18 ديسمبر، 2024 5:18 م

جحيم الأيام / الحلقة الثامنة عشرة

جحيم الأيام / الحلقة الثامنة عشرة

كان علي يتخذ من الصديق أبو فيروز صديقاً لأسباب تتعلق بالحالة النفسية. كان يقول لي “حينما تريد أن تتخذ صديق فعليك أن تتخذ الأفضل”. وكان الصديق المذكور هو الأفضل في أشياء كثيرة. لذا كانت هناك دوافع خفية لكل واحد منا أن يكون قريباً من الآخر. هذا هو سر الحياة. البعض يبحث عن البعض الآخر حينما تتلاقح المصالح مع بعض من أجل الوصول إلى الهدف المطلوب. كان علي دولي شاباً ضخم الجسد شديد السمرة مستعد للقتال مع أي شخص يحاول إزعاجه ولكن بالمقابل له قلب طيب جدأ وكريم إلى أعلى درجات الكرم الإنساني.تستطيع أن تأخذ ملابسه التي لايملك غيرها إذا قلتَ له بأنك بردان وفي حاجةٍ إلى ملابس.كان يحترمني جداً.كان لديه خادم في ذلك المكان ــ غريب ذلك الزمن ــ الكل يبحث عن شيءٍ مفقود وقد يجدهُ في شخصٍ يكوّن من خلاله فسحه من الأمل تساعده على ديمومة البقاء في تلك الغابة المرعبة التي كنا نحيا فيها.

حينما تقدمت السنوات ونحن لا نزال نسكن تلك الفسحة المنسية من التاريخ راح صديقي(ابو فيروز) يدرس اللغة العربية بشكل مفصل عن طريق المصادر القليلة المتوفرة هناك وأصبح لايجاريه شخص في تفاصيل اللغة ومطباتها التي لاتنتهي. بعدها جاءت مرحلة جديدة في حياته وحياتي. راح يكتب مسرحيات ويقوم بتمثيلها مجموعة من الأشخاص الذين يبحثون عن الحظوة لدى المسؤول كي لا ينساهم حينما تكون هناك فرصة للعودة إلى البلد أو الخروج كلاجئين في دولةٍ ما. كانت المسرحيات التي يكتبها في البداية بسيطة تتناسب ومستوى الممثلين الفقراء من الناحية الثقافية. في يوم من الأيام طرح علي فكرة الأشتراك في مسرحياته على أن ينسب إليّ الدور الأول في كل مسرحية يكتبها. في البداية تصورتُ أنه يمزح معي لأنني لم أفكر يوما ما بالأشتراك بأي شيء من هذا القبيل لعدة أسباب منها : من يدخل في هذا النشاط الثقافي معناه أنه يدخل في الصف المعارض للحكومة العراقية في زمن صدام و يصبح مكروهاً من قِبَلْ أؤلئك الذين يكنون الولاء المطلق للسلطة العراقية.

في البداية رفضتُ مقترحه لأنني لا أريد أن أضع نفسي في موضع خطر حينما نعود.قال لي بصراحة مطلقة” اسمع ياصديقي ، من يشارك في هذه النشاطات الثقافية سيكون له تقدير لدى المسؤول وقد تكون سبباً للخروج من هذا الحجيم الذي لا ينتهي. نحن لا نصنع صاروخاً ولا نعتدي على أحد. نحن نقضي بعض الوقت في شيء يجلب السعادة للموجودين هنا ولن نؤذِ أي أحد.” بعد تفكير طويل وافقت على مقترحه مع العلم أنني لم أشترك يوماً ما في تمثيل أي شيء حينما كنت في مراحل الدراسة المختلفة. كتب مسرحية شعرية صعبة تتحدث عن فلسطين والطريق إلى غزة و كان دوري في المسرحية دور البطولة وعدد الأوراق التي تخصني تقريباً عشرون ورقة . كنت أقرأ بمعدل ست ساعات يومياُ.الحق يقال كانت الكلمات التي كتبها ساحرة كأنها كنز أدبي لايمكن التخلي عنها.أحببتُ تلك المفردات وتناسقها في الأبيات الشعرية الرائعة.وقلتُ لنفسي حتى لو أنني فشلتُ في التمثيل فأنها ستكون لي رصيداً أدبياً رائعاً.

