*تمهيد وتعريف*
طرح موضوع ريعية الدولة على العقل والمنطق بعقلانية، هو استدلال للوعي والقدرة على الادراك بأهمية الدولة وقدرتها على تحديث اقتصادها وتعدد مواردها وليس استدرارا لرثاء الدولة وتقييد وعيها, بقدر ما هو توضيح لموضوع يؤرق عقل كل عراقي حريص وحصيف, مدركا ان قراره سلطوياً. لذا طرح موضوع الدولة الريعية ليس الأول ولا الآخر ولكن طرح الأفكار من جديد يعني قابلة للحياة.
الدولة الريعية كمفهوم اقتصادي هي الدولة التي تعتمد على الاقتصاد الريعي حيث يؤول لها الريع مباشرة ومن ثم تقوم بتوزيعه للقطاعات الاقتصادية وافراد المجتمع، هذا المفهوم قديم مرتبط بالأرض وحصول مالكها على ريع زراعي سوى بزراعتها بنفسه او برأس ماله. ومنذ ان طرح الاقتصادي الايراني مهدوي مفهوم الدولة الريعية في سبعينيات القرن الماضي أصبح من الواضح تشخيص الدول التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على مورد واحد كالنفط أو الغاز والذي من خلاله يصبح اقتصادها أسير لهذا الريع.
*العراق الريعي والرعوي*
العراق من الدول الريعية التي لا تملك فلسفة اقتصادية او اجتماعية تقود بها البلاد لذلك بقى العراق فاقداً للذاكرة المعرفية, ومعزول عن العالم سياسيا واقتصاديا وليس هناك جسور اقتصادية تربطه مع العالم سوى مادة النفط القابل للنضوب.
ولم يحدث أي تغيير كبير في بنية الدولة الإنتاجية ومسارها الاقتصادي الذي يعتمد بصورة مباشرة على النفط، حيث تشكل عائداته للموازنة السنوية العامة 95% وهي دولة مغلفة بغلاف مزيف ومكشوفة اقتصاديا وسياسيا, وذلك بسبب انعدام استقرار عائدات النفط أولاً وغياب الهوية الاقتصادية ثانياً..
في المقابل هناك تعطيل كبير للقطاعات الحكومية الحيوية والإنتاجية، وهذه الخطوة تسجل في موكب أوهام القيادات السياسية الحاكمة وخيباتهم المتكررة. ولا يمكن لاي قراءة تحليلية او دراسة اقتصادية مهما تعددت وسائل الاستقصاء قادرة على تقييم التوقعات المستقبلية لمادة النفط الخاضعة الى تقلبات أسعار السوق العالمية والظروف السياسية المهددة بالتغييرات العالمية للإزاحة والتدافع من قبل مصادر الطاقة النظيفة.
ونظراً لمفهوم للدولة الريعية تأسست قواعد العلاقة بين الدولة والمواطن على أساس رعوي أي بمعنى (رعوية الدولة) للأفراد باعتبارهم رعايا السلطة الحاكمة من حيث الانتماء الوظيفي, وهذا مفهوم قديم مرتبط بصورة الراعي والقطيع. وكرس هذا المفهوم في الدولة الإسلامية منذ نشؤها حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية. والدولة الرعوية هي عادة تحتكر السلطة والمعرفة والمهارة المطلقة في شخص الحاكم وادواته, لتصبح العلاقة عمودية بين الراعي والرعية. عكس الدولة المدنية التي تعتمد المواطنة كمبدأ تنظيمي في الإدارة والحكم ضمن علاقات افقية بأطر سياسية وقانونية.
