يحتاج الإنسان إلى التأمل والتفكير في السر الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في إن يكون الجنوب مهداً للحضارة والألم والثورة والجوع والحنين والفرح المُداف بحزنٍ سرمدي لا يريد إن يفارق هذه البقعة من الأرض. ربما تكون عوامل عديدة هي من أوجدت هذه المعادلة العجيبة والمتفردة في نفس الوقت؛ هي عندما يُجتمع تضاد في بودقة واحدة مكوناً لوحة لا يعرفها سوى الباحث عن فردوسهِ المفقود. وكيف يتلذذ إنسان هذه الأرض بحزنه ، ويتفاخر على أبناء جنسه بأنه الوحيد دون غيرهم جعلَ من الحزنِ هوية وعنوان ،وجواز سفرهِ الذي يوصله إلى أقصى ماديات التطريب والنشوة التي يذوب معها كدرويش في حلقة الذكر.
دفء المكان والصوت هما سحر الجنوب الذي ورثه أحفاد سومر وأكد، وهم يسردون حكاياتهم على جُزر القصب والبردي؛ ولينقشوا على الطين الحري أساطيرهم. هنا لابد من أداة ما تستطيع أن تبوح الأرض بسر عشقها هذا. لعل غناء عند أهل الجنوب من وسائل محاكاة الذات، وهاجس يكتنز في الصدور. فحملت (ميسان) مع أخواتها الأخريات هذا العبء على هدير الأطوار الغنائية الريفية حيث أقضت الحاجة إلى أداة تعبير تغازل حفيف القصب والبردي ومياه الهور لتعقد هذه المكونات شراكة الأبدية لا تفترق.
قحطان العطار لم يكن سوى ابن هذا الإرث الحضاري حيث صاغ (زهرون) أجمل إبداعاته على أنغام المحمداوي والصبي واللامي والشطراوي. خصوصية النشأة ساهمت في إيجاد مسحة حزن على هذا شاب ميساني ، وهو يشق طريقه في بغداد باحثا عن مبتغاة في إن يكون صوته الشجي تأشيرة ولوجه إلى قلوب العراقيين. فستطاع العطار بهذا الحس المرهف يكسر الكثير من الحواجز في مدينة كبيرة كبغداد؛ وهو لا يحمل سوى الأمل في فتتح أبواب الشهرة له ذراعيها ، في فترة تعد من أغنى المراحل الغناء العراقي، بل عُدت فترة السبعينيات هي مرحلة نضوج الأغنية العراقية الحديثة ،واكتمال أُسسها التي جمعت بين المقام العراقي والغناء الريفي. لم يكن قحطان العطار ذلك الفتى المتمرد على تراثه ،ولكنه مازج بين موروث الريف والمدينة. فكانت لثنائية الممازجة هذه أثرها السحري على جملة من أغاني مازال ترددها حتى الأجيال التي لم تشنف إسماعها بصوته العذب. ربما وراء هذا التعلق تلك المسحة الجنوبية المحسنة والمغمسة باللون البغدادي وراء هذا الخلود الفني. ورغم التصوف والزهد الغنائي الذي أصيب بهما العطار وهو في قمة عطائه الفني ، فانه تميز عن اقرأنه من المطربين في كونه حاضراً بين محبيه رغم الجفاء الفني، وأن يشغل الأوساط الإعلامية حتى اليوم.
قحطان العطار لم يكن سوى مشروع فني كبير، قُدر له أن يبتعد عن أضواء الشهرة، ليعيش الدروشة الفنية التي اختارها لنفسه مراغما كما يفسرها بعض العارفين، لأنه وجد في الابتعاد حالة صوفية تجعله قريباً من ذاته بعيداً عن صخب الحياة الفنية وبهرجتها.