وبدأت البروفات ـ كنا نتدرب كل ليلة بعد صلاة العشاء في غرفةٍ صغيرة وكان البرد قاسياً جداً. كان يتابع حركات كل شخص منا وطريقة لفظ الكلمات ومتابعة مخارج الحروف.كان مخرجا جيداً على الرغم من أنه لم يدرس الإخراج المسرحي.كان يشجعني كثيراً ويؤكد لي مراتٍ عديدة بأنني سأكون الأفضل بين جميع الممثلين. جاءت لحظة الصفر وراح الزملاء يبنون مسرحاً خاصاً داخل القاعةِ التي ننام فيها.خرج بعض الزملاء بأمر المسؤول عن المكان الذي كنا فيه لجلب أعداد كثيرة من الأخشاب والأسرّة الحديدية من المخازن المجاورة لمعسكرنا.كان عدد كبير من الأشخاص يخرجون لجلب الخشب والحديد وتحول المكان إلى ورشة عمل عجيبة.كنت أنظر إلى الزملاء وهم يبنون المسرح.راودني شعور غريب وكأنهم كانوا يبنون لي بيتاً.أحسستُ وكأنهم يعملون كل ذلك لي فقط.كان كل المشاركين في المسرحية لا يحملون شهادات إلا ما ندر كالشهادة الإعدادية أو المتوسطة. الكل كان ينظرلي بتعجب,بعضهم يقول بأنني إنخرطت في صفوف المعارضة والبعض الآخر يقول بأنني أبحث عن وسيلة للخروج من هذا الجحيم وبعضهم يتوعد في داخله من أنه سوف يخبر السلطات العراقية عند العودة بأنني أصبحت في الخط المضاد للسلطة العراقية وأشياء كثيرة أخرى.

كان هناك هدفاً في داخلي يحثني للعمل بشكل مستمر في المشروع الثقافي الذي عرضه علي أبو فيروز ألا وهو الخروج من هذا المكان دون أن أسبب أي ضرر لأي شخص مهما كان. وجلب لي المخرج ملابس أنيقة من المسؤول .ملابس لم أشاهد مثلها منذ زمنٍ بعيد. في اليوم الذي حضر فيه المسؤول وعدد من الجنود كي يشاهدوا العرض المسرحي جلس كافة الأسرى على الأرض بعد أن فرش كل واحد منهم بطانيته وجلس فوقها. جلس المخرج أبو فيروز خلف الستارة وهو يحمل النص الأصلي كي يملي على أي ممثل قد ينسى جزءاً من دورهِ. توكلت على الله قبل الدخول إلى الخشبة. كان قلبي يخفق بقلقٍ ورهبة لم أر لها مثيل من قبل.لأول مرة في حياتي أواجه هذا الحشد الكبير من الناس الغرباء عني في كل شيء. كان إمتحاناً عسيراً بالنسبةِ لي.البعض كان يدعوا لي بالتوفيق والنجاح والبعض الأخر يتمنى في قرارة نفسه أن أفشل كي لا أعاود الكرة مرة أخرى.

قفزتُ إلى المسرح، لم أنظر إلى الوجوه الجالسة على الأرض.كنت أحدق في الفضاء الداخلي للقاعة الكبيرة.بدأتُ أتلو الشعر بطريقةٍ مسرحية كما رسمها لي المخرج وحركاتٍ مضبوطة ونهايات جملٍ صحيحة مئة في المئة . كنتُ أسكت حينما يأتي دور (ضياء)رجل القوات الخاصة يوماً ما وأرد عليهِ حينما يسكت. كانت محاورة رائعة بيننا.فجأةً سكت ضياء في حين كان عليه أن يستمر في الحديث. كانت من أقسى اللحظات الحرجة لكلينا . نظر في عينيّ كأنه يستجدي مني شيئاً لا يقدر بثمن. عرفت أنه كان قد نسي السطر الأخير. كان وجهه يتصبب عرقاً وتحول لونه إلى أحمر كالدم.فارسٌ أوشك على السقوط في الهاوية إلى الأبد. وفي لحظة الرعب تلك مددت له يد العون بطريقةٍ لم يتوقعها أبداً.أنا لا أقول أنني رجلٌ خارق ولكن كان هذا هو واقع الحال. كنت قد حفظت كل دوره أثناء البروفات التي إستمرت تقريباً شهراً كاملاً. قلتُ له بهدوء الكلمة التي كان يبحث عنها بطريقة الهمس كي لا يسمعها المشاهدين.استعاد وعيه وتذكر بقية الأبيات الشعرية وراح يتلوها من جديد بطريقة رائعة . عادت الدماء إلى وجههِ من جديد وسيطر على الموقف وكأن شيئاً لم يكن. كان الجمهور صامتاً صمت الأموات.انتهت المسرحية ونزلنا من خشبة المسرح. ركض ضياء نحوي يقبلني وكأنني أنقذت حياته في معركة ٍ حامية الوطيس. جاء المخرج وهو يقول لي ” ألم أقل لك ستكون الأفضل”. بدأ الزملاء يأتون إلي الواحد تلو الأخر والكل يهنئني بهذا الفوز الساحق الذي يحدث تحت أقسى الظروف التي يعيشها البشر في حقبةٍ زمنيةٍلا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى. شعرت بنشوة لم أشعر بها من قبل. وتوالت الإشتراكات في المسرحيات الواحدة تلو الأخرى.أصبحت البطل لكل مسرحية أمثلها ولم أمثل دوراً ثانوياً قط. المسرحية التي لا أشترك فيها تُعتبر مسرحية من الدرجة الثانية على قول أحد الزملاء المقربين مني.