والانظمة السياسية المتعاقبة في العراق لأكثر من نصف قرن لم تعتمد أي سياسة تنموية تنسجم مع التحولات السياسية والاقتصادية التي مرت بها الدولة الشرقية والغربية في كلا النظامين الاشتراكي او الرأسمالي، فنلاحظ اهتمامهما لا يتعدى سوى بخطابها الأيديولوجي بعبارات جاهزة واستعراضات عسكرية واحتفالات تذكارية وحفلات التكريم وتوزيع الشهادات الرخيصة وكأن حفلات التكريم والاحتفالات من وظائف الدولة وهاجسها الأساسي ووجودها الاجتماعي.
لذلك أسست هذه الأنظمة دولة هشة تعيش في مخاض عسير ودائم قابلة للغرق في أي أزمة سياسية أو اقتصادية. فقد ترنحت سياستها على الريعية الاقتصادية والترهل الإداري الذي ينضح من جميع مسامات الدولة. ونتيجة ذلك حصلت تخمة هائلة وتصاعد كبير في الوظائف الإدارية لقطاع الدولة العام.
حيث أصبحت قطاعات الدولة العامة هي الملاذ الجمعي والبوابة الآمنة الوحيدة القادرة على استقطاب نزيف البطالة المهنية والايدي العاملة ومخرجات المؤسسات التعليمية السنوية التي تفتقر اغلبها للكفاءة الإدارية والمهنية بسبب غياب التأهيل والتدريب. كما تعتمد مؤسسات الدولة في حججها المبتورة على المحاصصة في تبادل الوظائف وإعادة تدوير المناصب الإدارية على أساس حزبي, حيث أصبح هذا المفهوم واقعا سياسيا واداريا في مؤسسات الدولة. مما يمنع العقل من التفكير في طرح تساؤلات حول الأفضلية والاحقية, وهذا يقودنا الى خطورة الايدولوجيات السياسية التي تقود سياستها فوق اجسادنا وتقطع علينا طريق التفكير.
*معضلة التخطيط والتفكير*
المعضلة المعرفية تتكون من عدد من العقبات، وهذه العقبات ناتجة أحيانا من غياب البحث والتخطيط والتفكير والتقييم لفكرة معينة بفكرة مضادة لها. والتفكير في المجال السياسي والاقتصادي يقودنا بعض الاحيان الى نهايات سائبة في نفق لا حلول له. وذلك بسبب تجاهل المنطق العقلاني من قبل صناع القرار واللجوء الى الخرافات الايدولوجية والسياسية.
فتصاعد اعداد الموظفين والعاملين في مؤسسات الدولة الى ارقام مرعبة مقياساً بالكثافة السكانية للبلد لامتصاص حالة الغليان الجماهيري والاستسلام لغضب الاحداث بدون تخطيط او تفكير مسبق, تشكل ولوج لفيضان من الجحيم على مؤسسات الدولة, وحسب إحصائية وزارة التخطيط العراقية حيث بلغ (3.726) مليون موظف في موازنة 2023, فضلا عن المتقاعدين والمشمولين بالرعاية الاجتماعية.
لاتزال السلطة تسوق الأكاذيب بطريقة ذابلة في التفكير الغير منطقي والرؤية الغير عقلانية, التي يصدرها لنا صانع القرار بوظيفة الملاك الحارس للدولة ليمنح الهبات الوظيفية على طريقة السخاء المكرر بسذاجة رثة. كل هذه الاعداد الوافدة الى الوظائف بعناوين البطالة المقنعة تستنزف ميزانية الدولة الريعية السنوية, أو ما تسمى بالتشغيلية التي تأكل من الموازنة السنوية حوالي 70% او اكثر.
التأخير الرسمي للأفكار والمعالجات الاقتصادية تعني طمر لطبقات الوعي والتفكير, وهذا يشكل تحدي حقيقي للتنوع الاقتصادي ذات المكانة البيضاء في شبكة المدخولات السنوية. ولسوف نكتفي انصياعاً لمقتضيات السلطة ومصداقيتها المطعونة سلفاً في لوحة الاخلاق والمعرفة التي تشكل معضلة الوعي بوصفها نقيض استقامة.
