18 ديسمبر، 2024 4:09 م

جحيم الأيام / الحلقة السابعة عشرة

جحيم الأيام / الحلقة السابعة عشرة

انقضت السنة بشهورها الشديدة البرودة والقاسية الحرارة وجاء عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية. جاءني عند بداية النهار وهو يقول ” أستاذ سادعوك اليوم إلى قطعة كبيرة من الكيك اللذيذ.سنأكلها عندما تنتهي السنة الميلادية أي بعد الساعة الثانية عشرة بدقيقة واحدة. المطلوب منك أن تحتفظ بجزء قليل من قطعة الخبز التي يتم توزيعها لنا هذا اليوم. لقد وفرتُ قطعتين من الخبز وهي حصة طعامي لمدة يومين. قبل يومين توقفتُ عن تناول الخبز واكتفيتُ بقدح الرز الوحيد كي أصنع لك قطعة من الكيك. جففت الخبز في الشمس وسحقتهُ بقطعة من الطابوق وهو الآن يشبه الطحين الحقيقي. سأضع المسحوق مع السكر في الماء وأسخنها حتى تصبح عجينة حلوة جاهزة للاكل ، سنقضي وقتاً جميلاً” .

قلت له:” لا أملك أي شيء من الخبز وسأحاول أن أقترض نصف رغيف من أحد الزملاء”. قال على الفور : “لا تفعل ذلك سوف أتدبر الأمر.” حاولتُ أن أقنعه بأنني سأتدبر الأمر بنفسي ولكنه رفض ذلك وأقسم بأنه سيفعل كل شيء بنفسهِ. تركته يفعل مايريد. سارت الساعات بطيئة كعادتها كل يوم. الوقت في الأسر ليس له قيمة ولا أهمية لمرور ساعة أو ساعتين قد نقضيها أما في النوم أو الجلوس كالمتسكعين عند حافة الجدار الخارجي للقاعةِ المرعبة ننظر إلى الأفق البعيد الممتد على طول البصر أو نقضي الوقت جالسين تحت الشجرة الوحيدة الجرداء ، أو قد يسير بعضهم يفكرون بأشياء خيالية لا تعد ولا تحصى.

مزيج من التداخلات اليومية التي تعصر ذهن المعذب في الأرض فتحيله إلى كومة من الركود والكسل. كل شيء في الأسر يحترق ويتلاشى في الأفق القاسي الممتد على طول الزمن. جاء الغروب وتراجعت الشمس مدحورة خلف المرتفعات الجرداء تحمل معها آهات البؤساء المحرومين من كل شيء.قرأتُ في إحدى الروايات ” أن أحلك الساعات هي التي تسبق بزوغ الشمس” ولكنني الآن أخالف هذه العبارة وأعترض على كاتبها ففي قبور الأحياء فأن أحلك ساعات النهار هي التي تسبق ساعات حلول الظلام أي عند حلول الغسق. أنا بالذات أشعر بالاختناق وأتمنى أن لا يأتي الغسق أبداً ولطالما ذرفتُ دموعاً عند تلك الساعات.هذا الوقت يحطم الأعصاب ويحيل الذات إلى كومة من الرماد.عندما ندخل القاعة عند الغروب تلفحنا رائحة الأجساد النتنة ورائحة الأسرّة المرعبة وضوضاء الأسرى وهم يتهيئون للعشاء أو الصلاة. نشعر أن الأرض تكاد تطبق شدقيها علينا لتحيلنا إلى جماجم ملقاة على قارعة الطريق.

كم أن حلول الغسق مرعب هناك. من بعيد أسمع صوت طائرة تحلق في السماء.أتخيل ركابها الآن وهم يتناولون قطعا من الكيك اللذيذ مع بعض المشروبات الخفيفة أو يسندوا رؤوسهم باسترخاء على المقعد الوثير يحلمون بأشياء رائعة أو يستمعون إلى موسيقى حالمة تخرج من مكبرات الصوت المعلقة في سقف الطائرة . كنت أشاهد تلك الطائرات من النافذة القريبة من سريري في الطابق العلوي وهي متجه إلى المطار. كلما شاهدت طائرة أبقى فترة من الزمن أحلق مع ذكرياتي المنسية التي صدئت وأحاطت بها هالة من الغبار وسيطرت عليها خيوط عنكبوتيه .

