“فزت ورب الكعبة” صرخة دوت في سماء الكوفة فجر اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، حيث محل اغتيال أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يؤدي فريضة الصلاة ليخرَّ صريعاً في المحراب متشحطاً بدمه الطاهر، أنه الفائز الأول في الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم.. وأي فوز أعظم من أن يقضي الانسان عمره في سبيل الله عز وجل وفي سبيل الإسلام المحمدي الأصيل، وإرساء دعائم العدالة والمساواة في المجتمع، والقضاء على الظلم والجور وانصاف المظلومين، حيث كانوا يسمونه “سيف العدالة السماوية والأب الرؤوف والحنون على المسلمين المؤمنين”.. ليأتي النداء بصوت سيد الملائكة جبرائيل عليه السلام من عنان السماء في تلك اللحظات “تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قتل ابن عم المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قتل سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء”.
“تهدمت والله أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى..” أي علي بن أبي طالب هو العروة الوثقى جاء في مناقب الخوارزمي: ص61، ح31، و التفسير الكبير: ج1، ص 205-207، ومعاني الاخبار:ص 368،ح31، وعيون اخبار الرضا: ج1 ،63، ح 216 وغيرهم.. حيث أن الدين كله ضربت هامته فهامة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب لا تمثل شخص بل تمثل الدين كله بدليل أنه عندما برز لعمرو بن ود العامري في غزوة الخندق بعد أن لم يجبه أحداً من المسلمين لمبارزته، وعلي بن أبي طالب الوحيد الذي نهض لقتاله ثلاث مرات حيث أجلسه الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، مرتين وفي الثالثة سمح له وقال: “برز الإيمان كله للشرك كله”- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 4/344 و19/66، السيرة الحلبية 2/312 و320، السيرة النبوية لابن هشام: 3 / 224، تاريخ الطبري: 3/17، والكامل في التاريخ: 2/180، موسوعة التاريخ الإسلامي: 2/491 و492، المناقب للخوارزمي: 144، ينابيع المودة: ب 23، الميلاني في قادتنا: 2 / 108، الدميري في حياة الحيوان: 1/ 248، تاريخ دمشق: 1/ 150، موسوعة التاريخ الإسلامي: 2/495، مستدرك الحاكم: 3 / 32، فرائد السمطين: 1 / 255 حديث 197، و.. الفضل بن روزبهان: انّه حديث صحيح لا ينكره إلاّ سقيم الرأي ضعيف الإيمان.
اغتيال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه آلاف التحية والسلام، هو اغتيال للحق وللقرآن الكريم وللإيمان كله، وللفكر والأخلاق والمثل العليا وللانسانية جمعاء.. هو اغتيال للبطولة والاباء والكرامة، وللدين الاسلامي الحنيف الذي جاء به الحبيب المصطفى الأمين هداية للبشرية وبناه بجهده وجهاده وكيانه ودمه.. هو اغتيال للأمة حيث فقدت خليفة وقائداً إسلامياً فذّاً، وقمة شامخة في العلم والفضل والجهاد، وكان جبلاً راسخاً من الثبات والاستقامة والشجاعة والبطولة، وعَلَماً من أعلام الدين وإماماً للمتقين.. بعلي بن أبي طالب بدأ القتال وبه انتهى وبصولاته الحاسمة كفى المؤمنين القتال في تلك الوقعة، حيث قوله تعالى {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا}-سورة الأحزاب الآية 25؛ أخرجه الشيخ جلال الدين السيوطي في تفسيره الدر المنثور نقلا عما استدركه الحاكم النيسابوري عن (الصحيحين) والخطيب البغدادي من تاريخ بغداد،ما لفظه ان الله كفى المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب، وفي السيرة الحلبية ج2ص328 باب غزوة الخندق، وغيرهما.
في الحديث عن مولى الموحدين الإمام علي أمير المؤمنين تقف الاقلام حائرة أمام هذا الطود الشامخ من أين تبدأ، وماذا تكتب فكل الوجود بحضرته يتلاشى ولكن من باب ذكر شيء من مناقبه عليه السلام التي قال النبي صلى الله عليه وآله عنها “لو أن الغياض أقلامٌ، و البحر مدادٌ، والجنّ حُسّابٌ، والإنس كتّابٌ، ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب” – رواه أخطب خوارزم بإسناده الى ابن عباس، وانظر كفاية الطالب: 123، فرائد السمطين:1/16، حلية الأبرار : 1 / 285 ، ميزان الإعتدال : 3 / 466، لسان الميزان: 5 / 62، ينابيع المودّة : 2 / 95 حديث 70 ، وشرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج15 ص609؛ فلم تعرف لإنسانية في تاريخها الطويل رجلاً بعد الرسول الأعظم أفضل من علي بن ابي طالب ولم يسجّل لإحد من الخلق بعد الصادق الأمين من الفضائل والمناقب والسوابق، ما سجّل لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب، وكيف تحصى مناقب رجل كانت ضربته لعمرو بن عبد ود العامري يوم الخندق “تعدل عبادة الثقلين”، وكيف تعد فضائل رجل أسرّ اولياؤه مناقبه خوفا، وكتمها أعداؤه حقداً، ومع ذلك شاع منها ما ملأ الخافقين، وهو الذي قال عنه خاتم المرسلين “لو اجتمع الناس على حبه لما خلق الله النار”.
