وأنا في مقتبل العمر وكنت قد بلغت للتو ربيعي السادس عشر آو السابع عشر، كنت مولعاً بالقراءة والكتابة إلى جانب شغفي بالفنون مثل الرسم والخط العربي والعزف. كنت أمارس الرسم والخط في المدرسة وكنت معروفاً بين زملائي وأساتذتي بالخط. أما الموسيقى فكنت أمارسها في الصحبة مع الأصدقاء. بقي لدي موضوع الكتابة والنشر فكنت فتياً عليها ودائم البحث عمن يسعفني ويأخذ بيدي لأبلغ مبلغاً محموداً في مجال الكتابة ومن ثم النشر.
قرأت الصحف والمجلات الصادرة في تلك الحقبة وحينها كانت جريدة (يورد) الوطن التركمانية الأسبوعية تتصدر المشهد الصحفي. يليها بعد ذلك مجلة الإخاء الصادرة عن نادي الإخاء التركماني في بغداد ومجلة صوت الاتحاد الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. حرصت كل الحرص لاقتناء أعدادها والخوض في قراءة كل ما مكتوب فيها من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة بتدارس وتمعن. كنت أعتبر الكتّاب وكل من كتب أسمه على مقال مهما كان، رسولاً أو مخلوقاً مختلفاً عن العامة. وما أن أشاهد أحد الكتاب في مكان ما حتى سارعت للتعرف عليه والصحبة معه وإن كانت لدقائق معدودة.
هذا الإفراط في حب الأدب والأدباء والعمل على كتابة ما يدور في خلجات نفسي دفعني لأن أبحث عن شخص يعاونني في نشر ما أكتب. المواد المرسلة إلى النشر في أية وسيلة إعلامية يجب أن تكون بالفحوى الدسم واللغة القويمة تضاهي المنشورات الأخرى وترضي المدققين والمصححين وأن ترتقي إلى مستوى من الممكن أن تنافس المنشورات الأخرى وأن تليق بالجريدة أو المجلة التي تنشرها.
تعرفت عن طريق الصدفة بشخص من الذين ينشرون على الدوام. كانت فرصة لأن أعرض عليه ما أكتب من أشعار قد يساعدني في إيجاد مواطن الضعف في أشعاري ومن ثم أتمكن تصحيحها ونشرها. حملت إليه ما كتبت من أشعار وكلي أمل بأن يعجب بها وأن يصحح ما جاء فيها من أخطاء لتكون جاهزة للنشر. لكن حدث العكس تماماً فهذا الشخص لم يعجب بأي كتابة من كتاباتي بل انتقدها انتقاداً شديداً لاذعاً وقال أنها لا تحمل أي شرط من شروط كتابة الشعر. كان الوقع كبيراً في نفسي وقد عدت إلى البيت مهموماً كما لو كانت سفني قد تاهت في عرض البحر.
لم أيأس بل عدت الكرة من جديد وفي كل مرة هذا الشخص ينال من همتي ويكبح جماح عزيمتي. لم أفقد الأمل وحملت نفسي صبراً وركبت سفينة التفاؤل بأن يكون القادم أفضل عسى أن أتمكن من أن أكتب شيئاً أترجم به ما يدور في جوفي.
مهما عملت ومهما كتبت إلاّ أن هذا الشخص الذي الجأ إليه لا يرضى ولا يقبل الاعتراف بما أكتب. الأمر الذي دفعني للتفكير بأن تكون لدى هذا الشخص مشكلة ما وأن العيب ليست في كتاباتي. للتأكد من ذلك فكرت بطريقة لكشف ملابسات الموضوع.
كنت حينها قد قرأت قطعة شعرية مكتوبة بالأسلوب الحر للشاعر التركي ناظم حكمت. وناظم حكمت هذا شاعر متمكن وقد استطاع بكتابته استمالة القلوب وجذب محبي الشعر. بحثت في أمهات الكتب التي لدي ونقلت شعراً لناظم حكمت وكتبتها على ورقة. مساءً ذهبت إلى هذا الشخص الذي يتواجد في شارع الجمهورية بكركوك على الأغلب. وجدته هناك وسارعت إلى إخراج الورقة من جيبي. عرضت شعر ناظم حكمت عليه وقلت له هذا آخر ما كتبته أنا. أخذ الورقة وبدأ يتطلع فيها ويقرأ الشعر. تارة كأنه شارد الذهن يبحر بين الكلمات وتارة أخرى كان يبتسم. لابد أن الشعر قد راقت له وأسرت نجواه وهو الآن مضطر إلى الاعتراف بجمال الشعر.
بعد أن انتهى من القراءة طوى الورقة وقدمها لي قائلاً بالحرف الواحد: أنصحك بأن تبحث عن مجال آخر وتترك المحاولة في كتابة الشعر، أنت غير مؤهل لذلك.
سألته أوليس هذا الذي بين يدك شعراً جميلاً؟ قال: من الظلم أن تطلق على هذه الكتابة تسمية شعر. هذه ليست سوى رسالة كتبتها أنت إلى شخص ما.
عندها أدركت أن هذا الشخص لم يكن منصفاً. تبين أنه ينتقد لمجرد الانتقاد الهدام وليس فيه شيء من العلم. إنه يقــيّم الأمور على أساس الأسماء والأشخاص. فإذا كان الشعر يحمل اسم الشاعر الكبير ناظم حكمت فإنه شعر جيد مهما كان. وان كان يحمل اسمي وأنا في بداية الطريق فإنه بحث آخر.
هكذا أجد الأمور اليوم كذلك، تقيم على أساس الأسماء وليس الأعمال. أجد أن الانتقادات ليست سوى إبرازاً للعضلات وليس فيها شيء يوحي إلى الانتقاد الذي نبغي منه الإصلاح فالنقد هو اصلاح بواطن الضعف. فكما أن الأعمال بالنيات، كذلك الانتقادات مرتبطة بالنيات تماماً والتي لا أجدها صافية في الكثير من الأحيان.