بعد تناول العشاء ــ الذي لايمكن أن نُطلق عليه صفة العشاء وإنما وجبة التعذيب النفسي من حيث الكمية والنوعية ــ جلستُ فوق سريري أنظرُ نحو الأجساد البشرية المرهقة التي استقرت فوق أسرّتها ملتمسة جزءاً يسيراً من راحةٍ وهميةٍ.جاء ” سطام” وقد ظهرت على وجههِ علامة انشراح دفين على الرغم من اصفرار وجههِ وضعف هيكلهِ العام بسبب المعاناة اليومية وقلة الطعام.رفع يده من وسط القاعة المزدحمة بالأجساد المتحركة مشيراً إليّ بالنزول من سريري كي نسير وسط القاعة حسب التقاليد اليومية. نزلتُ بتثاقل وكأنه اجتثني من أحلامي الوردية لأعود إلى عالم الواقع المرير. تصافحنا كما نفعل كل مرة نلتقي فيها.ابتسم بسعادة وهو يقول ” أستاذ ، لقد أتممتُ كافة التحضيرات اللازمة لإقامة الاحتفال بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة.طحنتُ ثلاثة أرغفة يابسة واستخدمت طابوقة كبيرة لهذا الغرض.سنقضي وقتاً مميزاً هذه الليلة”. كانت عادة بعض الزملاء في مثل هذا اليوم يُحضّرون بعض الأشياء وينتظرون حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً ويقوم أحد الزملاء وأسمه ” علي دولي” بإطفاء النور الضعيف لمدة دقيقة واحدة ويصرخ بأعلى صوته ” كل عام وانتم بخير” . كنا نذرع القاعتين المتصلتين مع بعضهما البعض ذهاباً وإياباً نخترق الجموع الكثيرة التي تسير من قاعةٍ إلى أخرى للترويح عن أنفسهم قبل النوم.بعد العشاء تزداد القاعتين ضجة ويشعر المرء وكأنه يسير في سوقٍ قذر مزدحم بالمارة.

