18 ديسمبر، 2024 4:04 م

جحيم الأيام / الحلقة السادسة عشرة

جحيم الأيام / الحلقة السادسة عشرة

نظر إلي بصمت.شاهد لحيتي الطويلة.شاهد الصورة الحقيقية لقسوة الحياة المرتسمة بشكلٍ واضح على الأجزاء السفلى لعينيَ المرهقتين. شاهد مدى نحافة وجهي . أدركتُ أنني يجب علي الهجوم مرة أخرى وعدم الاستسلام. قلت بلهفة تامة ” أتركني أذهب.لا أملك أي شيء سوى هذه القطع الجافة من الخبز.أعرف أن القانون هنا يمنع إدخال شيئاً كهذا ولكن هذه القطع الصغيرة من الخبز لن تشكل خطراً”. تطلع نحوي بصمت ٍ وراح يتأمل وجهي بدقةٍ متناهية. بسرعةِ البرق أعاد الخبز إلى جيبي وهو يقول” أدخل بسرعة ولا تدع أحداً يراها”.لم أصدق عيني. شعرتُ بانتصار كبير. لم أفرح بسبب احتفاظي بالخبز ولكنني فرحتُ جداً لأن لغتي أصبحت مفهومة نوعا ما. بعض البؤساء من الذين دخلوا قبلي يتجمعون داخل ساحة المعسكر بالقرب من الباب الرئيسي ينتظرون فرصة مناسبة للتفاوض مع الحرس لعله يسمح لهم بإدخال بضاعتهم التي لا تزال مطروحة عند الباب الخارجي. صاح عبدالله ” أنت بطل. لقد سمعتُ الحوار الذي دار بينك وبين الجندي. بوركت يا صديقي العزيز وإن شاء الله سوف أرد لك هذا الجميل”.ابتسمتُ له بتهكم قائلاً ” وكيف سترد لي الجميل وأنت معدم مثلي ؟”. قال بصوتٍ مرتفع وكأنه يريد أن يسمعهُ كل واحد في هذا العالم” صدقني أنا الآن غني جداً ولكن مع وقف التنفيذ.لو أن إدارة المعسكر تسمح لي شراء ما أريد بنقودي الخاصة لكان بمقدوري أن أشتري لك الآن خروف مشوي ومئات العلب الفاخرة من السجائر ولكن ما في اليد حيلة كما يقولون”. قلتُ له بعصبية ” لا تسخر مني . ماذا تملك الآن كي تشتري كل هذه الأشياء الخيالية؟ ” .

نظر إليّ بانكسار وهو يحاول أن يبوح لي بسرٍ دفين. نظر ذات اليمين وذات الشمال كما لو أنه يريد التأكد من أن أحداً لا يسمعه ثم قال بهمسٍ مصحوب بقلقٍ ظاهر:”أسمع .سأقول لك سر كبير ولكن هل تعدني بعدم البوح بهِ لأي أحد مهما كانت الظروف؟أكدتُ له بأنني لن أبوح بسرهِ حتى لو فقدت حياتي.أدخل يدهُ في جيب سرواله الداخلي ثم أخرج قطعة معدنية عجيبة لم أرَ لها مثيلاً في حياتي. قال بهمس ” أنظر هذه مسكوكة ذهبية. إنها ذهب خالص. لدي منها قطع كثيرة أحتفظ بها في سروالي الداخلي.” وشرح لي قصة طويلة عن كيفية جلبها معه وكيف أن والده أعطاها له حينما هرب من العراق صوب هذا البلد لأنه كان مطلوباً سياسياً وأن السلطات العراقية تبحث عنه الآن لأنه ينتمي إلى أحدى الجماعات الدينية المتطرفة.تحسستُ القطعة الذهبية بأناملي. كانت جميلة جداً وكأنها تعود إلى تاريخ العراق القديم. أعدتُ له القطعة وأنا أقول بحسرة ” وما فائدة هذه القطعة الذهبية ونحن لا نستطيع أن نشتري بها قطعة من الخبز. نحن نشبه الآن مسافرين في سفينةٍ كبيرة وسط البحر الهائج وعطاشا والماء يحيط بنا من كل حدبٍ وصوب لأن الماء ملوث بسمومٍ مختلفة . ”

وضع القطعة الذهبية في جيبه وهو يقول بألم شديد” اشعر إنني بلا كبرياء بلا إنسانية لم اعد أملك سوى لقب مهندس ليس له وجود في هذه الحياة” . في مرة من المرات سمعتُ أحد البؤساء يقول له ” أنت مهندس وأنا رجل بالكاد أكاد أقرأ وأكتب ولكني أحصل على نفس الكمية من الرز التي تحصل عليها كل يوم فما هي الفائدة من دراستك الطويلة وسهر الليالي؟”. كانت عينيهِ قد إغرورقتا بالدموع . مسحها على عجلٍ من أمره كي لا ينكشف أمره. قال بذهول ” الحق معه ، لقد تعذبتُ مئات الساعات كي أحصل على شهادة الهندسة المعمارية ولكنني الآن نادم أشد الندم على كل لحظة ضيعتها من عمري في دراسةٍ طويلة نهايتها غياهب السجون والجوع الذي لا يرحم “. دون تردد قلت له ” لا تحزن يا صديقي بأذن الله سنخرج يوماً ما من هذا الأتون. لا تقارن حالتك بحالة هذا الزميل الأميّ. همه الوحيد الطعام والشراب. عندما تغادر هذا المكان سيكون لك كرسي مهم في المجتمع تستطيع من خلاله خدمة البشرية. حتى هنا في هذا المجتمع القاسي توجد تقديرات متميزة لكل شخص حسب الحالة الاجتماعية والثقافية التي يملكها الفرد. هل تعتقد أن كل الموجودين هنا ينظرون اليك بنفس الطريقة التي ينظر بها اليك هذا الزميل ؟”.