أصبح المسؤول يحترمني كثيراً وحينما أطلب منه أي شيء كان لايعترض إلا ماندر. تطورت إشتراكاتي في البرنامج الثقافي فقد رحتُ أكتب مقالات في المناسبات الدينية والوطنية وألقيها على المسرح بصوتي. بدأت أشترك في مسابقات حفظ القرآن ونهج البلاغة وكنت أحرز نتائج ممتازة وأستلمتُ عدة هدايا ..أقلام..دفاتر.. سجادة للصلاة ..مسبحة وأشياء أخرى. كان البعض من الزملاء يأتون لي ويطلبون مني أن أكتب لهم مقالة معينه في مناسبات عديدة كي يلقونها على المسرح وينالون من خلالها إحترام المسؤول وكي تكون لهم رصيداً في المستقبل. تعلمت اللغة الفارسية وبدأت أعطي دروساً بسيطة لبعض الزملاء. كتبتُ قصص كثيرة وبدأ بعض الزملاء يطالعونها بشغف لدرجة أن أحدهم قال لي مرة :”أريدك أن تكتب لنا قصة تحتوي على مغامرات ، قتال، جنس، دموع وكل شيء ” . لا زالتُ أذكر قسماً من عناوينها….الرحلة الجهنمية…مرة كانت هناك قرية…الجنس الأخر وغيرها. الشخص الذي كان يقرأها كان يأتي إلي ويناقشها معي طويلاً وأستمرت هذه الحالة ، حالة النشاطات الثقافية حتى أخر يوم من أيام المعتقل الرهيب.

من الإزعاجات التي تحدث لنا هناك في قبور الأحياء التفتيش الدوري الذي يجري بين فترة وأخرى. كانت عملية التفتيش تُشكل بالنسبةِ لنا جحيماً لا يطاق. دون أن يتم إعلامنا بالموضوع تهجم علينا مجموعة من الجنود وهم يطوقون كل الأبواب التي تؤدي إلى الحمامات والمرافق الصحية ثم تقف مجموعة أخرى عند باب القاعتين ويبدؤون بالصراخ وبشكل همجي وهم يأمروننا بالخروج إلى الساحةِ المفتوحة ولا يهم أن يكون الطقس بارداً أو حاراً. يبدأ البؤساء بالركض كأنهم قطيع من الأغنام تهرب من ذئاب متوحشة في جنح الليل.كل شخص يحاول أن يخفي قلمه الرصاص الذي حصل عليهِ بشق الأنفس أو يحاول جاهداً إخفاء الأوراق التي جمعها من علب السجائر الفارغة كي يصنع منها دفتراً صغيراً. ويبقى كل شخص يتضرع إلى الله أن ينقذ دفتره الصغير وقلمه القصير. سمعتُ أحدهم يصرح بحزنٍ دفين ” خذوا كل شيء عدا دفتري وقلمي ” .