سمعتُ قصص حياة كل الموجودين معي وبدأتُ اعرف تفاصيل دقيقة عن حياتهم الشخصية.الغريب أنني أصبحتُ مثلهم وقصصتُ عليهم جزءاً من حياتي. قال سطام وهو يسير إلى جانبي ” الساعة الآن التاسعة ليلاً ، سنتناول الكعكة في الساعة الثانية عشرة ودقيقتين”. نظرتُ إلى الساعة الجدارية القديمة وقلت بأضطراب” لماذا لانتناولها الآن ومن ثمَ نذهبُ إلى النوم؟ ضحك سطام بأعلى صوته وهويقول بسعادة ” إسمع يا أستاذ، لقد إتبعتُ كافة توصياتك حول التعليم وأشياء أخرى ولكني سوف أعصي توصياتك هذا اليوم فقط. حاول أن تتحمل ثلاث ساعات وبعدها ستأكل حتى التخمة.هذه فرصة لايمكن تعويضها.هذه أول مرة أفكر في السنة الجديدة وعيد الميلاد. في هذا المكان تعلمت منك أن العالم يحتفل بمثل هذا اليوم . كان هذا الحدث يمر دون أن يخطر على ذهني. عندما أعود إلى الأرض الطيبة سأحتفل كل عام مع زوجتي وأبني بهذه المناسبة وقدأسافر إلى بغداد كي أحتفل بها معك . أنا جائع مثلك ولكن فنجعل هذه الليلة تختلف عن الليالي الأخرى التي نعيشها في هذا المكان”.شعرتُ بالحياء من نفسي. عاد الصمت يلفني من جديد. كان الفتى يحاول أن يجعلني أضحك بشتى الوسائل من خلال الفكاهات والطرائف التي يذكرها لي. فجأةً راح يقول ” إستاذ تصور أنك الآن في مطعم اللاذيقية ــ الذي حدثتني عنه سابقاُ ــ في العرصات وأمامك طبق كبير من القوزي والتمن وأنواع مختلفة من المرق وطبق كبير جداً من المقبلات وإلى جانبك فتاة جميلة جداً….ماذا تفعل؟نظرتُ اليه وقد إرتجفت كل عضلة من عضلات جسدي ولاحظ بريق عيني الجاحظتين . شعرتُ أن السائل الخاص بالفم بدأ يتحفز للخروج وأحسستُ أن معدتي بدأت تتحرك صارخة للحصول على أية قطعة من أي مأكول لسد الفراغ الشاسع فيها. قلتُ بتحسر كبير” لماذا تحاول تعذيبي بهذا الحديث الذي لايمكن تحقيقة حتى في الأحلام؟” . ضحك بأعلى صوتهِ ضارباً على ركبتهِ بيدهِ اليمنى شاعراً بمدى الشوق الشديد لتناول أي شيء في تلك اللحظة. قال بعدها بجدية مفرطة ” أنا متأسف جداً يا أستاذ ، إن تعذيبك هو آخر ما أفكر فيه . أنا مستعد للموت من أجلك. لقد منحتني شيئاً لايمكن أن يهبني إياه حتى والدي. لا أعرف كيف أُجازيك. أتمنى أن أملك أي شيء الآن كي أقدمه لك عرفاناً للجميل الذي فعلته من أجلي. أشعر بالخجل الآن لأنني لا أملك أي شيء ثمين أقدمه لك” .

قلتُ له على الفور ” لا أريد أي شيء منك ليس الآن ولكن في المستقبل . كل ما أريدهُ منك هو الأحترام وليس شيء آخر غير الأحترام وأن تتذكرني حينما نفترق يوماً ما . لا تتكبر عليّ حينما تراني في الشارع وأنت تقود سيارتك الفارهة. لا أريد منك شيئاً سوى أن ترفع يدك ملقياً إلي التحية. نظر إليّ بذعر وكأنه يحتظر وأندفع يقول ” لا يفعل هذا إلا من كان إبن زنا. أنا أعتبرك المنقذ لي من محيط الجهلِ العلمي الذي كنت أتخبط فيه….أنا لا اقبل حتى الفرضية القاسية التي تتهمني بها . ستثبت لك الأيام ما اقول.” صمت قليلاً ثم أردف يقول بحزنٍ ممزوج بسعادة دفينة ” قبل عام كنتُ أفكر مع نفسي ماذا سأفعل في المستقبل حينما يُطلقون سراحي؟ كنتُ أُخطط لشراء شاحنتين أو أكثر وأُمارس مهنة التجارة ونقل البضائع بين عمان وبغداد وبقية الأقطار القريبة.ولكن الآن تغير تفكيري تماماً . ” حاولتُ أن أشاركه الحديث وأغير الموضوع ولكنه قاطعني قائلاً ” حينما أعود سوف أُنشأ مكتبة كبيرة جداً في مدينتي وأملؤها كتباً من كافة أنحاء العالم وأكون مديراً لها. أبيع وأشتري الكتب . سأقضي كل ساعات النهار في المطالعة. قبل سنة لم أكن أعرف اسم أي كاتب عالمي أو عربي أو حتى عراقي لأنني كنت في عالم آخر. عن طريقك أصبحتُ أعرف ــ دي .أج. لورانس. جالز ديكنز. تنيسون. البرتومورافيا. سمويل بيكت. أحسان عبد القدوس. نجيب محفوظ. عبد الحميد جودة السحار. المنفلوطي. عادل كامل. فاضل ثامر. غادة السمان . وغيرهم. عرفتُ اسماء روايات لو لم تكن أنت معي لما عرفتها أبداً. كيف تقول بأنني سأشيح بوجهي عنك حينما أراك في الشارع يوماً ما؟ لقد خلقتَ مني إنساناً آخر.”.

