الديمقراطية التوافقية هي منح القوى السياسية التي تعبر عن مصالح الطوائف المكونة للمجتمع إمكانية إيقاف قرارات القوى السياسية الأخرى عند اتخاذها لقرارات تضر بمصالحها ، بغض النظر عن حجم الكتلة، وذلك مع افتراض وجود انقسام وصراع مجتمعي خطير لا يمكن احتواؤه إلا عبر هذه الصيغة. ويتميز النموذج التوافقي بقدرته الفائقة علي إيجاد حواجز حقيقية لا تسمح بتعد أو تجاوز من أية فئة اجتماعية علي حقوق فئة أخرى لا باحتكار السلطة كليًا ولا حتى جزئيًا حيث ينظم الدستور جميع تفاصيل التوافقية التي تجعل العمل السياسي والحزبي في ذاته وحتى العمل الانتخابي والبرلماني قوة جماعية تساعد باختلاط أدوار الجميع من أجل مصلحة الجميع.
الديمقراطية التوافقية هي شكل من أشكال التعددية يطبق في الساحة السياسية، أن التعددية هي احترام وقبول الآخر المختلف وعدم التعدي على حرياته وعلى مصالحه إنما هي قيمة ونهج يتعدى الساحة السياسية ويكاد يمس كل جوانب حياة الإنسان. فهي قيمة تربوية يجب أن نقبل الآخر المختلف ونحترم حقوقه، وهي قيمة ضرورية لمجتمعنا المتعدد الانتماءات الطائفية والعرقية لتتعايش كل هذه الانتماءات في إطار احترام متبادل، وهي قيمة ضرورية على الساحة الدولية وهي الرد على هجمة الغرب الذي يريد فرض قيمه ونهجه السياسي على بقية شعوب العالم. التعددية ينبغي أن تسود بين الناس وبين المجموعات الإثنية وبين شعوب العالم لكي ينتقل العالم من ساحة الصراع والتناحر والانفصال إلى ساحة الوفاق والتعايش والتكامل. الديمقراطية التوافقية تتطلب أن يكون هناك توافق عام بين مكونات المجتمع وتنظيماته السياسية، بمعنى إذا كان الحديث عن تشكيل السلطة التشريعية من خلال صناديق الاقتراع فإن البرلمان يقوم على كتل برلمانية قوية قادرة على تمثيل الأكثرية والأقلية في الوقت نفسه، وهو ما يتطلب اعترافاً متبادلاً بين كافة المكونات تجاه بعضها البعض، وأن يكون هناك اتفاقاً عاماً على أساس البرامج السياسية والأهداف المشتركة الجماعية العامة. إن السهولة النسبية في طرح التوافقية تجعل من استمرار النظام الديمقراطي أوفر حظا. ويمكن لهذه الحجة أن تستخدم كرد نهائي على مختلف التهم المتعلقة بالصفة الديمقراطية الناقصة للديمقراطية التوافقية, فعندما يسود الشعور بأن مواطن الضعف هذه قد أضحت متزايدة الكلفة، ولاسيما عندما تعتبر متناقصة الضرورة لأن المجتمع قد أصبح أقل تعددية، فلن يكون من الصعب أن ينتقل المجتمع من نظام توافقي إلى نظام ديمقراطي تنافسي. وإذا كان ما يؤخذ على الديمقراطية التوافقية هو عدم وجود معارضة أصلا أو وجود معارضة ضعيفة فإن هذا النقد غير منصف لأنه انتقاد يعتمد على مجتمعات متجانسة وليس على مجتمعات تعددية وفي ظل الظروف غير الموازية التي تمليها الانقسامات القطاعية. تبدو الديمقراطية التوافقية مهما بعدت عن المثل الأعلى المجرد أفضل أنواع الديمقراطية التي يمكن توقع تحقيقها بصورة واقعية. ففي غياب دولة ترعى شؤون مواطنيها يمكن لهذه الانتماءات أن تتفكك، وفي دولة تعاني فيها مجموعات إثنية اضطهادا فمن المتوقع أن تتأجج هذه الانتماءات الفئوية. لذلك فمن المتوقع في ظل نظام توافقي يجعل جميع الفئات تشعر بأنها مشاركة في الدولة, أن تتراجع هذه الانتماءات كلما تطور هذا النظام وشعر فيه المواطنون بأنهم شركاء فعليين في الدولة. هذا بالضبط ما حصل في أوروبا في القرنين الأخيرين ابان تأسيس دولة المواطنين. حين بدأت الدولة تعطي حقا لشؤون المواطنين تراجعت الانتماءات القبلية بعد أن كانت أوروبا عالقة في انتماءات قبلية وحروب قبلية على مدار قرون. التقارير السياسية في الدول التي تتمتع بنظام توافقي تؤكد بأن إعتراف الدولة بحقوق الأقليات في إطار هذا النوع من الديمقراطية قد