تنهد بصوتٍ مسموع. شعرتُ أن الدم بدأ يسير بشكل طبيعي في وجههِ وأن المعنويات عادت إلى روحهِ المنكسرة. في الأسر تتلاشى الحواجز بين الأصدقاء الحقيقيين.كل واحد يريد أن يُعرّف الآخر بتفاصيل حياته. الوقت طويل ممل يحطم الأعصاب ولا توجد وسيلة لقضاء الوقت سوى الحديث مع صديق يثق أحدهما بالأخر. كلما ضاق صدر عبدالله كان يطلب مني أن نسير مع بعض حتى لو كانت السماء تمطر. في كل مرة كان يحدثني عن مجيئه إلى هذه الدولة وكيف عبر الحدود والجبال الوعرة والمياه المتدفقة. حدثني عن أدق التفاصيل عن والده وأشقائه. حدثني عن زوجة شقيقه الكبير وهي أمريكية.دخلت الدين الإسلامي وحفظت جميع القرآن الكريم.وأن شقيقة الكبير هاجر إلى أمريكا منذ زمن طويل وأصبحت لديه شركة خاصة به. وكيف أن شقيقه كان يذهب إلى مكة كل سنة مع زوجته الأمريكية المسلمة لخدمة الحجاج العراقيين . وكيف هاجر شقيقه الآخر إلى فرنسا وتزوج من فتاة لبنانية جميلة جداً.

عندما كانت حالته النفسية ترتفع ويريد أن يحدثني عن أشياء مضحكة، ينطلق بالحديث عن الأفعال الفكاهية التي كان يفعلها مع والده الطيب القلب. سأذكر واحدة من تلك الأفعال المضحكة بنظرهِ الخطرة جداً في نظري الشخصي ولو كنت أنا في مكان والده لعاقبته عقاباً لم ير مثله أبداً. حدثني قائلاً ” أعرف الزمن الذي يعود فيه والدي من شركته في بغداد. يعود كل يوم في الساعة الحادية عشرة في الليل. في أحدى المرات انتظرته عند نهاية الشارع القريب من بيتنا. غطيت ُ وجهي ” بيشماغ” وحملتُ رشاشه بيدي وطلبتُ منه أن يسلمني كافة النقود التي بحوزته. أعطاني الحقيبة وذهب. في الليل أعدتُ له الحقيبة ولكنه غضب في داخله. هكذا حلت بي اللعنة.كم أشعر بالحزن حينما أتذكر ذلك العمل الصبياني الذي قمت به في ذلك اليوم.”

عبدالله المهندس شخصية رائعة في حياتي في تلك الفترة التي عشنا فيها سوية لحظات فرح وحزن في نفس الوقت. حينما جاء اليوم الذي خرج فيه إلى الحرية”حيث طلب اللجوء الإنساني”. بقيتُ أنظر إليهِ من وراء الأسلاك الشائكة. كان ينظر نحوي بصمت وهو يرتدي بدله مدنية جديدة ويحمل حقيبة في يدهِ. حاولتُ أن أقول له أي شيء ولكني لم أستطع. شاهدتُ عدة دموع تنحدر من عينيهِ. حاولت أن أقول له أي شيء ولكني فقدت النطق في تلك اللحظة. اختفى عبدالله كما اختفى عشرات من زملائي الجنود في معارك شرسة بلا هدف.اختفت معه تلك الذكريات المغمسة بالجوع والعطش والبرد والحر. عدتُ من جديد وحيداً منعزلاً أقضي أغلب ساعات النهار اذرف الدموع تحت بطانيتي النتنة من شدة الأتربة العالقة فيها على مر السنين.

ــــــ الجزء الثالث ــــ

” التلهف للتعلم ”

في معسكرات الأسر تحدث أحياناً أشياء متفاوتة حسب اهتمام الشخص ذاته. تجد كل شخص يبحث عن طريقةٍ معينة لسد الفراغ اللامتناهي لوقته الطويل الرتيب. هناك بعض الأفراد ينزوون في ركنٍ من أركان القاعة يتعلمون كيفية حياكة حذاء من خيوط بعض البطانيات المهترئة والبعض الآخر ينزوي في مكانٍ آخر لتعلم كيفية صناعة قفازاً أو قطعة خاصة تستخدم لتنظيف الجسد” ليفه”. هناك أفراداً آخرين يتعلمون كيفية كتابة حروف الهجاء العربية لأنهم لا يعرفون حتى كتابة اسمائهم. في حين راح البعض الآخر يتعلم الخط العربي بأنواعه العديدة. وهناك مجموعة أخرى حصلت على بعض الصفائح المعدنية المخصصة لجمع القاذورات وراحت تصنع منها مدافىء حرارية” جولات”. حاولتُ أن أجد لي طريقة واحدة من تلك الطرق كي أُهشمَ بها جدار الضجر والملل الذي يحيط نفسي من كل الجهات. بعض الزملاء توجهوا نحو ممارسة كرة القدم فوق تلك المساحة الكونكريتية الخطرة التي تُهشم أي جسدٍ يسقط عليها.

بعضهم استخدم النوم كوسيلة لقضاء الساعات الطويلة التي تمتد بلا نهاية. مزيج من النفسيات المتداخلة بعضها مع البعض الأخر. يجب على المرء أن يعيش مع الأسرى مهما كانت ظروفه وحالته النفسية.المجاملة المصطنعة أصبحت الزاد اليومي لكل شخص حيث يتحتم عليه مداراة الناس بأي شكل من الأشكال. الكثير من المتاعب تحدث لأتفه الأسباب.قد تحدث مشكلة كبيرة بسبب قدح من الماء أو حركة غير متوقعة من قِبَلْ شخص آخر. سئمتُ كل شيء وضاقت روحي من هذا الوضع الغريب عليَّ بكل تفاصيله . حاولتُ أن أتأقلم مع الظرف الصعب الذي أمر فيه. بدأتُ أستخدم نفس العبارات التي يستخدمها غير المتعلمين بَيْدَ أنني فشلتُ في محاولة الانحدار نحو الطبقات غير المتعلمة ومجاراتهم في عباراتهم النابية. لقد إعتدتُ على نمط خاص من الحياة طيلة فترة حياتي وابتعدتُ عن استخدام أي عبارة غير لائقة وكنتُ أعيش مزيجاً من الصراعات اللامتناهية وبالتالي أثّر ذلك على حياتي ونفسيتي وأصبحتُ لا أطيق أي شخص خصوصاً بعد رحيل المهندس عبدالله.