دخل سطام في حياتي أثناء وجودي في الأرض المنسية دون تخطيط مسبق. تعودتُ على صحبته وتعود هو على الآخر على صحبتي.لا يمضي يوم واحد دون أن نقضي معاً ساعاتٍ طويلة في الدراسة وأشياء أخرى. في البداية كنت أجد بعض الحرج في ذلك لأن لدي برنامج طويل لحفظ قاموس المورد. حينما كان يسير معي أضطر إلى إيقاف برنامجي لغرض متابعة طريقتهِ في التلفظ واستمع اليه حينما يضع الكلمات في جمل مفيدة. يوماً ما قلت له بحياء”تعرف أني بدأتُ بمشروع طويل وصعب وهو حفظ قاموس المورد عن ظهر قلب وأحتاج دراسة يومياً عشر ساعات فأذا قضيتُ معك كل هذا الوقت فلن أستطيع حفظ شيء. يجب أن تحدد ساعة واحدة لك يوميا كي أمتحنك وأستمع إلى طريقتك في تلفظ الكلمات وماشابه ذلك.”

قبل أن أنهي كلامي قال بحماس شديد “حسناً سأدرس معك ونحفظ القاموس معكاً. سأكون مفيد لك في بعض الأمور أثناء حفظك للكلمات”. نظرتُ اليه بتعجب وكأنني لم أصدق ما كان يقول. وبدأنا نحفظ سوية . طريق شاق وطويل.كان يتفوق عليّ أحياناً في تذكر بعض الكلمات التي كنا نحفظها معاً. يوماً بعد آخر إزداد نشاطنا مع بعض وشعرتُ بسعادة كبيرة لأن هذا الفتى القادم من أعماق سنجار بدأ يفهم ويستوعب ما كنت أتحدث به اليه. كنا نقضي ساعات طويلة تحت أشعة الشمس المحرقة وتحت برودة الطقس التي لا تطاق. كنتُ أحفظ مئة كلمة كل يوم وكنتُ أشعر بمدى العذاب الذي كان سطام يعانيه . في إحدى المرات قال لي بحياء ” أستاذي العزيز…لماذا لا نحفظ عشرون كلمة في اليوم الواحد بدلاً من مئة كلمة لأن قليلٌ دائم خيرٌ من كثير زائل” وبالفعل وجدتُ أن كلامهُ صائب ومنطقي.

تقدم الزمن الصعب وتقدم الليل وأزداد الجوع الذي راح يحطم الأعصاب. نظر الفتى ناحيتي وعلامات الأرهاق ظاهرة على وجهه بوضوح. قال بهدوء” الآن الساعة الحاديةعشرة ليلاً بقي وقتاً قصيراً. سأذهب لتحضير ” الجولة” كي أضع عليها ” قوطية ” الشاي. ومن لايعرف المعنى ” العلمي للجولة…فهي عبارة عن مدفأة صنعها أحد الزملاء من عدة صفائح معدنية.” طلبتُ منه أن أذهب إلى سريري كي أستلقِ بعض الوقت لحين قدوم موعد الحفلة المرتقبة ولكنه رفض ذلك معتقداً بأني أريد الهروب ونسيان الحفلة التي كان قد أعّد لها منذ زمن بعيد. شعرتُ بنعاسٍ عجيب وآلام شديدة في ساقي بسبب السير الطويل داخل القاعة الباردة جداً. ذهبتُ معه لألقاء نظرة خاطفة على الكيكة التي صنعها. كان يحتفظ بالقطعة ” اللذيذة” في إناء معدني لو وجده أي إنسان في أي مكان لما نظر إليه ولا أدري كيف حصل عليه ؟ .