زاد من شعور هذه الأقليات بالانتماء للدولة وحول الانتماءات الفئوية إلى انتماءات ثانوية. وعليه فالفرنسي في سويسرا أو بلجيكا مثلا يشعر بانتمائه لسويسرا أو لبلجيكا أكثر مما كان يشعر به قبل تطبيق الديمقراطية التوافقية. لقد تطور الفكر السياسي الديمقراطي التوافقي تجاه الاعتراف بالحقوق الجماعية والإدارات الذاتية لأصحاب الهويات المتعددة (العرقية والمذهبية والطائفية) ، وذلك منعاً لاستبداد الأغلبية بالأقلية من جهة ، وقطع طريق التأثير الخارجي على الشأن الداخلي من جهة أخرى. ولكن الأخذ بها يأتي عقب الانتهاء من إرساء المواطنة الفردية وحقوقها كأساس للتعامل بين الفرد والدولة وليس قبلها (حقوق المواطنة أولاً) ، وهي الحقوق التي تُمنح وينُصُ عليها الدستور باعتبارها حقوقاً مشتقة من حقوق الفرد المواطن. ان مفهوم الديمقراطية والشروط الضرورية لتوفرها والانتقادات الموجهة للنظام الديمقراطي رغم انه أحسن أسلوب للحكم موجود لحد الآن فيما إذا طبق تطبيقا سليما وكانت الآليات الانتخابية والديمقراطية تعمل في ظروف جيدة، لا يشوبها ما يشوب الديمقراطيات حاليا والتي يكون الاعتراض على الإجراءات المتخذة من أجل الوصول إليها سمة بارزة وبالأخص في دول العالم الثالث، دون إغفال ما يوجهه الباحثون والدارسون لهذا الأسلوب في الحكم حتى في الدول المتقدمة.
وفي جميع الحالات وأيا كان الأمر فان الغرب أو الدول المتقدمة عرفت كيف تجتاز الصعوبات الطبيعية في طريق تحقيق الديمقراطية.وهذا ما جعل الباحثين في موضوع الديمقراطية يرون ان ما يحدث من اضطرابات واعتصامات ومظاهرات في هذه المجتمعات هو نتيجة لما يعتري هذه الديمقراطية من نقص، والواقع انه حسب ما يتراءى من خلال المشاكل التي تعرفها الديمقراطيات وحتى العريقة منها لا مناص من البحث عن آلية جديدة للحيلولة دون هدر حقوق الناخبين الذين اختاروا رأيا لم يحظ بأكثرية ولو بسيطة مثل الرأي الآخر، بل إننا نشاهد اليوم في القضايا الكبرى والشائكة غالبا ما يلتجئ المسؤولون إلى محاولة توجيه الرأي والمواقف حولها عن طريق التوافق بين مختلف الآراء وهكذا فربما لن يمر وقت طويل حتى تكون قاعدة التوافق أصلا من الأصول الأساسية لتحقيق الديمقراطية التي تراعي مختلف الآراء والاتجاهات داخل المجتمع أو المؤسسات المجتمعية من أحزاب وهيآت وجمعيات مجتمع مدني.
لقد تطور الفكر السياسي الديمقراطي التوافقي تجاه الاعتراف بالحقوق الجماعية والإدارات الذاتية لأصحاب الهويات المتعددة (العرقية والمذهبية والطائفية) ، وذلك منعاً لاستبداد الأغلبية بالأقلية من جهة ، وقطع طريق التأثير الخارجي على الشأن الداخلي من جهة أخرى. والتحديات التي واجهها الباحثون كيفية تأسيس نظام ديمقراطي في مجتمع متعدد بمعنى يتميز بالتنوع الإثني والديني والمذهبي ضمن مكوناته بما يضمن الحقوق الأساسية للجميع، ويضمن لهم حماية مصالحهم وتحقيق مطالبهم باستمرار وأن يكون للجميع فرصة مماثلة في صنع القرار السياسي من خلال آليات المشاركة السياسية المعروفة.
أن قادة و زعماء الطوائف المتنافسة في المجتمع التعددي يمكنهم أن يضاعفوا من حدة التوتر وعدم الاستقرار السياسي في النظام ككل نتيجة لسلوكهم التناحري، فإنه يمكنهم أيضا أن يبذلوا مجهودا حقيقيا لإحباط ما قد ينجم عن التشتت و الانقسام الثقافي من آثار سيئة كالجمود أو زعزعة الاستقرار، و من ثم يمكن تحقيق مستويات من الاستقرار السياسي في النظام تفوق بكثير درجة انسجامه الا جتماعي. و يبدأ ليبهارت بعد ذلك في سرد الأمثلة التي توضح صحة ما ذهب إليه، كما يبدأ في الحديث عن أهم أشكال الحلول التوافقية للمجتمعات غير المتجانسة ثقافيا، وهو المتمّثل في قيام ائتلافات حكومية كبرى تضم جميع الثقافات الفرعية في المجتمع.