كانت قلة السجائر تلعب دوراً مهماً في حياة الأسير المدخن. في يومٍ من الأيام وبينما كانت حالة الإرهاق الجسدي والنفسي تقذف بي إلى شاطئ المعاناة إلى ساحل الاحتراق الداخلي المحطم للأعصاب، استلقيت على فراشي القذر في الطابق الثالث ــ كانت الأسرّة تتكون من ثلاثة طوابق ــ وكنتُ أفضل الطابق الثالث لأسباب عديدة منها : يكون السرير بعيداً عن السائرين داخل القاعة الطويلة وهم يتكلمون باستمرار بصوتٍ مرتفع. هناك أسباب كثيرة لايمكن التطرق إليها بالتفاصيل. كما قلت قبل قليل..كنت مستلقياً على فراشي وكانت حرارة القاعة الجهنمية تقض المضاجع وتجعل الجزء الداخلي والخارجي للجسد ينضح عرقاً بلا انقطاع.كانت نظراتي تتحرك على السقف القريب ترسم صوراً وهمية لحياة غامضة. أما الأفكار المختلفة فقد كانت تعصفُ بروحي وذهني وتجعلني أهيم في عالمٍ خيالي وهمي لا حدود له. السيجارة المفقودة في خزانتي تلح عليّ للحصول على رشفةٍ واحدة بأي ثمن ولكن الجميع لا يملكون سجائر إلا ما ندر منهم. وأنا في وسط أحلامي الوهمية وعلى وشك السباحة في نومٍ متقطع تسلق أحد الشباب الطابق الأول ثم الثاني إلى أن وصل إلى المكان الذي أنام فيه.هزّ كتفي الأيسر بهدوء وكأنه يخاف من إيقاظ شخصاً عزيزاً .

سمعته يقول بحياء ” أستاذ..أستاذ “. أزحت اليد اليسرى التي كانت تستقر على عينيّ بإرهاق. شاهدتُ شاباً يافعاً أسمراً وكأن شمس الأسر قد لونت وجهه بلونٍ قهوائي. كانت عينيه تتحركان حركة سريعة جداً علامة قلف واضطراب لا ينتهي. لم أرفع جسدي عن الفراش. كانت شفتي تتحركان ببطيء وكأنهما قد سئمتا الإجابة عن أي سؤال يوجهه أؤلئك الذين فقدوا فرصة التعليم الابتدائي. قلتُ له ” تفضل ماذا تريد؟ تكلم بسرعة أريد النوم؟. دون تردد أخرج لفافة تبغ وهو يقول”عفواً أستاذ سمعتُ أنك لا تملك سجائر.جلبتُ لك هذه وهي خاصة جداً ، كنتُ أخفيها منذ زمن طويل”. قلتُ له على الفور ” هل أنت متأكد أنك تريد أن تقدمها لي أم أنك جئت بالخطأ؟ ” ابتسم بحياء وهو يلقي السيجارة على صدري. خطفتُها وأنا لا أصدق أن هذا الفتى يتبرع لي بلفافة التبغ الوحيدة التي يملكها في ذلك الزمن المر. أخرج عوداً من الثقاب وأوقدها لي.حينما أخذتُ نفساً عميقاً شعرتُ أن الأرض تميدُ بي.حينما استعدت توازني قلتُ له بجدية تامة ” قل ماذا تريد مني؟ لا أحد هنا يقدم شيئاً بلا ثمن”. قال على الفور” أستاذي العزيز ، أريد أن أتحدث معك في موضوع شخصي يتعلق بي فقط” .

نظرتُ حولي.كان كل البؤساء يتمددون فوق أسرتهم نصف عرايا وهم يحاولون التخلص من شدة الحر عن طريق تحريك قطعة من الورق ” كارتونه” أمام وجوههم بحركةٍ سريعةٍ جداً . أدركتُ أن الوقت غير مناسب للحديث في هذا الوقت من الظهيرة.دون أن أنهض من رقدتي قلتُ له على الفور”حسناً ولكن بعد الساعة الرابعة حينما نخرج إلى الفضاء المخصص لحركتنا خارج القاعات. أنا الآن مرهق جداً وأحتاج إلى قسطٍ من الراحة.” فرح الفتى وهو يقول ” سآتي اليك في الرابعة والنصف عصراً بعد توزيع الشاي هل هذا مناسب بالنسبةِ لك؟” حينما أجبته بالإيجاب ودعني بسرور وراح ينزل بطريقةٍ هادئة خوفاً من إيقاظ النائمين باضطراب فوق أسرتهم المتحركة على الدوام . وأنا أرتشف سيكارتي بنهمٍ راحت أفكاري تمتزج مع بعض مستفسرة عن الموضوع الذي يريد مناقشته معي. لم يكن لهذا الفتى أي وجود في حياتي هناك منذ اليوم الأول الذي جئتُ فيه. لم يكن بيننا أي كلامٍ ولا حتى سلام. كنتُ أشاهده يتكلم مع أبناء الموصل فقط. كان صوته هادئاً مبحوحاً بعض الشيء. بعد فترة قصيرة شرد ذهني إلى مواضيع عديدة وبالتالي تلاشت صورة الفتى عن مخيلتي تماماً.

عند الرابعة والنصف كان الفتى يقف قرب سريري. نظرتُ إليه مبتسماً ثم هبطتُ من فراشي المرتفع.صافحته بهدوء ثم قال لي:” هل نستطيع أن نسير في الساحةِ المخصصة لنا ؟ أرجو أن لا أكون قد سببتُ لك أي إزعاج؟ أعرف أن ظروفنا جميعاً شاقه هنا ولكن ليس في اليد حيلة .” سرنا جنباً إلى جنب صامتين لا نعرف من أين نبدأ؟ كان فتى خجولاً جداً ينظر إلى الأرض بحياءٍ مفرط وهو يُسبِّحْ بمسبحتهِ الحمراء الصغيرة. على حين غره قال ” عفواً أستاذ لدي شيء خاص أود الحديث عنه معك. حدثتُ بعض الزملاء المقربين جداً عن هذا الموضوع ولكنهم راحوا يسخرون مني ويقولون لي بأنني مجنون. أرجو أن لا تسخر مني كما فعل الآخرون. سأقبل جوابك مهما كان. ” تمنيتُ أن يدخل في صُلب الموضوع دون اللف والدوران كما يفعل البعض هنا حينما يريدون الحصول على شيء معين. دون مقدمات أخرى قال : ” هل تعتقد أنني أستطيع أن أتعلم اللغة الإنكليزية ؟” سكت قليلاً ثم أضاف بجدية تامة”أنا لم أنهي الخامس الابتدائي لظروف خاصة ولكنني قد أتعلم إذا كانت لديّ الرغبة والطموح والمثابرة والإصرار وهذه الأشياء جميعاً متوفرة لديّ والحمد لله . سأدفع لك خمس سجائر كل شهر كثمن للتدريس والأتعاب. سأكون عند حُسن ظنك . ماذا تقول؟” .

