18 ديسمبر، 2024 9:20 م

لم يخلو شهر رمضان يوما من بعض الدراما والترفيه، ولم يضر ذلك بكون الشهر هو أصلا للعبادة والتدبر والتقرب الى الله، وحتى في أيام القناة الواحدة اليتيمة، كانت هناك فسحة لمشاهدة عمل أو اثنين يتابعه العراق بقضه وقضيضه وتكون أحداثه محط نقاش بين الأهل والزملاء في اليوم التالي، وغالبا ما كان أحداث القصة هي محور الأحاديث، أما الآن فلم تعد الحكاية هي الأساس في الدراما الرمضانية، بل تحول الأمر لتدافع بين مئات القنوات لاحتلال قلب وعقل المشاهد في هذا الشهر الفضيل..ولتوجيه رسائل مبطنة- أو قد تكون معلنة في بعض الأحيان، استثمارا للأثرالبالغ والعميق لوسائل الاعلام المرئية على حياتنا الراهنة، وتعاظم دور هذه الوسائل وتمددها على كامل مفردات الساعات التي نجبر من خلالها على التواصل مع العالم عن طريق الشاشات..

وقد يكون هذا ما يجعل من الخطاب الدرامي واحدا من اهم عناصر القوة الناعمة والمؤثرات التي يفضلها الاعلام لتوجيه الراي العام واعادة قولبة قناعاته تجاه سياسات وانماط مسبقة الوضع ، ويمكننا بسهولة ملاحظة التحولات التي طرأت على الإعلام المصري، وبصورة أكبر الخليجي، لخدمة التوجهات الرسمية وتقديم صورة جيدة عن الوضع الأمني والسياحي استدرارا وجذبا للمشاهد العربي ولتغيير الصورة النمطية السائدة عن تلك البلدان.. وهو التوجه الذي ما زالت الدراما العراقية بعيدة جدا عن الانتباه إليه، ناهيك عن استثماره أو العمل به..

فليس مبالغة لو قلنا إن أبواب شاشاتنا مشرعة لكل من يريد النيل من العراق والعراقيين والتأثير الحاذق لمختلف الخطابات التي تستهدف الهوية الوطنية العراقية في الصميم وتقدم أنموذجا شائها للمجتمع العراقي بصورة لا نعرفها، ولا نستسيغها ، ولكنها تحتل شاشاتنا وغرف معيشتنا وعقول اطفالنا وشبابنا.

ويكون الأمر أكثر صعوبة مع انكفاء الدراما الرسمية وتخلفها مقابل سيادة الإنتاج الدرامي الخاص المتمثل في شركات الإنتاج وبعض القنوات المحلية والعربية ، التي تسيطر على أعين وأذهان المشاهدين بنسب تتفاوت حسب قوة الوسيلة أو المؤسسة الاعلامية التي تتصدر المشهد التي غالبا ما تتحصل على فرق متكاملة من الكتاب والفنيين والكوادر الإخراجية والفنية الذين يدفعون في ترجمة وجهة نظر الجهة الاعلامية، ومن يكون عادة خلفها من الجهات الراعية، وتحت غطاء الحيادية والمهنية وحرية التعبير، لتمرير الرسائل التي تؤدي إلى تهيئة المجتمع لتقبل رؤى معينة أو معارضتها.. دون النظر إلى مدى تأهيل المتلقي لاستقبال هذه الرؤى واستيعابها، ومن ثم النظر الى الأمور من خلالها.. هذا التأهيل الذي هو من صميم عمل ودور وواجب المؤسسة الرسمية في أي مجتمع وبلد لما تتملكه من دعم وتمويل وامكانيات في رفع مستوى الوعي العام للمتلقي..

والاكثر إدهاشا، نجد أن أجهزة الإعلام الرسمية ، تسقط دائما في فخ المجاراة الفجة للخطاب الإعلامي السائد كاستثمار ساذج لتقنيات القنوات الخاصة في التدافع على شغل مساحة اهتمام المتلقي والسيطرة على ذهن وعقل الناس، وفي تقديم دراما عجائبية خالية من الهدف والمضمون، دون العناية لما قد يحمله مثل هذا الخطاب من اعراض جانبية من حيث دفع اتجاهات الراي العام نحو مساحات قد لا تتطابق مع المصلحة الوطنية العليا.. ودون النظر – حد الاهمال والتجاهل الباعث على الريبة- لدور الثقافة المرئية في تسليك المسارب المؤدية الى الوئام والاستقرار المجتمعي.. بل عادة ما يكون الهم التثقيفي والتوعوي هو أول ضحايا تلك الطوارئ الفارقة على اعتبار انه من الترف والرفاهيات والكماليات التي تتأخر عادة في آخر الصف بعد الفكاهة والتهريج والدراما البعيدة عن الواقع.. بل ان التضحية بالثقافة، خاصة الملتزمة والرفيعة منها، يصاحب كل مناسبة ، حتى الأعياد ، مما يبشر بحالة من التصحر الثقافي المكتمل الأركان..

وفي رمضان الحالي، نلاحظ – بأسف عميق –وسائل الإعلام المعروفة جيدا من ميزانيات وأموال ، بعضها نعلمه وبعضه خارج امكانياتنا المتواضعة، تتعامل مع الإنسان العراقي بكونه كائنا بيولوجيا فقط ، تنحصر انشغالاته بالحاجات الأساسية، من أكل وشرب ومتعة، دافعة بحاجاته الثقافية والمعنوية الى البعيد المهمل الخارج عن الخطة الإعلامية والمتطفل عليها، بل وحتى الجانب الروحي، الذي كان الخيار الأول في تقنيات النفاق الإعلامي المستدر لعواطف ومشاعر الجمهور المتلقي نجده وقد رمى بعيدا لصالح التوظيف السياسي والأمني للأزمة..

وقد تجد هذه المؤسسات بعض العزاء لتوجهاتها من خلال كون المواطن العراقي معروفا بقدرته المرهفة على التمييز ما بين الغث والأكثر غثاثة ، ولكنه في نفس الوقت هناك الكثير من الوقائع تشير الى خطل الإتكاء على وعي المواطن وحده في مواجهة هذه الآلات الإعلامية الضخمة دون الاعتماد على تنمية هذا الوعي من خلال الثقافة التي تؤهله لاستيعاب ومقاربة الإفكار المتنوعة وتوظيفها في خدمة الصالح المجتمعي العام..

إن هذه اللحظة الفارقة والخطيرة التي يمر بها العالم ومنه العراق تتطلب استفاقة سريعة لاستعادة الفضاء الاعلامي الأكثر تأثيرًا في الناس، من مساراته الخاطئة الحالية الذي سقط فيها كناتج متوقع لمحاكاته – الفاشلة بالمناسبة – لتقنيات البرامج التجارية الخارجية تحت ذريعة الركض وراء نسب المشاهدة، وجذب المتلقي من خلال مادة ترفيهية سقيمة أو قصفه المستمر بخطاب مؤدلج موجه دون تأهيله ثقافيًا لاستيعابه أو التعاطي معه .