جعلني أنظرُ إلى الجولةِ بنارها الزرقاء وقد وضع عليها ” قوطية” معدنية صغيرة وقال بسعادة ٍ كبيرةٍ ” أنظر يا أستاذ سنتناولها بعد ساعةٍ من الآن وقد حضّرْتُ لك مفاجأة”.حاولتُ أن أجعلهُ يقول لي عن نوعية المفاجأة ولكنه قال لي بالأنجليزية ” ليس الآن ولكن فيما بعد”.عندما إقتربت الساعة من الثانية عشرة ليلاً تسلقنا إلى سريري القريب من السقف. كانت السماء تمطر مطراً غزيراً وكانت بعض قطرات الماء المتسربة من السقف تصل إلى جانب السرير.كان سطام قد غطى الاناء بمنشفتهِ التي يستخدمها للأستحمام وكان يعلل سبب تغطيتها بقولهِ أن أغلب الزملاء يتضورون جوعاً وقد يشاهدها أحد الجائعين وبالتالي سيقع علينا نوعاً من الإثم لأن بعضهم لايستطع أن يفعل مثل تلك الوليمة . وضع ـ الجولة ـ على الأرض قرب سرير أحد الزملاء وبين فترة وأخرى يصرخ بصوت مرتفع ” أبو شكر إنتبه للجولة “.

دقت الساعة الثانية عشرة ليلاً وقفز ـ علي دولي ـ من فراشهِ وأتجه ناحية زر المصباح الكهربائي الخافت وأطفأهُ لمدة دقيقة واحدة وصاح بعدها ” كل عام وأنتم بخير”. أعاد فتح الزر الكهربائي.حدثت ضوضاء بعض الشيء وراح كل واحد يقول للشخص القرب منه ” كل عام وأنت بخير ” . أزاح سطام الستار عن قطعة الكيك وخطَّ في وسطها خطاً بملعقتهِ وقال ” أستاذ هذا الجانب لك وهذا لي لا أقترب من ضفتك ولا تقترب من ضفتي. كان مشهد ـ العجينة ـ عفواً أقصد الكيكة يسرُ الناظر. لونها قهوائي ويبدو أنه بذل جهداً كبيراً في سبيل تحميصها.تناولتُ الملعقة الأولى ثم الثانية كان طعمها حلو المذاق لم يدخل في فمي مثل هذا الطعم منذ فترة طويلة من الزمن. كنتُ أتضور جوعاً لدرجة أن يدي كانت ترتجف أثناء قطع أي قطعة صغيرة. كنت أحس أن هناك ذرات صغيرة من الرمل تدخل فمي أثناء قضم أية لقمة. لم أهتم لذلك لأن الجوع وكما يقول المثل ” أفضل طاهٍ في العالم”. قساوة الجوع غطت على قساوة ذرات الرمل الصغيرة بين أسناني.

كان سطام يحاول اللحاق بي أثناء مضغ لقمتهِ .كنتُ سريعاً جداً في تناول قطع العجينة. حاول أن يتكلم أو يُعلّق بشيء بيد أنني أشرتُ إليه بعدم الكلام أثناء تناول الطعام كي لا نفقد متعة تذوقها. لم أكمل حصتي المقررة . فجأةً قلتُ له ” إكتفيتُ …شبعتُ تماماً. الحمد لله الذي رزقني ورزقك من فضلهِ”. وضعتُ ملعقتي جانباً. نظر الفتى الأسمر صوبي بأندهاش وهو يقول” ما هذا يا أستاذ؟ أنت لم تنهي حتى ربع حصتك ! هذه فرصة ذهبية لن تتكرر إلا بعد عام إنْ بقينا على قيد الحياة. ” ابتسمتُ له بهدوء وأنا أريح جسدي على الوسادة القريبة وقلت له ” بالعافية حصتي الباقية لك ” . حينما سمع العبارة الأخيرة قال بأرتياح ” كما تريد يا أستاذ ” . كان يتناول العجينة بشكل ملفت للنظر وكأنه مخلوق بشري لم ير طعاماً منذ عشرات السنين.قبل أن يبتلع اللقمة يضع ملعقة أخرى في فمهِ. بعد إنتها الوليمة تنفس الصعداء وأزاح الأناء جانباً وصاح على الزميل القابع في الطابق الأول حيث يوجد سريرهِ وحيث توجد الجولة وقوطية الشاي. ” ناولني العلبة المعدنية الحارة “.