نظرتُ إلى قسمات وجههُ الأسمر فشاهدتُ في عينيهِ مزيجاً من التحدي والإصرار. كانت شفتاهُ ترتعشان من شدة التوتر والانفعال . أشفقتُ عليه في البداية بيد أنني وجدت أمامي شخصاً أمياً فيما يتعلق بهذه اللغة. كيف سأعلمهُ وماذا أعلمهُ؟ وأنا أعيش في تلك الحالة النفسية المزرية وذلك الجوع الذي أكاد أصاب بالجنون بسببهِ؟.إن هذا لشيء مستحيل!.بقيتُ مطرقاً برأسي نحو الأرض دون أن أتفوه بحرفٍ واحد.ظل يسير إلى جانبي صامتاً كأنه في موكب جنائزي. كنتُ أسمع لهاث أنفاسهِ وكأنه كان يترقب شيئاً مصيرياً خطيراً. أوقد سيجارة ــ أشنو ــ وقدم لي واحدة كعربون لطريقٍ طويل من المشقةِ والعذاب.( ملاحظة: لا أدري كيف حصل على هاتين السيجارتين في هذا الوقت لأن الجميع كانوا لا يملكون أية سيجارة فقد مضى وقت طويل على توزيع أخر حصة لنا “.

دون تردد قلت له ” إسمع جيداً لما أقوله لك. إذا طبقت كل التعليمات التي أعطيها لك فأنني سأوافق على تعليمك”.وقبل أن أسترسل في حديثي معه عن أي شيء إندفع قائلاً :” موافق على أي تعليمات تقدمها لي مهما كانت قاسية على شرط أتعلم.”وأخيراً تم عقد الصفقة التي كان يحلم بها.كان”سطام ” شاباً قادماً من اعماق مدينة سينجار التابعة للموصل. والدهُ متمكن من الناحية المادية. كانت لديهِ شاحنات لنقل الحبوب المختلفة من وإلى الموصل بالأضافة إلى بعض الأعمال الحرة الأخرى. على الرغم من محدودية ثقافتهِ الأكاديمية إلا أنه يملك طريقة جيدة للحديث مع من يجلس معه.لديهِ قابليةعالية لأختراع الفكاهات البسيطة ويحاول أن يقلد الأوربيين في تسريحة شعرهِ . كان هو الوحيد الذي يتكلم حينما يسير مع زملائهِ من نفس عمره. حدثني عن أدق التفاصيل عن عائلتهِ وولدهِ الصغير وزوجته التي تشبه بطلة ــ الجيش السري ــ.

في نهاية اليوم بدأت المنازلة الحقيقية مع الطريق التعليمي المرهق الطويل. كتبتُ له الحروف الأنكليزية وعلمته كيفية تلفظها الصحيح. إعتقدتُ أنه سوف يضجر بعد ساعة أو ساعتين ولكن العكس هو الذي حدث مما أثار دهشتي حقاً. كنتُ أراهُ لمدة يومين متواصلين يسير وحدهُ تحت أشعة الشمس المحرقة يقرأ بصوتٍ مرتفع وكان بقية الزملاء يسخرون منه ويصفونهُ بالمجنون. سمعتُ أحدهم يقول له ” ماذا ستفعل بهذه اللغة؟ هل ستتحدث ُ مع الأبقار حينما تعود إلى سينجار؟ ” كان لايهتم لكلامهم أبداً. وجاء يوم الاختبار وعندها سوف يصمد أو ينهار. جلس على سريري أصفر الوجه وكأنه كان ذاهباً للمقصلة.بعد الأنتهاء من المجاملات قال بحذر وذعر :” أنا جاهز يا أستاذ للاختبار”. كنتُ أختبرهُ بدقة متناهية وأبحث عن أي عذرٍ كي أكيلُ له اللوم والعتاب. كان يدافع عن نفسه بكل جداره ونجح في اليوم الأول بدرجة إمتياز. في اليوم التالي كتبتُ له عشر كلمات بسيطة وراح يقرأ كل النهار ويأتي بين فترة وأخرى يستفسر عن تلفظ قسماً منها. بعد شهر كان قد حفظ عن ظهر قلب أكثر من 300 كلمة . كان جديراً بالأهتمام حقاً.

بدأت مرحلة جديدة من التعليم معه. شرعتُ أعطيه قواعد اللغة وكان يستجيب بشكلٍ ممتاز. كان يسألني كل لحظة يشاهدني فيها. في النهاية أصبح كظلي لايفارقني فقط عند ساعات النوم. كنا نسير سوية منذ لحظة النهوض صباحاً حتى لحظة إطفاء الأنوار في الليل. بدأ يحرز تقدماً ملحوظاً. في أحد الأيام جلسنا سوية على سريري في الطابق الثالث وكانت بيني وبينه منضدة صغيرة صنعتها من قطعة خشب كي اضع عليها قدح الشاي قدح الشاي والأناء المعدني الوحيد أثناء تناول طعمي. فجأةً سألني :” أستاذ كيف أقول بالأنكليزية ـ المنضدة بيني وبينك؟” عندما علمته كيف يقولها راح يرددها عدة مرات وفي اليوم التالي جائني في الصباح وهو يقول ” المنضدة بيني وبينك”. كان سعيداً جدا.

يتبع…….

تم فتح المحادثة. رسالة واحدة مقروءة.