وتبدأ الجموع الحزينة تُخرجُ حاجياتها في الشمس المحرقة أو الطقس البارد ونبقى ساعات طويلة ننتظر وتكاد أعصابنا تنهار في وسط النهار من التعب النفسي والجسدي. ويبدأ الجنود بعزل أي شيء يريدون عزلة بحجة أنه مخالف ” للدستور- ويقصد هنا بالدستور القانون – “. ومن يعود وهو لازال يحتفظ بقلمهِ ودفترهِ فهذا من أصحاب الحظ السعيد. وتعم القاعةِ كل أنواع الهرج والمرج فهذا يقول بألم أخذوا كل شيء عزيز كنت قد إحتفظت به كل هذه السنين والأخر يصرخ فرحاً لقد أقنعتُ الجندي وتركني أحتفظ بهذا وذاك. وتبقى عملية ترتيب حاجياتنا من جديد …تعب لا يضاهيه تعب.في إحدى هذه العمليات المرعبة التي كانت تجري دون سابق إنذار كنتُ جالساً وسط حاجياتي في الفضاء الخارجي وعدد كبير من البؤساء يجلسون قربي ننتظر دورنا في التفتيش وكان البرد لا يُطاق وجميع حاجياتنا مفروشة على الأرض كأننا في سوق ٍ قديم.جاء أحد الجنود وراح يُفتش في حاجياتي ، لم أهتم في بداية الأمر لأن شيئاً كهذا يُعتبر شيء طبيعي جداً. على حين غرة صرخ ” ماهذا ؟”وكأنه كان قد عثر على صاروخ أو كيس مخدرات.أخبرته بأنها مجرد ” طاقية أو عرقجين كما نطلق عليها باللهجة الدارجة”.أخبرني بغضب من أن هذه الأشياء المدنية ممنوعة هنا وأخرج قلماً وورقة وسجل إسمي ضمن المخالفين.إعتبرتُ الأمر مجرد دعابة سخيفة وربما أراد أن يستحوذ عليها .

جاءني الزميل ” عبد المنعم” وقد ظهرت على وجههِ بوادر القلق لأنه هو الذي أهداني إياها بعد إحدى المسرحيات التي مثلناها سويةً. طلب مني أن أخبر الجندي عن مصدرها كي لا يسبب لي بعض المضايقات. لم أهتم للأمر وأخبرته بأنني أتحمل المسؤولية إذا كانت هناك أي مسؤولية . عند الساعةِ الرابعة عصراً حضر نفس الجندي إلى القاعة وهو يحمل ورقة في يدهِ وراح يقرأ بعض الأسماء ومن بينهم أنا. ذهبنا معه لمقابلة ضابط الأستخبارات المرعب. من يذهب إلى هذا الشخص المدعو ” محمدي ” لا يمكن أن يفلت من العقاب القاسي.اسمه يثير الرعب حقاً في قلوبنا جميعاً لدرجة الموت. لا يعرف الرحمة أبداً . حينما يضرب أحد البؤساء فأنه يستخدم عصا غليظة مخيفة تجعل المضروب يصرخُ من شدة الألم. وقفنا جميعاً في الرواق الطويل المؤدي إلى غرفتهِ . نظر حامد الراعي إليّ بهلعٍ شديد وطلب مني أن أتوسل اليه أن لا يضربه لأنه لم يرتكب أي خطأ على حدِ قوله ولديه فقرات تؤلمه. كان يتكلم معي وكأنني أنا الذي سأقوم بجلده بعد قليل. كان حامد من شمال العراق وأطلقنا عليهِ لقب ” الراعي” لأنه كان يملك أغنام ويرعاها طيلة الوقت وليس لديهِ أي حديث سوى الأغنام . حاولتُ تهدئتهِ وأنني سأبذل أقصى جهدي لأتحدث مع محمدي عنه وعن مرضه.