بعد أن شربنا الشاي أدخل يدهُ في جيبهِ وأخرج سيجارتين فلتر. نظر إليَّ بكبرياء وهو يقول”إنظر يا أستاذ ….لقد وفرتُ هاتين السيجارتين منذ زمن بعيد لهذه المناسبة الفريدة. تمنيتُ أن أقدم لك في هذه المناسبة عدد أكبر ولكن تعلم أن العين بصيرة واليد قصيرة.”أخذنا نتكلم عن مواضيع مختلفة باللغة الأنجليزية وكان متلهفا للحديث عن أي شيء بلغتهِ الجديدة.كان يرتكب بعض الأخطاء من ناحية القواعد ولكني لم أكن أصحح له ذلك كي لايشعر بالحرج والإرتباك ولكني أفهم مايريد قولة بالإضافة إلى أنني أردت أن أزرع فيه روح الجسارة حينما يريد التعبير عن أي شيء. الشيء المهم الذي كنت قد وجدته فيه أنه لا يرتبك ويحاول أن يقول أي شيء وهذا شيء جميل جداً.

حينما دب التعب إلى جسدينا ذهب كل واحد منا إلى فراشهِ على أمل اللقاء عند العاشرة صباحاً . بقيتْ ذكرى تلك الوليمة عالقة في ذاكرتينا سنوات طويلة فقد أصبح إقامة مثل تلك الحفلة شيء مستحيل لظروف صعبة كنا نمر بها على طول الزمن. واستمر الفتى سطام يلازمني كظلي لا نفترق لحظة واحدة إلا عند النوم. في الأسر تحدثُ أشياء غريبة وعجيبة.أحياناً يتحول الصديق إلى عدو والعدو يتحول إلى صديق مفارقة عجيبة في زمن الخوفِ والرهبةِ من كلِ شيء. تحدث أحياناً مشاجرات خطيرة بسبب أشياء تافهة تُحيل المكان المغلق إلى جحيم حقيقي. أما سطام فقد أحدث ثورة عجيبة من ثورات التعلم والتعليم في ذلك المجتمع الضيق.عندما بدأ يتكلم اللغة الأنجليزية جاءني عدد كبير من الزملاء يحاولون رجائي لأعطائهم محاضرات أولية في اللغة الأنجليزية.

كانت الغيرة في المكان المنسي الذي كنا نعيش كل تفاصيلة المرعبة تلعبُ دوراً في خلق منافسات شديدة بين الزملاء . وجدتُ أنه من المستحيل أن أقوم بتدريس كل شخص على إنفراد خصوصاً بعد أن إزداد العدد لذلك طلبتُ منهم أن يجتمعوا مع بعض مقابل ساعة واحدة كل يوم. بدأتُ بتدريس مجاميع مختلفة من الساعة الثامنة والنصف صباحاً حتى الخامسة عصراً وأحياناً حتى الساعة التاسعة ليلاً. لم يكن سطام هو الشخص الوحيد الذي كان له دور مهم في حياتي أثناء وجودي في قبور الأحياء. كان هناك شخص نطلق عليه إسم ” أبو فيروز” مع العلم أنه ليس لديهِ أي طفل . كان يعشق المغنية فيروز بشكل كبير لذلك أطلق على نفسهِ أسم أبو فيروز. لقد أحببته بشكل لا يوصف على الرغم من وجود بعض الإختلافات البسيطة بين شخصيته وشخصيتي.