تخطى إلى المحتوى
استخدام بريد Kitabat مع قارئات الشاشة

18 من 57,151
جحيم الأيام / الحلقة السادسة عشرة
خارجيون

david tom
3:36 ص ‎(قبل 15 ساعة)‎
أنا

نظر إلي بصمت.شاهد لحيتي الطويلة.شاهد الصورة الحقيقية لقسوة الحياة المرتسمة بشكلٍ واضح على الأجزاء السفلى لعينيَ المرهقتين. شاهد مدى نحافة وجهي . أدركتُ أنني يجب علي الهجوم مرة أخرى وعدم الاستسلام. قلت بلهفة تامة ” أتركني أذهب.لا أملك أي شيء سوى هذه القطع الجافة من الخبز.أعرف أن القانون هنا يمنع إدخال شيئاً كهذا ولكن هذه القطع الصغيرة من الخبز لن تشكل خطراً”. تطلع نحوي بصمت ٍ وراح يتأمل وجهي بدقةٍ متناهية. بسرعةِ البرق أعاد الخبز إلى جيبي وهو يقول” أدخل بسرعة ولا تدع أحداً يراها”.لم أصدق عيني. شعرتُ بانتصار كبير. لم أفرح بسبب احتفاظي بالخبز ولكنني فرحتُ جداً لأن لغتي أصبحت مفهومة نوعا ما. بعض البؤساء من الذين دخلوا قبلي يتجمعون داخل ساحة المعسكر بالقرب من الباب الرئيسي ينتظرون فرصة مناسبة للتفاوض مع الحرس لعله يسمح لهم بإدخال بضاعتهم التي لا تزال مطروحة عند الباب الخارجي. صاح عبدالله ” أنت بطل. لقد سمعتُ الحوار الذي دار بينك وبين الجندي. بوركت يا صديقي العزيز وإن شاء الله سوف أرد لك هذا الجميل”.ابتسمتُ له بتهكم قائلاً ” وكيف سترد لي الجميل وأنت معدم مثلي ؟”. قال بصوتٍ مرتفع وكأنه يريد أن يسمعهُ كل واحد في هذا العالم” صدقني أنا الآن غني جداً ولكن مع وقف التنفيذ.لو أن إدارة المعسكر تسمح لي شراء ما أريد بنقودي الخاصة لكان بمقدوري أن أشتري لك الآن خروف مشوي ومئات العلب الفاخرة من السجائر ولكن ما في اليد حيلة كما يقولون”. قلتُ له بعصبية ” لا تسخر مني . ماذا تملك الآن كي تشتري كل هذه الأشياء الخيالية؟ ” .

نظر إليّ بانكسار وهو يحاول أن يبوح لي بسرٍ دفين. نظر ذات اليمين وذات الشمال كما لو أنه يريد التأكد من أن أحداً لا يسمعه ثم قال بهمسٍ مصحوب بقلقٍ ظاهر:”أسمع .سأقول لك سر كبير ولكن هل تعدني بعدم البوح بهِ لأي أحد مهما كانت الظروف؟أكدتُ له بأنني لن أبوح بسرهِ حتى لو فقدت حياتي.أدخل يدهُ في جيب سرواله الداخلي ثم أخرج قطعة معدنية عجيبة لم أرَ لها مثيلاً في حياتي. قال بهمس ” أنظر هذه مسكوكة ذهبية. إنها ذهب خالص. لدي منها قطع كثيرة أحتفظ بها في سروالي الداخلي.” وشرح لي قصة طويلة عن كيفية جلبها معه وكيف أن والده أعطاها له حينما هرب من العراق صوب هذا البلد لأنه كان مطلوباً سياسياً وأن السلطات العراقية تبحث عنه الآن لأنه ينتمي إلى أحدى الجماعات الدينية المتطرفة.تحسستُ القطعة الذهبية بأناملي. كانت جميلة جداً وكأنها تعود إلى تاريخ العراق القديم. أعدتُ له القطعة وأنا أقول بحسرة ” وما فائدة هذه القطعة الذهبية ونحن لا نستطيع أن نشتري بها قطعة من الخبز. نحن نشبه الآن مسافرين في سفينةٍ كبيرة وسط البحر الهائج وعطاشا والماء يحيط بنا من كل حدبٍ وصوب لأن الماء ملوث بسمومٍ مختلفة . ”

وضع القطعة الذهبية في جيبه وهو يقول بألم شديد” اشعر إنني بلا كبرياء بلا إنسانية لم اعد أملك سوى لقب مهندس ليس له وجود في هذه الحياة” . في مرة من المرات سمعتُ أحد البؤساء يقول له ” أنت مهندس وأنا رجل بالكاد أكاد أقرأ وأكتب ولكني أحصل على نفس الكمية من الرز التي تحصل عليها كل يوم فما هي الفائدة من دراستك الطويلة وسهر الليالي؟”. كانت عينيهِ قد إغرورقتا بالدموع . مسحها على عجلٍ من أمره كي لا ينكشف أمره. قال بذهول ” الحق معه ، لقد تعذبتُ مئات الساعات كي أحصل على شهادة الهندسة المعمارية ولكنني الآن نادم أشد الندم على كل لحظة ضيعتها من عمري في دراسةٍ طويلة نهايتها غياهب السجون والجوع الذي لا يرحم “. دون تردد قلت له ” لا تحزن يا صديقي بأذن الله سنخرج يوماً ما من هذا الأتون. لا تقارن حالتك بحالة هذا الزميل الأميّ. همه الوحيد الطعام والشراب. عندما تغادر هذا المكان سيكون لك كرسي مهم في المجتمع تستطيع من خلاله خدمة البشرية. حتى هنا في هذا المجتمع القاسي توجد تقديرات متميزة لكل شخص حسب الحالة الاجتماعية والثقافية التي يملكها الفرد. هل تعتقد أن كل الموجودين هنا ينظرون اليك بنفس الطريقة التي ينظر بها اليك هذا الزميل ؟”.