دخل أبو نصير غرفة الضابط وكانت جريمته أنه طرز على ” فانيلته الداخلية شعار القناة الخامسة للتلفزيون الإيراني ولا أحد يدري لماذا فعل ذلك.” بعد لحظات سمعنا صراخا يخرج من غرفة الضابط.كان أبونصير يصرخ بأعلى صوته يستنجد باي أحد ولكن لا أحد يستطيع أن يفعل له أي شيء. بعد قليل خرج أصفر الوجه وكأنه شارف على الهلاك. في اللحظة التي وقعت فيها عينيّ على أبو نصير قفز قلبي من بين ضلوعي …لم أخف طيلة حياتي بالطريقة التي خفتُ فيها في تلك اللحظة . دون وعي رحت أقرأ أيات من القرآن الكريم وأتضرع إلى الله أن ينقذنا من مخالب ذلك الأنسان الذي لا يعرف الرحمة طيلة وجودنا في ذلك المكان الخالي من الحياة. في اللحظة التي دخلتُ فيها غرفة الضابط وقف الأخير وهو يقول مبتسماً”آه..أنت الشخص الذي مثل مسرحية الطريق إلى غزة، أليس كذلك ؟ لماذا ترتكب خطأ أمني؟ ألا تعلم أن وجود أية قطعة ملابس مدنية ممنوعة في هذا المكان؟ على حد علمي أنت رجل مثقف ولذلك يجب أن تكون قدوة للأخرين.” بسرعة البرق رحت أتحدث معه بلهجته ” ولو أنها لم تكن متقنة ولكنه كان يفهم ما أريد التعبير عنه”. بدأت أشرح له بأننا لم نرتكب أخطاء كبيرة وأن المسامح كريم وهذه أول مرة وأن وجود الطاقية كانت لأغراض العمل الثقافي وتوسلات كثيرة.والغريب أنه وضع العصا المرعبة جانبا وقال بأنه سوف يسامحنا هذه المرة ولكن في المرات القادمة سيكون عقابنا أقسى إن تكرر الأمر معنا.فرحنا كثيراً وكأننا خرجنا من غرفة الإعدام. في طريق العودة نظر إلي حامد الراعي قائلاً ” الحمد لله لأنك تعرف القليل من لغتهِ وإلا لكان عقابنا شديداً”.لم أجبه لأنني كنت في حالةٍ نفسية مرهقة. عند سقوط الجليد بغزارة تتجمع الثلوج فوق سطح القاعة بشكل لايُصدق، ويطلب المسؤول من مجموعة البؤساء أن يصعدوا إلى السطح الثلجي لإزالة الجليد عن السطح.العملية صعبة جداً.جاء دوري. خرجنا نحو الفضاء الخارجي الذي يكاد يشبه مجمدة كبيرة. على الرغم من وجود الشمس بَيْدِ أن برودة الطقس كانت لا تحتمل. السلم الخارجي مرعب وضيق ومن لاينتبه يمكن أن يتهاوى على الأرض في لمح البصر. كنا نتسابق في إستخدام ـ المسحاة ـ الوحيدة التي كانت معنا. أي توقف عن الحركة معناه تجمد الدم في العروق . لاتوجد لدينا أحذية تمنع تسرب البرد القارص إلى أقدامنا. عند إنتهاء المهمة شعرت أنني على وشك الأنهيار من شدة تصلب جسدي نتيجة البرد . كانت الفترة الأولى من وجودي في معسكر ـ قبور الأحياء ـ صعبة من كافة الأمور. من الأشياء التي حدثت وغيرت مجرى حياتنا كأسرى حرب الخليج كما كانوا يُطلقون علينا ، حادثة مزعجة جداً لأنها قلبت حياتنا رأساً على عقب هي هروب أحد الأشخاص من المعسكرات القريبة منا. لم نعرف حتى إسمه وتبين فيما بعد أنه من مدينة ديالى. سمعنا حكايات كثيرة عن عملية هروبه ولكن لا نعرف فيما إذا كانت حقيقية أم أن البعض راح ينسج من خياله تلك الحكايات.

في فجر اليوم التالي جاء عدد كبير من الجند وطلبوا من الأرشد العراقي أن يوقظنا لأجراء عملية تعداد طارئة لنا. زاد الهرج والمرج بيننا وتساءلنا عن سر ذلك الأزعاج الصباحي المبكر إلا ان أحداً لم يعلمنا عن أي شيء. أقفلوا علينا أبواب القاعات ولم يسمحوا لنا بالخروج إلى الفضاء الخارجي كعادتنا كل يوم. قطعوا عنا ـ الهوا خوري ـ وهو الوقت المخصص لنا بالخروج إلى الساحة المقابلة للقاعات لأستنشاق الهواء والتعرض للشمس. إستمر ذلك أسابيع طويلة وكنا نستفسر عن سر ذلك المنع المفاجيء ولكن دون جدوى. بعد فترة من الزمن جاء إلى المعسكرضابط أمن قلبَ كافة الموازين القديمة التي كنا معتادين على ممارستها . جاء يمشي متكبراً كطاووس يتبختر في يومٍ مشمس. وقف في وسط القاعة والجنود يُحيطون به من كلِ حدبٍ وصوب . دقق النظر في كل زاوية من زوايا المكان وصرخ دون سابق نذار ” ما هذا؟ ” كان يشير إل حقائبنا المرعبة المعلقة على طولِ جدران القاعة الباردة. وحقائبنا ماهي إلا أكياس كانت تستخدم لحفظ الطحين. إلتفت إلى الجندي الأقدم ” سأحضر غداً إذا وجدتُ مسماراً واحداً فسأدقهُ في رأسك…إذا وجدت حقيبه واحدة معلقة على الجدار سأسلخ جسدك” . وحلت الكارثة بعد خروجة.

