يؤثم العقل أو يغادر صاحبه المنطق كل من يظن أن للسلطة والإعلام طرائق متشابهة، وكم يغرق في بحور الغباء والغفلة من يعتقد أن لعبة السياسة لاتختلف عن مقاصد السلطة الرابعة..واهمون إذا كنا نعتقد ذلك.
في محصلة هذا الجدل المتشابك لابد أن نعترف بحقيقة تترسخ في المخيلة يفرضها واقع الأدوار والمسؤولية بوجود فرق مترامي الأطراف بين عالم السلطة والإعلام.
من بديهيات ذلك الواقع أن الحديث من داخل السلطة يختلف عن أضواء الإعلام لأن هذين المتوازيين لا يلتقيان بسبب سَيرهُما بخط متوازي، فحديث الإعلام قد لا تسعفه أضواء السلطة كذلك فإن رجل السلطة قد لايستطيع التمرد على إسلوبه، فكلٌ له لعبته وقانونه الذي يجب الإلتزام بشروطه.
الكثير من الإعلاميين دخلوا إلى عالم السياسة وسرعان ما سقطوا سريعاً كما صعدوا في براثن الفخ الذي نُصِب إليهم، حيث يتسارع بهم التهاوي إلى وادٍ قد يمحو تاريخهم وعناوينهم الوظيفية بعد أن دخلوا في لعبة لها قوانين وشروط.
جورج قرداحي أحد أولئك الذين دخلوا إلى باب السياسة تحت مُسماه الإعلامي عندما عُيّن وزيراً للإعلام في حكومة نجيب ميقاتي، كانت إستقالته خاتمة رحلة سياسية قصيرة بعد أن تسبّب تصريح له بأزمة سياسية ومواقف خليجية رافضة ومستنكرة كادت أن تصل إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع بلده عندما إستدعت السعودية والكويت والبحرين سفراؤها من لبنان، إنتهت بعد أن تبرأت حكومة ميقاتي عن تصريح قرداحي وإعتبرته راياً شخصياً عن أحداث الحرب اليمنية ولزوم تقديم الإستقالة.
زار قرداحي بغداد لأكثر من مرة وفي كل زيارة كان يحمل تصريحاً متناقضاً، فقد زارها عام 2022 وتفوّه بعبارات فسّرها الذين يستقبلونه اليوم بأنه حنيناً للنظام السابق عندما سؤل عن رأيه في شوارع العراق مقارنة مع ثمانينيات القرن الماضي، أجاب “هناك فرق كبير في السابق كان أفضل” فيما أشاد في زيارته الأخيرة أمام رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني خلال مؤتمر الإستثمار الاقتصادي مُستغلاً وجوده لتهنئة السوداني على إنجازه العظيم وإعادة الثقة إلى طريقة الحكم في الدولة العراقية.
لن ندخل في تفاصيل إجور قرداحي بهذا المؤتمر وإن كان المتداول حسب المصادر لا يقل عن خمسين الف دولار ومصاريف جيب مع إقامة مجانية في فندق الرشيد أكبر فندق ببغداد مكافأة له عن بُضع كلمات إشادة بحق الحكومة، فكل ذلك لا يُعتد به لكن المؤكد أن الرجل كان يزن كلماته بميزان الدولار.
وما بين من إعتبره رياءً إعلامياً أو نفاقاً أو حتى تدخلاً في شؤون البلد الداخلية، راح البعض يتساءل عن إمكانية السلطة التي تُغدق العطايا والهِبات لمن هم خارج الحدود فيما تترك مواطنيها من الصحفيين وهم يتسوّلون بعد أن أغلقت مكاتب ومقرات الصحف التي كانوا يعتاشون منها، فيما ترك البعض أرض الوطن مُهاجراً يبحث عن رزقه في مكان آخر.
العراقيون يعرفون جيداً أولئك الذين تهبط بهم الطائرة في مطار بغداد ليبدأوا بالتراقص وعزف أناشيد اللهفة والإشتياق بعد أن هيأت لهم السلطة حقائب الدولار الأخضر.
تُرى كيف سيتقبّل الجمهور من على شاشة الفضائيات راقصاً بين السياسة والإعلام وهل يصنع ذلك التناقض نجاحاً له؟.
السلطة التي تحتفي بقرداحي هي نفسها من إنتفضت عليه بالأمس عندما ذكّرها بمحاسن النظام السابق، ويا لها من إزدواجية السلطة المقيتة وأزمة أخلاقية وسياسية تسود من يرغب السلطوية ويتمسك بها حتى ولو جاء بقرداحي مادحاً له.