تنهد بصوتٍ مسموع. شعرتُ أن الدم بدأ يسير بشكل طبيعي في وجههِ وأن المعنويات عادت إلى روحهِ المنكسرة. في الأسر تتلاشى الحواجز بين الأصدقاء الحقيقيين.كل واحد يريد أن يُعرّف الآخر بتفاصيل حياته. الوقت طويل ممل يحطم الأعصاب ولا توجد وسيلة لقضاء الوقت سوى الحديث مع صديق يثق أحدهما بالأخر. كلما ضاق صدر عبدالله كان يطلب مني أن نسير مع بعض حتى لو كانت السماء تمطر. في كل مرة كان يحدثني عن مجيئه إلى هذه الدولة وكيف عبر الحدود والجبال الوعرة والمياه المتدفقة. حدثني عن أدق التفاصيل عن والده وأشقائه. حدثني عن زوجة شقيقه الكبير وهي أمريكية.دخلت الدين الإسلامي وحفظت جميع القرآن الكريم.وأن شقيقة الكبير هاجر إلى أمريكا منذ زمن طويل وأصبحت لديه شركة خاصة به. وكيف أن شقيقه كان يذهب إلى مكة كل سنة مع زوجته الأمريكية المسلمة لخدمة الحجاج العراقيين . وكيف هاجر شقيقه الآخر إلى فرنسا وتزوج من فتاة لبنانية جميلة جداً.

عندما كانت حالته النفسية ترتفع ويريد أن يحدثني عن أشياء مضحكة، ينطلق بالحديث عن الأفعال الفكاهية التي كان يفعلها مع والده الطيب القلب. سأذكر واحدة من تلك الأفعال المضحكة بنظرهِ الخطرة جداً في نظري الشخصي ولو كنت أنا في مكان والده لعاقبته عقاباً لم ير مثله أبداً. حدثني قائلاً ” أعرف الزمن الذي يعود فيه والدي من شركته في بغداد. يعود كل يوم في الساعة الحادية عشرة في الليل. في أحدى المرات انتظرته عند نهاية الشارع القريب من بيتنا. غطيت ُ وجهي ” بيشماغ” وحملتُ رشاشه بيدي وطلبتُ منه أن يسلمني كافة النقود التي بحوزته. أعطاني الحقيبة وذهب. في الليل أعدتُ له الحقيبة ولكنه غضب في داخله. هكذا حلت بي اللعنة.كم أشعر بالحزن حينما أتذكر ذلك العمل الصبياني الذي قمت به في ذلك اليوم.”

عبدالله المهندس شخصية رائعة في حياتي في تلك الفترة التي عشنا فيها سوية لحظات فرح وحزن في نفس الوقت. حينما جاء اليوم الذي خرج فيه إلى الحرية”حيث طلب اللجوء الإنساني”. بقيتُ أنظر إليهِ من وراء الأسلاك الشائكة. كان ينظر نحوي بصمت وهو يرتدي بدله مدنية جديدة ويحمل حقيبة في يدهِ. حاولتُ أن أقول له أي شيء ولكني لم أستطع. شاهدتُ عدة دموع تنحدر من عينيهِ. حاولت أن أقول له أي شيء ولكني فقدت النطق في تلك اللحظة. اختفى عبدالله كما اختفى عشرات من زملائي الجنود في معارك شرسة بلا هدف.اختفت معه تلك الذكريات المغمسة بالجوع والعطش والبرد والحر. عدتُ من جديد وحيداً منعزلاً أقضي أغلب ساعات النهار اذرف الدموع تحت بطانيتي النتنة من شدة الأتربة العالقة فيها على مر السنين.

ــــــ الجزء الثالث ــــ

” التلهف للتعلم ”

في معسكرات الأسر تحدث أحياناً أشياء متفاوتة حسب اهتمام الشخص ذاته. تجد كل شخص يبحث عن طريقةٍ معينة لسد الفراغ اللامتناهي لوقته الطويل الرتيب. هناك بعض الأفراد ينزوون في ركنٍ من أركان القاعة يتعلمون كيفية حياكة حذاء من خيوط بعض البطانيات المهترئة والبعض الآخر ينزوي في مكانٍ آخر لتعلم كيفية صناعة قفازاً أو قطعة خاصة تستخدم لتنظيف الجسد” ليفه”. هناك أفراداً آخرين يتعلمون كيفية كتابة حروف الهجاء العربية لأنهم لا يعرفون حتى كتابة اسمائهم. في حين راح البعض الآخر يتعلم الخط العربي بأنواعه العديدة. وهناك مجموعة أخرى حصلت على بعض الصفائح المعدنية المخصصة لجمع القاذورات وراحت تصنع منها مدافىء حرارية” جولات”. حاولتُ أن أجد لي طريقة واحدة من تلك الطرق كي أُهشمَ بها جدار الضجر والملل الذي يحيط نفسي من كل الجهات. بعض الزملاء توجهوا نحو ممارسة كرة القدم فوق تلك المساحة الكونكريتية الخطرة التي تُهشم أي جسدٍ يسقط عليها.

بعضهم استخدم النوم كوسيلة لقضاء الساعات الطويلة التي تمتد بلا نهاية. مزيج من النفسيات المتداخلة بعضها مع البعض الأخر. يجب على المرء أن يعيش مع الأسرى مهما كانت ظروفه وحالته النفسية.المجاملة المصطنعة أصبحت الزاد اليومي لكل شخص حيث يتحتم عليه مداراة الناس بأي شكل من الأشكال. الكثير من المتاعب تحدث لأتفه الأسباب.قد تحدث مشكلة كبيرة بسبب قدح من الماء أو حركة غير متوقعة من قِبَلْ شخص آخر. سئمتُ كل شيء وضاقت روحي من هذا الوضع الغريب عليَّ بكل تفاصيله . حاولتُ أن أتأقلم مع الظرف الصعب الذي أمر فيه. بدأتُ أستخدم نفس العبارات التي يستخدمها غير المتعلمين بَيْدَ أنني فشلتُ في محاولة الانحدار نحو الطبقات غير المتعلمة ومجاراتهم في عباراتهم النابية. لقد إعتدتُ على نمط خاص من الحياة طيلة فترة حياتي وابتعدتُ عن استخدام أي عبارة غير لائقة وكنتُ أعيش مزيجاً من الصراعات اللامتناهية وبالتالي أثّر ذلك على حياتي ونفسيتي وأصبحتُ لا أطيق أي شخص خصوصاً بعد رحيل المهندس عبدالله.