جاءت مجاميع من الجنود وراحوا يصرخون ” كل حاجياتكم يجب أن تكون خارج القاعة ، حتى المريض الذي لايقوى على الحركة يجب أن يخرج إلى الفضاء الخارجي”. رحنا نلعن حظنا العاثر الذي القى بنا في هذا الأتون الذي لاينتهي. وهجم الجنود يمزقون أي شيء معلق على الحائط . يفصلون الأسّره عن بعضها البعض . كنا ننظر اليهم مذهولين مذعورين لتلك الهجمة الشرسة على أماكن نومنا التي تمثل رمز راحتنا وأستقرارنا. بعد قليل جاء الأرشد العراقي وطلب منا التجمع لألقاء التعليمات القاسية التي إستلمها من الجنود. كانت صدمة لنا. قال بحزنٍ شديد ” إخوان اسمعوا جيداً لما سأقولهُ لكم. الضابط الجديد قاسٍ جداً لايعرف معنى الرحمة أبداً. قال بأنه سوف يمنحنا فرصة ليوم واحد فقط للتخلص من كل الأشياء الأضافية التي في حوزتنا . لايريد أن يبقى أي شيء معنا عدا الأشياء الضرورية جدا لحياتنا هنا. فلنمتثل لكل الأوامر التي يريدها منا لكي تكون حياتنا محتملة هنا لحين قدوم الفرج الكبير.”كانت الأشياء الأضافية التي يتحدث عنها الأرشد العراقي ما هي إلا أسلاب بالية تكدست عندنا بتقادم السنين العجاف. بدأ كل شخص يتخلص من بعض حاجياتهة التي يتظاهر بأنها فائضة عن الحاجة في حين أنه كان يبكي دموعاً حاره في قرارة نفسه على فقدانها لأنه في حاجةٍ شديدة إليها. من عاش في قبور الأحياء يفهم ما أقوله الآن . سمعت بعضهم يقول بأنه لن يتخلص من أي شيء مهما كان تافهاً فليس لديه الجرأه على ذلك.

فجأةً أصبحت أكوام متعددة لأشياء مختلفة تخرج من هذا الشخص أو ذاك. كان البعض يبحث عن بعض الأشياء التي تخلص منها الأخرون فيجدها مفيدة له ويختطفها من أكمام القمامة ثم يخفيها في حقيبته على أمل أنه سيستفيد منها يوماً ما. وبدأ الجميع يفعلون ذات الشيء لدرجة أن ما يلقيه ” س” يلتقطه ” ص” وهكذا. وجاء اليوم التالي وحلت الكارثه الأخرى، كان الضابط يقف بشموخ وتحدي ويطلب من كل شخص أن ينزع ملابسهِ كلها عدا اللباس الداخلي ويسمح له بأخذ منشفة الحمام وقليل من الأشياء ألأخرى ثم يُصادر كل ألأشياء المتبقية التي يمتلكها الأسير. عدنا إلى أسرّتنا وكأننا قد تعرضنا إلى هجوم واسع . لم يبقِ قلماً ولا ورقة. بعض الأشخاص كانوا قد أخفوا أشياء كثيرة في أرضية الحديقة الصغيرة ولكن الضابط كان ذكياً فأرسل مجموعة من الجنود للبحث عن الأشياء المدفونة ووجد أشياء عجيبة . عدنا من جديد نحاول جمع أشياء أخرى ـ تافهه ـ في نظر الضابط ولكنها مهمة جداً بالنسبةِ لنا وأستغرق ذلك شهوراً طويلة.

يتبع……