والتحليل أحيانا يخرجنا من دائرة التقييم لوظيفة السلطة ومنهجها التفسيري المصاحب لمجموعة من الممارسات السياسية والاقتصادية. ولكن عند تفسيرنا لنواياها المعلنة بالوعي بوصفه وعيا مخادعاً يخضع الى برهان ودليل واضح وذلك حسب مؤشر التشخيص والمسافات الكافية التي تضع النوايا المعلنة على مسار الدوافع والغايات.
وتحاول السلطة خلق سردية متماسكة من التبريرات لتفسير سياستها الاقتصادية والإدارية واصرارها على السير في الريعية الاقتصادية رغم ان نظامها السياسي نظام برلماني يسمح بتجديد قواعد سلوكها الاقتصادي. فعليها إعادة تنميط وتأطير علاقة منتجة بينها وبين الرعية، وإيجاد إصلاحات اقتصادية حقيقية, وإعادة هيكلة مؤسساتها الإنتاجية من غير استدلال سوسيولوجي, كبديل ريعي او مرحلة انتقالية لاقتصاد السوق الحر. والتي تعتبر نقطة انطلاق لمجموعة من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تساعد وتساند الوظائف الاقتصادية للدولة.
*الدولة أمام التحديات*
بإمكان الدولة ان تفعل شيئاً يصدق به آذاننا وتجدد به عزمها وتمسك بالمستحيل, وذلك من خلال ممارسة ومساهمة الدولة في القطاع الاقتصادي بواسطة تفعيل شركاتها الحكومية الإنتاجية العامة او الدخول بشراكات مع القطاع الخاص الوطني والاجنبي كشراكات مختلطة. لتمكين الدولة من تجاوز الازمات المالية التي تسبب بنقص الأموال والايرادات الداعمة لموازنة الدولة السنوية كما حدث مع حكومة الكاظمي في ازمة كورونا وهبوط أسعار النفط, مما دفعها للاقتراض داخليا وخارجيا.
لان الدولة الريعية هي الأكثر معرضة للهزات الاقتصادية باعتبارها المشغل الوحيد في البلاد التي تتكفل برواتب الموظفين لكونها المنتجة للمجتمع على مقاساتها السياسية. واسهام الدولة في القطاعات الإنتاجية في الوقت الراهن عملية ضرورية. الا ان تدخلها بشكل مفرط ربما يسبب لها عبئ ثقيل على وظائفها الإدارية والمالية، وسيكون حتما على حساب القطاع الخاص الذي يشكو من الصعوبات في توازناته الداخلية والخارجية على مستوى الدعم المالي والحماية القانونية لمؤسساته الإنتاجية التي تعاني من مواجهة ومقاومة أجهزة الدولة.
ومستقبل الرعية في العراق يحتاج فعلاً الى إعادة انتاج قواعد العلاقة بين الراعي والرعية. بما ينسجم مع التحولات، والتغيرات السياسية، والاقتصادية الإقليمية والدولية. على أساس الشراكة القانونية بين الحاكم والمحكوم التي نضمها وكفلها الدستور. وذلك من خلال التعامل بجدية مع هذا المطلب لتمكين الاقتصاد العراقي ومعالجة الفقر والتهميش وتوفير الفرص للشباب واستثمارهم بالطرق الإنتاجية وحمايتهم من التطرف.
وذلك من خلال تجاوز مفهوم الدولة الريعية المتهالك والتحول باتجاه الدولة المدنية التي يحكمها القطاع الخاص والسوق القادر على انتاج المجتمع والدولة, وليس العكس. وإعادة الاعتبار الى الكفاءات العلمية والمهنية وتعزيز دور النقابات والاتحادات المهنية وإخراج الأحزاب والمحسوبية الشخصية عن سكة المؤسسات. واي محاولة عبثية غير مقدرة او محسوبة بدون وضع أسس علمية وتعديلات قانونية ستكون حتما محاولة فاشلة.