كانت قلة السجائر تلعب دوراً مهماً في حياة الأسير المدخن. في يومٍ من الأيام وبينما كانت حالة الإرهاق الجسدي والنفسي تقذف بي إلى شاطئ المعاناة إلى ساحل الاحتراق الداخلي المحطم للأعصاب، استلقيت على فراشي القذر في الطابق الثالث ــ كانت الأسرّة تتكون من ثلاثة طوابق ــ وكنتُ أفضل الطابق الثالث لأسباب عديدة منها : يكون السرير بعيداً عن السائرين داخل القاعة الطويلة وهم يتكلمون باستمرار بصوتٍ مرتفع. هناك أسباب كثيرة لايمكن التطرق إليها بالتفاصيل. كما قلت قبل قليل..كنت مستلقياً على فراشي وكانت حرارة القاعة الجهنمية تقض المضاجع وتجعل الجزء الداخلي والخارجي للجسد ينضح عرقاً بلا انقطاع.كانت نظراتي تتحرك على السقف القريب ترسم صوراً وهمية لحياة غامضة. أما الأفكار المختلفة فقد كانت تعصفُ بروحي وذهني وتجعلني أهيم في عالمٍ خيالي وهمي لا حدود له. السيجارة المفقودة في خزانتي تلح عليّ للحصول على رشفةٍ واحدة بأي ثمن ولكن الجميع لا يملكون سجائر إلا ما ندر منهم. وأنا في وسط أحلامي الوهمية وعلى وشك السباحة في نومٍ متقطع تسلق أحد الشباب الطابق الأول ثم الثاني إلى أن وصل إلى المكان الذي أنام فيه.هزّ كتفي الأيسر بهدوء وكأنه يخاف من إيقاظ شخصاً عزيزاً .

سمعته يقول بحياء ” أستاذ..أستاذ “. أزحت اليد اليسرى التي كانت تستقر على عينيّ بإرهاق. شاهدتُ شاباً يافعاً أسمراً وكأن شمس الأسر قد لونت وجهه بلونٍ قهوائي. كانت عينيه تتحركان حركة سريعة جداً علامة قلف واضطراب لا ينتهي. لم أرفع جسدي عن الفراش. كانت شفتي تتحركان ببطيء وكأنهما قد سئمتا الإجابة عن أي سؤال يوجهه أؤلئك الذين فقدوا فرصة التعليم الابتدائي. قلتُ له ” تفضل ماذا تريد؟ تكلم بسرعة أريد النوم؟. دون تردد أخرج لفافة تبغ وهو يقول”عفواً أستاذ سمعتُ أنك لا تملك سجائر.جلبتُ لك هذه وهي خاصة جداً ، كنتُ أخفيها منذ زمن طويل”. قلتُ له على الفور ” هل أنت متأكد أنك تريد أن تقدمها لي أم أنك جئت بالخطأ؟ ” ابتسم بحياء وهو يلقي السيجارة على صدري. خطفتُها وأنا لا أصدق أن هذا الفتى يتبرع لي بلفافة التبغ الوحيدة التي يملكها في ذلك الزمن المر. أخرج عوداً من الثقاب وأوقدها لي.حينما أخذتُ نفساً عميقاً شعرتُ أن الأرض تميدُ بي.حينما استعدت توازني قلتُ له بجدية تامة ” قل ماذا تريد مني؟ لا أحد هنا يقدم شيئاً بلا ثمن”. قال على الفور” أستاذي العزيز ، أريد أن أتحدث معك في موضوع شخصي يتعلق بي فقط” .

نظرتُ حولي.كان كل البؤساء يتمددون فوق أسرتهم نصف عرايا وهم يحاولون التخلص من شدة الحر عن طريق تحريك قطعة من الورق ” كارتونه” أمام وجوههم بحركةٍ سريعةٍ جداً . أدركتُ أن الوقت غير مناسب للحديث في هذا الوقت من الظهيرة.دون أن أنهض من رقدتي قلتُ له على الفور”حسناً ولكن بعد الساعة الرابعة حينما نخرج إلى الفضاء المخصص لحركتنا خارج القاعات. أنا الآن مرهق جداً وأحتاج إلى قسطٍ من الراحة.” فرح الفتى وهو يقول ” سآتي اليك في الرابعة والنصف عصراً بعد توزيع الشاي هل هذا مناسب بالنسبةِ لك؟” حينما أجبته بالإيجاب ودعني بسرور وراح ينزل بطريقةٍ هادئة خوفاً من إيقاظ النائمين باضطراب فوق أسرتهم المتحركة على الدوام . وأنا أرتشف سيكارتي بنهمٍ راحت أفكاري تمتزج مع بعض مستفسرة عن الموضوع الذي يريد مناقشته معي. لم يكن لهذا الفتى أي وجود في حياتي هناك منذ اليوم الأول الذي جئتُ فيه. لم يكن بيننا أي كلامٍ ولا حتى سلام. كنتُ أشاهده يتكلم مع أبناء الموصل فقط. كان صوته هادئاً مبحوحاً بعض الشيء. بعد فترة قصيرة شرد ذهني إلى مواضيع عديدة وبالتالي تلاشت صورة الفتى عن مخيلتي تماماً.

