرف هل لا تزال هذه التسمية مستعملة.
فذهبت إلى معاجم اللغة العربية , وفقا لنظريتي بأن اللهجة السامرائية أقرب إلى الفصحى من اللهجات الأخرى , فلنبحر في معانيها المعجمية.
دبَشِ جمعها أدباش.
دبشِ الجراد الأرض: أكل كلآها
وسيل دبّاش: عظيم يجرف كل شيئ
أرض مدبوشة: إذا أكل الجراد نبتها
دبشت الأرض دبشا إذا أكل ما عليها من نبات.
دبشة: أكلة
دبشه: قشّره
دبش الطعام: أكله
دَبْشَة: قطع الحجارة الكبيرة
في اللهجة السامرائية يُقال” نكسر الرقية” , أي نشقها بالسكين , ولا يُقال “نذبحها” فهذا قول غريب وشاذ , والذبح له علاقة بالدم , وربما أشارت تلك البدوية إلى أن الرقية حمراء مثل الدم , ولهذا تم الربط بين الذبح والسائل الأحمر الذي سيخرج منها أثناء شقها بالسكين.
والمعنى أنها رقية كبيرة مرتوية حمراء المحتوى وليست “بورانية” يعني بيضاء المحتوى أو ” نص حباية” وتعني وردية اللون وليست حمراء وبذورها لم تبلغ النضج!!
و”ركي عالسكين” مصطلح معروف عند باعة الرقي, أي أنه يكون أحمر اللون ويقطر دما , والبائع واثق من ذلك فيشقها بالسكين أمام المشتري .
وعودة إلى معنى “دبشية” , أنها رقية كبيرة الحجم وتطعم عددا من الناس ومرتوية تماما , أو كأنها شربت الماء الكثير أو إن شئت ” شفطته” فتعاظم حجمها واحتقن فيها عصيرها لدرجة أنها ستتشقق أو ستتفطر وستتفلع لأبسط حركة تهزها , وكأنها تنفجر.
وكلمة “دِبَشْ” أيضا تطلق على البهائم لأنها تدبش الأرض أي تأكل ما عليها , ويُقال لبعض الناس ” دِبّشْ” أي أنهم نهامون ولا يعرفون سوى الأكل , فهم يأكلون كل شيئ و ” يلحفون” أي يأخذون ما تقع عليه أيديهم.
والتدبيش سلوك واضح في العديد من الأنظمة المسيطرة على الحكم في المجتمعات التي ينخرها الفساد ويعم فيها الدمار والإحتراب , فلا تجد غير الدباشيين الذين ينهبون ويسلبون ويستحوذون على ممتلكات الناس ويصادرون حقوقهم , ويؤسسون لأنظمة تدبش أوطانها كما يدبش الجراد الأرض المزروعة.
وهناك الكراسي ” الدبّاشة” التي تمعن بالسرقات والخاوات وغيرها من السلوكيات العدوانية على حقوق الآخرين , وتتبجح بما ليس فيها وتمضي في إهلاك البلاد والعباد.
ومن أفظع النوازل التي تصيب الأمم والشعوب أن يسيطر عليها الأدباش ,أو الدوابش , لأنهم سيدبشون كل شيئ , وسيتركونها جرداء خاوية ذات بؤس وقحط وخراب.
فهل نعيش في زمن دبشاوي الطباع؟!!
وهل أن الدوابش في الكراسي , وحولهم أعلام؟!!
د-صادق السامرائي