هناك مَن إذا ذكرت اسمه شعرت بنفسك تدخل في كهوف التاريخ، لتبحث عنه، لتحمل شمعةً هنا وهناك، حتى تستطيع أن تعرفه وتتعرف على فكره وحياته.. وهناك مَن إذا ذكرته شعرت أن اسمه يتجاوز الزمن، ويحلّق في الآفاق الواسعة التي تطلّ بك على المطلق، ويطوف بك في كل موقع من مواقع الحياة، حتى إنك تفتش عن شيء لم يتحدث عنه تصريحاً أو إيحاءً أو إيماءً، فلا تجد هناك شيئاً من ذلك. وعندما تدخل عقله، فإنك ترى العقل الذي كله شروق، خلافاً لكثير من العقول التي إذا دخلتها، فقد تحتاج إلى كثير من العناء لتلمّس قوةٍ لهذا تتلَّمس هذا الفكر أو ذاك..هناك أشخاص إذا ذكرتهم تشعر أنهم ينطلقون بك في التجريد، حتى لتحسّ في نفسك معهم أنك تبتعد عن الحياة.. وهناك أناس إذا ذكرتهم شعرت أنهم إذا أمسكوا المجرّد بفكرهم، أعطوه حركية وأنزلوه الى الواقع.. ذلك هو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، الذي إذا حاصره التاريخ ليبحث عن بعض الحواجز التي كانت تنتصب أمامه، وعن الدوائر التي أُريد له أن يُحاط بها، وعن الآفاق الصغيرة التي حُشَر أسمه فيها، وعن العصبيات التي أُريد له أن يُكتب في عنوانها.. فإنك لن ترى علياً في كل ذلك.
أمة الجهل والحقد والكراهية والتكفير والنفاق والتزييف وعبدة الأوثان وعقول الجاهلية المقيتة لم ولن تتحمل كل هذا الثناء والإطراء والمديح الحق والبين من قبل الله سبحانه وتعالى وخاتم المرسلين (ص) لعلي بن أبي طالب ابداً، أولئك الذين يطلبون بثأرهم لتحطيمه أصنامهم وهو يقف على كتف الرسول الأمي يوم فتح مكة، وكذا لقتلاهم في بدر وأحد والخندق والأحزاب وخيبر والنهروان والجمل و… حتى أطلقوا عليه “قاتل صناديد العرب” تأكيداً لقول خاتم المرسلين: “ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين: مال خديجة وسيف عليّ بن أبي طالب عليهما السلام” شجرة طوبى للمازندراني ج2 ص20؛ وكما عهده أبن عمه محمد بن عبد الله بعد أن أخبره بذلك جبرائيل عليه السلام بقوله: “إنّ الأُمّة ستغدر بك من بعدي، وأنت تعيش على ملّتي، تُقتَل على سُنّتي،.. وإنّ هذا سيُخضَب من هذا” – كنز العمّال، للمتّقي الهندي 617:11. المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوريّ 142:3؛ هي الفاجعة الأليمة التي نعيش هذه الأيام ذكراها المؤلمة.
أيام معدودات قبل أن يلتحق الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، بالرفيق الأعلى شهيداً بمؤامرة اليهود الماكرين وأبناء الطلقاء الحاقدين المارقين القاسطين الناكثين للعهود، كما عهدتهم الأمة منذ يوم سقيفة بني ساعدة وحتى يومنا هذا حيث التآمر مستمر على الأمة والإنتقام منها قائم ضدها على قدم وساق، حيث إراقة الدماء البريئة وشق الصف والتقتيل والتنكيل والأسر والدمار وأنهار الدماء والمساعي الحثيثة لعودة الناس الى القبلية الجاهلية الأولى؛ كان قد أخبر نبي الرحمة أبن عمه ونفسه الطاهرة ووصيه دون فصل علي بن أبي طالب ماسيجري عليه من بعده بقوله ”يا علي كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس تدعو فلا تجاب وتنصح عن الدين فلا تعان، وقد مال أصحابك، وشنف لك نصحاؤك، وكان الذي معك أشد عليك من عدوك، إذا استنهضتهم صدوا معرضين، وإن استحثثتهم أدبروا نافرين،يتمنون فقدك لما يرون من قيامك بأمر الله عزوجل، وصرفك إياهم عن الدنيا…” – من كتاب فزت ورب الكعبة.
قبل سنوات من تلك الفاجعة المؤلمة الماكرة، كان رسول الرحمة محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وعلى آله قد وقف في حشود المسلمين يَخطبهم قُبيل حلول شهر رمضان المبارك، مذكِّراً بفضائل هذا الشهر الكريم: “أيّها الناس؛ إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة…”، حتّى إذا بلغ مقاماً قام علي بن أبي طالب عليه السّلام يسأله: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فيجيبه صلوات اله وصلامه عليه: “يا أبا الحسن؛ أفضل الأعمال في هذا الشهر الورعُ عن محارم الله”، وهنا يبكي رسول الله صلّى الله عليه وآله بكاءً شديداً، فيسأله الامام علي: يا رسول الله ما يبكيك؟ فيجيبه: “يا عليّ، أبكي لما يُستحلّ منك في هذا الشهر، كأنّي بك وأنت تريد أن تصلّي، وقد انبعث أشقى الأوّلين والأخِرين شقيق عاقر ناقةِ صالح، يضربك ضربة على رأسك فيخضب بها لحيتك.»ـ ينابيع المودة، للشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ 53 ـ الباب 7.. وقول الحبيب المصطفى “لتنقضنّ عرى الإسلام عروةً عروةً، كلما نقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها، فأولهن نقض الحكم وآخرهن الصلاة” – المصدر: أمالي الطوسي 1/189.