كان لهذا الشخص دور فعّال في تلك الحقبة الزمنية التي عشناها سوية .إنسان يحمل من الصفات ما يعجز القلم عن ذكرها في مجالٍ ضيق كهذا. حينما أريد الكتابة عن بعض الأشخاص في هذه المذكرات أجد نفسي منحازاً إليهم رغماً عني مهما حاولت تجاهلهم أو إتخاذ موقف الحيادية في هذا الموضوع أجد نفسي عاجزاً عن ذلك. من هؤلاء الأشخاص أبو فيروز. لقد علمني أشياء كثيرة لم أكن أحصل عليها لو عشتُ في هذا المكان آلاف السنين. كان كتاباً يسير على الأرض بصفة إنسان. أي شيء تسأله تجد عنده جواباً حتى لو كان مقتضباً.ينحدر من عائلة إتخذت من الأدب والشعر مرتعاً لها منذ أن وُجدت على هذه الأرض.لا أريد أن أتحدث عن المعتقدات الدينية والإجتماعية التي يؤمن بها لأن هذا الشيء يُعتبر من الأشياء الخصوصية التي لا يحق للأخرين التدخل فيها .

يوماً ما كان والده رئيساً للمعارض العراقية في زمن الستينات أو قبل ذلك لا أعرف بالضبط متى؟ يوماً ما حمله عبد الكريم قاسم في أحضانهِ حينما زار المعارض العراقية.حينما كان يافعاً جاءته فرصة يمكن أن نطلق عليها بالذهبية لو كان قد إستغلها بالطريقة العقلانية ــ حسب قولهِ ــ بيد أن عبثيتهِ وعدم مبالاته قادتهُ إلى هذه الظروف القاسية التي يعيشها معي الآن. كان يعترف لي بحزن ويقول ” نعم أنا أستحق أكثر من هذا العذاب”. كانت معرفتي به في البداية سطحية مجرد إلقاء التحية حينما يمر من أمامي وأحياناً حتى هذه التحية تنعدم بيننا .كان سريرهُ قريباً من سريري ولكني أشعر أن مسافاتٍ هائلة تفصل بيننا. في قرارة نفسي كنتُ أتمنى أن أقترب منه وشعرت أنه هو الآخر يتمنى أن أقترب منه ولكن الخوف من كل شيء هو الذي يفصل بيننا ويجعلنا نتحاشى الأخر.

كنتُ أراه يجلس دائماً مع شخص عجيب لا ينتمي إلى شخصيتهِ ولا ينتمي إلى بيئتهِ الإجتماعية والثقافية التي كان قد ترعرع فيها.البون الشاسع بينهما جعل أغلب الزملاء ــ في قبور الأحياء ــ يتساءلون عن سر تلك العلاقة القوية بينهما. أنا لا أريد أن أحط من قدر الشخص الآخر ــ أستغفر الله ــ ولكن يبقى السؤال الكبير الذي يلح على ذهن كل من يراهما معاً لا يفترقان أبداً وكأنهما خُلِقا هكذا.هل يمكن أن يكون إنسان مثقف جداً ومطلع على كل مؤلفات الأدباء في زمنٍ ما وله قالبية الكتابة بشكل يُذهل العقول وله قدرة جبارة على الحديث في أي موضوع يُطرح للنقاش أن يكون صديق إنسان شبه أميّ لايكاد يكتب أبسط الكلمات إلا وأرتكب خطأً فادحاً حتى طريقتهِ في الكلام ثقيلة إنَّ هذا لشيء عجيب؟ ولكني فهمت السبب الذي جعلهما يذوبان في بعضهما البعض وقد أذكر ذلك حينما يأتي الدور للحديث عن الشخص الأخر، لأنه هو الأخر كان له دور كبير في حياتي هناك .

