ان تعمل في السياسة لا يعني بالضرورة ان تكون حاصلا على شهادة في العلوم السياسية , وفي نفس الوقت لا يعني ان تكون ناجحا فيها , فكم من شخصيات دخلوا المجال السياسي وخرجوا منه دون تحقيق شيء , او دخلوا فيها ثم دفعت شعوب باكملها ثمن دخولهم . وهناك في بلاد المصباح السحري شخصيات دخلوا المعترك السياسي في غفلة من الزمن , سوقوا انفسهم كساسة لم يزيدوا في الطين الا بلة , افرخوا اجيالا مستنسخة عنهم , اتخموا المشهد السياسي بصورمشوهة عما يجب ان يكون عليه السياسي الحقيقي .
ان المشكلة التي تواجه منطقة الشرق الاوسط عموما هو انه لم تتبلور فيها اي مدارس سياسية على مر العصور , فجميع الافكار السياسية التي تلقفتها الشرائح الحاكمة او المعارضة فيها كانت مستوردة من الخارج , سواء كان الفكر الديمقراطي او الراسمالي او الاشتراكي وحتى القومي , فكلها مستوردة من خارج المنطقة . ولان من يتصدرون المشهد السياسي ” حكومات ومعارضة” في المنطقة لم يكونوا يوما بالمستوى المطلوب , انشاوا احزابا وجماعات مزجوا هذه الافكار دون استيعاب حقيقي لها , متخذين من الفكر القومي والديني اساسا لها باعتبارهما افكارا مبسطة لا تحتاج الى عمق ايدلوجي ويمكن نشرها بسهولة في مجتمعات المنطقة اذا ما قارنناها بالفكر الراسمالي والاشتراكي , فتشكلت احزاب قومية تبنت الفكر الاشتراكي او الراسمالي , جنبا الى جنب مع احزاب دينية طوعت الاسلام للنظرية الاشتراكية او الراسمالية , ادعت جميعها تبني الديمقراطية كشعار دون ممارسة حقيقية لها ….عانت تلك الاحزاب من ضعف بنيتها الفكرية , وافتقارها للخبرة السياسية الكافية , ما ادى الى ان تدفع المنطقة “ولا تزال” الثمن , فالمدرسة القومية تبناها ضباط انقلابيون , بينما تبنى الاسلام السياسي جماعات شعبوية اتخذت في الاغلب جانب المعارضة وانتهت الى ما نشهده اليوم .
هذا فيما يخص المنطقة بشكل عام .. اما فيما يخص العراق , فرغم ان معاناته استفحلت بعد الالفين وثلاثة , الا انها لم تكن وليدة ذلك التوقيت , بل سبقته بكثير , حينما قرر عدد من الضباط ان ينقلبوا على الحكم الملكي عام 1958 , دون اخذ راي الشعب في ذلك , بل يبدو ان الفكرة قد اختمرت عندهم في ليلة صيف قائض فقرروا تنفيذها ونجحوا فيها. ولان هناك فرق بين الفعل الانقلابي وبين ادارة دولة , لم يستطع الانقلابيون الاحتفاظ بالسلطة لفترة طويلة فبرزت ظاهرة الانقلابات المتعاقبة في العراق خمسينات القرن الماضي وستيناته , الى ان آل الحكم في النهاية الى صدام حسين الذي استنزف قدرات العراق الاقتصادية والبشرية , وادخله في سلسلة معارك وحروب داخلية وخارجية طائشة كانت اخرها حرب اسقاطه , والتي دخل العراق بعدها في حقبة جديدة كانت اكثر بؤسا مما سبقتها…وما ميز حقبة الانقلابات ان الانقلابيين كانوا يتبنون الفكر القومي الاشتراكي تارة والفكر القومي الاسلامي تارة اخرى , لاعطاء انقلاباتهم ابعادا سياسية, غير انهم لم يجيدوا ايا منهما , فاضاعوا الخيط والعصفور كما يقول المثل الشعبي .
بعد الالفين وثلاثة انفتح العراق على الديمقراطية من بطريقة خاطئة , وذلك من خلال محتل فرض عليه الديمقراطية فرضا , في وقت كان المكون العربي ( الذي يعتبر الاغلبية) في العراق يفتقر فيه الى احزاب ماعدا الاحزاب الاسلامية , ولك ان تتخيل كيف يمكن ان تشارك احزاب اسلامية في تجربة بناء عملية ديمقراطية…بالتاكيد لن يتجاوز تجاوبهم معها الحد الذي تجاوب فيه الاسلاميون الايرانيون مع التجربة الديمقراطية في بلدهم .
ولم تقف المشكلة في العراق عند هذا الحد , فالمعروف عن الاحزاب الاسلامية انها تتبنى نظرية لا تتماشى مع ادوات السياسية الحديثة , وتفتقر للكفاءات التي يمكن الاعتماد عليها في ادارة دولة معاصرة , وزاد من مشكلتها انها وبعد استلامها السلطة في العراق اعتمدت على الكم وليس النوع , وضمت اليها كل من يقدم لها فروض الولاء والطاعة بغض النضر عن كفائته , فدخل العملية السياسية اناس يفتقرون للكفاءة السياسية التي ترفع من مستوى الاداء السياسي لتلك الاحزاب , بل اصبحت عالة على العملية السياسية خاصة بعد رحيل الرعيل الاول من قادة اغلب تلك الاحزاب. ان السبب الرئيس في ما شهده العراق من فوضى سياسية واقتصادية وادارية بعد الالفين وثلاث , هو رداءة اداء الاحزاب الاسلامية بسبب اقحام شخصيات طارئة لا علاقة لها بالسياسة في العملية السياسية . نعم لجميع شرائح المجتمع الحق في مزاولة العمل السياسي حتى وان لم يكونوا ملمين بالشان السياسي واسسه لانه بالامكان اكتساب تلك الخبرة بمرور الزمن , لكن ما يحصل في العراق ان من يدخل العملية السياسية فيه يرى ساحة خاوية من اي نظرية او فكر سياسي , وحتى ما تسمى جزافا باحزاب ما هي الا تجمعات من مدعي الايمان تتنافس فيما بينها على كل شيء ما عدا الاداء السياسي ….فاصبح الاداء السياسي ل”الاحزاب” العراقية يتمحورفي النقاط التالية :-
*/ الاعتماد على كسب رضا ودعم اطراف دولية واقليمية مؤثرة في الشان العراقي تضمن لها ديمومة البقاء في المشهد السياسي… لذلك لم تول تلك الاحزاب اهمية تذكر لبلورة افكار سياسية تتبناها , ليس هذا فحسب بل قد يلاحظ المراقب افتقار جميع الاحزاب العراقية لبرامج سياسية حقيقية تقدمها للجمهور حتى اثناء اجراء الانتخابات.