عند الرابعة والنصف كان الفتى يقف قرب سريري. نظرتُ إليه مبتسماً ثم هبطتُ من فراشي المرتفع.صافحته بهدوء ثم قال لي:” هل نستطيع أن نسير في الساحةِ المخصصة لنا ؟ أرجو أن لا أكون قد سببتُ لك أي إزعاج؟ أعرف أن ظروفنا جميعاً شاقه هنا ولكن ليس في اليد حيلة .” سرنا جنباً إلى جنب صامتين لا نعرف من أين نبدأ؟ كان فتى خجولاً جداً ينظر إلى الأرض بحياءٍ مفرط وهو يُسبِّحْ بمسبحتهِ الحمراء الصغيرة. على حين غره قال ” عفواً أستاذ لدي شيء خاص أود الحديث عنه معك. حدثتُ بعض الزملاء المقربين جداً عن هذا الموضوع ولكنهم راحوا يسخرون مني ويقولون لي بأنني مجنون. أرجو أن لا تسخر مني كما فعل الآخرون. سأقبل جوابك مهما كان. ” تمنيتُ أن يدخل في صُلب الموضوع دون اللف والدوران كما يفعل البعض هنا حينما يريدون الحصول على شيء معين. دون مقدمات أخرى قال : ” هل تعتقد أنني أستطيع أن أتعلم اللغة الإنكليزية ؟” سكت قليلاً ثم أضاف بجدية تامة”أنا لم أنهي الخامس الابتدائي لظروف خاصة ولكنني قد أتعلم إذا كانت لديّ الرغبة والطموح والمثابرة والإصرار وهذه الأشياء جميعاً متوفرة لديّ والحمد لله . سأدفع لك خمس سجائر كل شهر كثمن للتدريس والأتعاب. سأكون عند حُسن ظنك . ماذا تقول؟” .

نظرتُ إلى قسمات وجههُ الأسمر فشاهدتُ في عينيهِ مزيجاً من التحدي والإصرار. كانت شفتاهُ ترتعشان من شدة التوتر والانفعال . أشفقتُ عليه في البداية بيد أنني وجدت أمامي شخصاً أمياً فيما يتعلق بهذه اللغة. كيف سأعلمهُ وماذا أعلمهُ؟ وأنا أعيش في تلك الحالة النفسية المزرية وذلك الجوع الذي أكاد أصاب بالجنون بسببهِ؟.إن هذا لشيء مستحيل!.بقيتُ مطرقاً برأسي نحو الأرض دون أن أتفوه بحرفٍ واحد.ظل يسير إلى جانبي صامتاً كأنه في موكب جنائزي. كنتُ أسمع لهاث أنفاسهِ وكأنه كان يترقب شيئاً مصيرياً خطيراً. أوقد سيجارة ــ أشنو ــ وقدم لي واحدة كعربون لطريقٍ طويل من المشقةِ والعذاب.( ملاحظة: لا أدري كيف حصل على هاتين السيجارتين في هذا الوقت لأن الجميع كانوا لا يملكون أية سيجارة فقد مضى وقت طويل على توزيع أخر حصة لنا “.

دون تردد قلت له ” إسمع جيداً لما أقوله لك. إذا طبقت كل التعليمات التي أعطيها لك فأنني سأوافق على تعليمك”.وقبل أن أسترسل في حديثي معه عن أي شيء إندفع قائلاً :” موافق على أي تعليمات تقدمها لي مهما كانت قاسية على شرط أتعلم.”وأخيراً تم عقد الصفقة التي كان يحلم بها.كان”سطام ” شاباً قادماً من اعماق مدينة سينجار التابعة للموصل. والدهُ متمكن من الناحية المادية. كانت لديهِ شاحنات لنقل الحبوب المختلفة من وإلى الموصل بالأضافة إلى بعض الأعمال الحرة الأخرى. على الرغم من محدودية ثقافتهِ الأكاديمية إلا أنه يملك طريقة جيدة للحديث مع من يجلس معه.لديهِ قابليةعالية لأختراع الفكاهات البسيطة ويحاول أن يقلد الأوربيين في تسريحة شعرهِ . كان هو الوحيد الذي يتكلم حينما يسير مع زملائهِ من نفس عمره. حدثني عن أدق التفاصيل عن عائلتهِ وولدهِ الصغير وزوجته التي تشبه بطلة ــ الجيش السري ــ.

في نهاية اليوم بدأت المنازلة الحقيقية مع الطريق التعليمي المرهق الطويل. كتبتُ له الحروف الأنكليزية وعلمته كيفية تلفظها الصحيح. إعتقدتُ أنه سوف يضجر بعد ساعة أو ساعتين ولكن العكس هو الذي حدث مما أثار دهشتي حقاً. كنتُ أراهُ لمدة يومين متواصلين يسير وحدهُ تحت أشعة الشمس المحرقة يقرأ بصوتٍ مرتفع وكان بقية الزملاء يسخرون منه ويصفونهُ بالمجنون. سمعتُ أحدهم يقول له ” ماذا ستفعل بهذه اللغة؟ هل ستتحدث ُ مع الأبقار حينما تعود إلى سينجار؟ ” كان لايهتم لكلامهم أبداً. وجاء يوم الاختبار وعندها سوف يصمد أو ينهار. جلس على سريري أصفر الوجه وكأنه كان ذاهباً للمقصلة.بعد الأنتهاء من المجاملات قال بحذر وذعر :” أنا جاهز يا أستاذ للاختبار”. كنتُ أختبرهُ بدقة متناهية وأبحث عن أي عذرٍ كي أكيلُ له اللوم والعتاب. كان يدافع عن نفسه بكل جداره ونجح في اليوم الأول بدرجة إمتياز. في اليوم التالي كتبتُ له عشر كلمات بسيطة وراح يقرأ كل النهار ويأتي بين فترة وأخرى يستفسر عن تلفظ قسماً منها. بعد شهر كان قد حفظ عن ظهر قلب أكثر من 300 كلمة . كان جديراً بالأهتمام حقاً.

بدأت مرحلة جديدة من التعليم معه. شرعتُ أعطيه قواعد اللغة وكان يستجيب بشكلٍ ممتاز. كان يسألني كل لحظة يشاهدني فيها. في النهاية أصبح كظلي لايفارقني فقط عند ساعات النوم. كنا نسير سوية منذ لحظة النهوض صباحاً حتى لحظة إطفاء الأنوار في الليل. بدأ يحرز تقدماً ملحوظاً. في أحد الأيام جلسنا سوية على سريري في الطابق الثالث وكانت بيني وبينه منضدة صغيرة صنعتها من قطعة خشب كي اضع عليها قدح الشاي قدح الشاي والأناء المعدني الوحيد أثناء تناول طعمي. فجأةً سألني :” أستاذ كيف أقول بالأنكليزية ـ المنضدة بيني وبينك؟” عندما علمته كيف يقولها راح يرددها عدة مرات وفي اليوم التالي جائني في الصباح وهو يقول ” المنضدة بيني وبينك”. كان سعيداً جدا.

يتبع…….