بين عشيةٍ وضحاها أصبحنا زملاء من الدرجةِ الأولى.كنا نستأنسُ ببعض حينما نجلس ساعاتٍ طويلة نتحدثُ عن أشياء مختلفة. مما زاد في تقربنا لبعض كوننا متخرجان من نفس الكلية ونفس القسم ولكنه سبقني بسنواتٍ قليلة. كنتُ أجد فيه ضالتي المنشودة . كأنني وجدتُ حُلماً كان قد ضاع مني إلى الأبد. كنا نستذكر مواقف كثيرة حدثت لنا في الكلية ونتحدث عن هذا الأستاذ وتلك الأستاذة وعن أشياء لا تعد ولا تحصى. كان وجودهُ معي قد خفف عني كثيراً من الأعباء النفسية التي كنتُ أرزح تحت طائلها. الحق يقال كانت له طريقة ساحرة في الحديث يجعل السامع ينشَّدُ إليهِ بكل إنتباه.لو تحدثتُ عنه بكل التفاصيل لأحتجتُ إلى مئات الأوراق التي لا تنتهي أبداً. كان يفهم ما أريد البوح به من مشاعر الحب والكراهية والأمل المفقود وكل شيء يتعلق بالحالةِ النفسيةِ التي كنت أمر بها بين فترةٍ وأخرى. تأسفتُ كثيراً لأنني لم أتعرف عليهِ في الحياة الطبيعية التي كنت أحياها يوما ما في زمن الحرية ….لكان لي عوناً في مسائل لا يفهمها إلا من تبحّر في قراءة الروايات العالمية وكتب الأدب الراقية.

كنا نتحدث طيلة الوقت باللغة الأنجليزية لدرجة أن أغلب الزملاء كانوا يشعرون بالضيق والضجر منا لأنهم كانوا لايفهمون ما نقوله. ولكي لا أكون بعيداً عن الحقيقة فقد إستفدتُ منه أشياء كثيرة من الناحية الثقافية والتعليمة. كانت لغته الأنجليزية قوية جداً لأسباب شخصية ليست لها علاقة بالدراسة الجامعية لأنه كان قد إكتسبها من البيت بسبب المستوى التعليمي الراقي الذي كانت أسرته تتمتع به. من الطريف ــ كما ذكر لي يوماً ما ــ أنه كان قد قرر إتقان هذه اللغة الأجنبية ، كان والده يتحدث مع والدته باللغة الأنجليزية أمامه حينما يريدان مناقشة موضوعاً ما كي لا يفهمه. كان ينظر إليهما بتعجب ورغبة للغور في أعماق الحديث الذي كان مطروحاً للمناقشة أمامة . قرر أن يخترق هذه اللغة بكل تفاصيلها كي يتوصل إلى كل المضامين التي يتحدث بها والداه.

بدأنا نأكل مع بعض نحنُ الثلاثة ” هو أنا وعلي دولي”. كان ذكياً في إتخاذه من علي دولي صديقاً له…فلنقل علاقة نفسية متبادلة بين الطرفين كل واحد منهما كان يبحث عن هدف مفقود . وجدت نفسي بينهما لسبب قد يكون له أيضاً إرتباط بالحالة النفسية أيضاً . أردتُ أن أكون بالقرب من أبو فيروز لأسباب تتعلق بالمشاركة الوجدانية لأنه يختلف عن كل الموجودين في المكان المخيف. كان يفهمني وأفهمه وأشعر أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا . أما فيما يتعلق بالأخ علي فقد كان تواجده مع الشخص الأول هو الذي جعلني أكون معه على الرغم من عدم وجود أي شيء على الأطلاق يربطني به. الحق يُقال كنتُ أتضايق أحياناً من وجوده معنا لأننا لا نستطيع أن نحصل على الخصوصية المطلقة التي ننشدها في ذلك المكان. هناك شيء آخر وهو أننا لا نستطيع الحديث باللغة الأنجليزية حينما نجلس نحن الثلاثة لأنه لايفهم ما نقول وهذا يجعل الأمر محرجاً لكل الأطراف. لم يستطع صديقي أبو فيروز التخلص منه لأسباب تتعلق به شخصياً . .. منها أنه كان يستفيد من وجوده معه كثيراً . كان علي الدرع الحصين الذي يقف في طريق أي شخص يحاول إيذاء صديقي. في ذلك المكان كان البعض يتكاتف مع البعض الأخر من أجل تأمين الحماية لبعضهم البعض.عالم مخيف يحمل في طياته أخطاراً قد تحدث في أي لحظة قد تُعرض الحياة إلى الخطر الحقيقي.

يتبع …….