جميع الدول التي انتهجت الديمقراطية التوافقية جاء ذلك بعد حروب أو أزمات سياسية جعلت الأغلبية تعي أن لا مفر من عدم تهميش للأقليات وإعطائها قسطا من المشاركة في الحكم. عمليا هذه هي الديناميكية التي تسبق كل حل أيا كان إذ أن أصحاب الغلبة في الحكم لا يقبلون بالتنازل عن جزء من صلاحياتهم إلا اضطرارا. لذلك فالديمقراطية التوافقية هي مشروع سياسي كأي مشروع آخر يتطلب التجنيد والنضال لأجله مستفيدا من التناقضات القائمة في صفوف الأغلبية ومستفيدا من الهوامش التي تتيحها ديمقراطية الأغلبية ومن القوى الدولية التي كثيرا ما تلعب دورا في التغييرات السياسية بداخل بلدان العالم . لا تعتبر الديمقراطية التوافقية نظاما عادلا بشكل مطلق وفي جميع الأحوال، بل هو نظام مناسب لدول معينة فيها أقليات إثنية تشعر بأنها مستبعدة بشكل دائم عن اتخاذ القرار والمشاركة في الحكم. من هذه الناحية فهي نظام يتفوق على الديمقراطية الليبرالية. صحيح أن الديمقراطية التوافقية تعطي في المجتمعات التعددية الجواب الأفضل للقضايا المحلية ولمطالب الأقليات والأقاليم وربما لا تكون كذلك بالنسبة للقضايا المصيرية العامة مثل القضايا الدولية وقضايا التسلح النووي والبيئة في العالم. إلا أن هذه الديمقراطية لا تعطل معالجة هذه القضايا معالجة صحيحة على صعيد الدولة، فإعطاء الحقوق للأقليات لا يعني إلغاء الحكم المركزي في الدولة. بالإضافة إلى ذلك، ففي هذه الديمقراطيات التوافقية، يسود نظام الاستفتاءات الشعبية كما في السويد وسويسرا وغيرها. إذن فجميع هذه القضايا العامة والدولية يمكن إحالتها للاستفتاءات العامة. وإذا كان الكثير من الناس اليوم يستعملون في الألفاظ المتداولة كلمة تعددية فإن التعددية المقصودة في وصف المجتمع بالتعددية هو ذلك المجتمع الذي تعيش ضمنه مختلف قطاعات المجتمع جنبا إلى جنب ولكن بانفصال داخل الوحدة السياسية الواحدة,وقد يضاف إلى هذا نوع من التمايز الإقليمي.. وقد يكون ما يميز هذا الفصيل عن ذاك معتقدات دينية أو أصول اثنية أو إيديولوجية أو لغوية، وهذا التمايز في الواقع قد يوجد ضمن مؤسسة سياسية حزبية أو حتى جميعة مجتمع مدني داخل مجتمع، ولعل التيارات المتساكنة ضمن هيئة معينة أن تكون نوعا من المجتمع التعددي وتحتاج هي بدورها إلى نوع من التوافق ويلاحظ اليوم أنه داخل حزب سياسي تتعايش تيارات متعددة بل تضع لنفسها مسارا للتعايش.
ان اختيار النواب الممثلين في أوروبا في القرن التاسع عشر (على نحو مختلف عن الذي نشهده اليوم) وذلك لتقديم النصح للملوك وتوجيههم أدى إلى إيجاد نوع من الألفة العميقة مع النظام النيابي. الشعبية التي حظيت بها الديمقراطية إنما جاءت عقب الثورة الصناعية حيث كان عدد الرعايا في الدول الصناعية كبيراً أو (في الأزمنة الأحدث) أخذ المواطنون يظهرون اهتماماً أكبر بالسياسة، ولكن بقيت التكنولوجياً وعدد السكان الكبير غير مناسبين للديمقراطية المباشرة. تعد المملكة المتحدة دولة ذات نظام ديمقراطي نيابي وكذلك كانت ألمانيا لغاية عام 1949 والولايات المتحدة وكندا كذلك مثالان لتطبيق الديمقراطية النيابية. وقد أصبح بالإمكان القول لأول مرة في تاريخ البشرية بان غالبية سكان العالم يعيشون في ظلال أنظمة ديمقراطية نيابية بما فيها أنظمة الملكيات الدستورية التي تتمتع بحكومات نيابية قوية.
عندما انتشرت الأنظمة الديمقراطية بشكل كبير خلال القرن العشرين خارج القارة الأوروبية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بسبب فشل الأنظمة غير الديمقراطية، وحدوث حالة واسعة من النمو والانتعاش الاقتصادي وتطور الثقافة السياسية، حدثت هذه التطورات في مجتمعات تتميز بانقسامها الشديد والواضح. وبدأ التفكير جدياً في كيفية إيجاد حلول سياسية تساهم في ضمان تحقيق الديمقراطية بشكل يضمن أقصى درجات الاستقرار السياسي، ويحول دون حدوث صراعات في هذه المجتمعات. البعض حينها اهتم بكيفية استخدام الحكم الذاتي أو الفيدرالية، بحيث تكون الفرصة متاحة للأكثرية وللأقليات غير المتجانسة في الوقت نفسه للمشاركة السياسية في الحكم. وكانت النتيجة القدرة على تحقيق التوافق بين مكونات المجتمع، ومن أمثلة ذلك بلجيكا، والنمسا، وسويسرا،وكندا،وهولندا.