*/ كنز الاموال بشتى الوسائل لتحمل تبعات الانفاق على اعضائها وكسب المزيد من المؤيدين… لذلك تورطت الكثير منها في صفقات فساد , ما ادى الى تحول الفساد المالي الى ثقافة مجتمعية تجاوزت هذه الاحزاب لتصل الى المواطن العراقي البسيط .
*/ استغلال مشاعر الشارع القومية احيانا و المذهبية احيانا اخرى لحشد المؤيدين ورائها .
*/ العلاقات بين الاحزاب العراقية لم تعتمد يوما على اجندات سياسية وطنية بل كانت دائما انعكاسات لعلاقات القوى الاقليمية المؤثرة في الشان العراقي , ولان مصالح القوى الاقليمية والدولية هذه متناقضة مع بعضها , فان الوضع العراقي الداخلي عاني من اضطرابات سياسية كبيرة , فحينما تتوتر العلاقات بين تلك الاطراف الاقليمية والدولية يشهد العراق توترا في وضعه السياسي و الامني , بينما يشهد هدوءا داخليا عندما تكون هناك تفاهمات بين تلك الاطراف الدولية والاقليمية , وهو ما يفسر الهدوء الذي يشهده الوضع العراقي في الوقت الحالي.
في هذا الوضع المزري لا يمكن التفكير فيما يمكن تسميته بالانتماء الوطني او الامن الوطني العراقي , بل وحتى الانتماءات المذهبية والقومية للمكونات فقدت مستوجباتها , ولم نعد نسمع بخطاب قومي او مذهبي , ليس لان التوجهات الوطنية الجامعة قضت عليها كما تدعي بعض الاطراف , وانما لانه حتى البعد القومي والمذهبي لم يعد لهما الاولوية في سلم اهتمامات هذه الاحزاب .
وفي خضم هذا الوضع فقد العراقيون الامل في خلق رجال سياسية حقيقيين يستطيعوا احداث التغير الذي يحتاجه المجتمع للنهوض من هذا التردي , بل اصبح العراقي يدخل العملية السياسية لكي يحصل على السلطة التي تؤهله للحصول على ما يطمح اليه من اموال ومشاريع لا من اجل اهداف وطنية . وهو ما يفسر تحول اي انتخابات لبازار مفتوح يحدد ثمن اي منصب ابتداءا من الوزير وانتهاءا بالمدير العام والبرلماني , فيدخل السياسي العراقي العملية السياسية وهو محمل باعباء مالية ترتبت على شرائه لمنصبه , ما يجعله يبدا حياته السياسية ب”الكفاح” من اجل تسديد تلك التكاليف وضمان مستقبله ومستقبل اولاده واحيانا عشيرته , ولعب الدور المنوط به لتمويل الجهة الحزبية التي تقف وراءه . لذلك لا يجد الداخل للعملية السياسية الوقت الكافي لتطوير اداءه السياسي .
هذا في حالة ” السياسي” غير الطموح .. اما اذا كان لهذا ” السياسي” طموحات فحينها تكون مسؤولياته المالية اكبر , وعليه التفكير في كيفية الاستمرار في العملية السياسية من خلال اما ابداء فروض طاعة وولاء اكبر لحزبه , او بالتفكير في خطوة اكبر وهو تاسيس حزب يتراسه بعيدا عن حزبه الام , فيبدا حينها بالسير على طريق من سبقوه في الاتصال باطراف اقليمية ودولية تكفل له تحقيق طموحه ذاك.
المفارقة في هذا كله ان ” السياسي” العراقي ومع كل هذا الوضع المزري لا يزال يبيع الشعارات الوطنية والقومية والمذهبية على الشارع المبتلي به , من خلال اثارة النعرة المذهبية او القومية بين المكونات الاخرى واظهار نفسه المدافع الامين عن مصالح المكون. ولتحقيق ذلك يلجا لاستخدام الاعلام والظهور على الفضائيات و السوشيال ميديا لتسويق نفسه لهم , فتحول اغلب ” الساسة” العراقيين الى اعلاميين اكثر من كونهم ” ساسة”. والمفارقة الاكبر ان اغلب من صرخ في الاعلام مدافعا عن المكون او محاربا للفساد ظهر فيما بعد انه كذاب اشر متورط في عمليات فساد تزكم الانوف.
في الحقيقة ان ما يحصل في العراق بقدر ما هو مبكي بقدر ما هو مضحك ايضا, فعندما يسند الامر فيه الى غير اهله , تتحول الدول الى اشباه دول والحكومات الى اشباه حكومات ويكون الساسة اشباه ساسة ,ولا يبقى امامك الا انتظار تحقيق نبوءة الرسول في هذا الحديث عندما قال “فانتظر الساعة” …