جلستُ على الأرض مرعوبا مُرهقاً لدرجة الهلاك من شدة التعب الجسدي والنفسي. لم أرفع قطعة القماش عن وجهي، شعرتُ وكأنني أجلسُ في قاعةٍ كبيرةٍ جداً ليس لها حدود. سمعتُ صوتاً من خلال الفتحةِ الصغيرةِ الموجودةِ في الباب الحديدي يقول :” قطعة القماش أخلع “. وبأصابع مترددة أزحتُ الستار عن عينيَّ وكانت الصدمةُ الكبرى. شعرتُ أن الزمن توقف عن الدوران وأن الأرض تذوب تحت قدميَّ. كاد أن يُغمى عليّ من الصدمة. غرفة صغيرة جداً لا تتعدى المتر والنصف عرضاً والمترين طولاً. زنزانة جرداء لا يوجد فيها أي شيء سوى بطانية مكوّرة في أحد أركان الغرفة وبلاطها بارد جداً. جدران صفراء شاهقة الإرتفاع لا توجد فيها نوافذ عدا فتحة صغيرة فوق الباب الحديدي المخيف يدخلُ من خلالها ضوء خافت لأحد المصابيح الخارجية. جلستُ كالتائه أدققُ النظر في كل زاوية من زواياها المتربة.
بقيتُ صامتاً صمت ألأموات، وكان قلبي هو الجزء الوحيد الذي ينبض بعنف وخوف لا يمكن تصديقه. شعرتُ وكأن كافة أعضاء بدني قد توقفت عن الحركة. إذاً هذا هو المكان الذي سأقضي فيه بقية عمري. زحفتُ نحو البطانية الوحيدة حينما دبَّ البرد القارص إلى جسدي وأحسستُ بخدرٍ في عظامي. لم أكن أعرف كيف أستخدم تلك البطانية؟ هل أضعها فوقي كي أمنع البرودة من الوصول إلى وجهي والجزء الأعلى من جسدي أم أضعها تحت جسدي كي أمنع البرودة من التسلل إلى عظامي؟ وبطريقةٍ تلقائية وضعتُ جسدي داخلها وتكورتُ في الزاوية اليسرى من الغرفةِ المرعبة. رحتُ أضغطُ بجسدي على الأرض في محاولةٍ لتوليد جزءاً من الدفيء الوهمي. بقيتُ أرتجفُ فترة طويلة من الزمن وبدون وعي بدأتُ أتلوا مع نفسي سورة التوحيد مئات المرات كي أطرد عن قلبي شبح الوحدةِ والوحشةِ والرعب. حاولتُ أن أُشغل نفسي بقراءتها مرات ومرات كي أحافظ على سلامة عقلي من الضياع. كلما توقفتُ عن القراءة كي أريح فمي من الحركة كلما أزداد خوفي من المصير المجهول. اعتقدتُ أنني سأواجه حتفي هنا. دبّ التعب إلى جسدي رويداً رويداً ورحتُ في إغفاءةٍ قلقة وأنقطع اتصالي بالعالم الواقعي. وأنا بين اليقظةِ والنوم سمعتُ صوتاً مرعباً قادماً من جهة الباب الحديدي الضخم. كان الحرس لا يهتمُ للسجين فيما إذا كان نائماً أم مستيقظاً عند فتح الباب. كانت السَّقاطة الحديدية تُحدِثُ صوتاً مرعباً كصوتِ قنبلةٍ أو صوت انفجارٍ في مكانٍ قريب.لا أدري هل أنهم يفعلون ذلك عن قصد أم غير ذلك.
أحسستُ بدخول شخص يرتدي ملابس مدنية فقد رأيتُ حذائه والجزء الأسفل من سروالهِ. لم أستطع أن أرفع نظراتي إليه لسببين: أولاً: أن التعليمات تؤكد تحريم النظر إلى أي شخص يدخل. ثانياً: كنتُ قد ربطتُ قطعة القماش السميكة على عينيّ بسرعة لدرجة أنها كادت أن تسقط ولو سقطت فأن عقوبتي ستكون شديدة. فاحت رائحةُ عطرٍ من الشخص وكان يحمل مجموعة من المفاتيح في يدهِ فقد كان يُحركها بسرعة ويُصفر لحناً. كان ينظر إليّ ببرود وكأن الأمر لا يعنيه مطلقاً. أخبرتهُ بالعربية بأن الغرفة باردة جداً ولكنه لم يهتم لكلامي وكأنه لم يسمع أي شيء. خرج بهدوء وأغلق الباب وأعتبر القضية بالنسبةِ له مجرد رقم آخر يُضاف إلى قائمة المعتقلين في مكان تواجده . فقدتُ آخر أملٍ في الحصول على غطاء إضافي أتقي فيه مرارة البرد القارص. كان ذلك الحرس هو المنفذ الوحيد الذي أستطيع من خلاله الحصول على شيء. عند الفجر فتح جندي طويل القامة الباب وقال بصوتٍ حاد ” إنهض للصلاة”. فرحتُ لهذا النداء فهذا يعني أنني سأذهب الى دورة المياه. قادني الجندي من يدي اليسرى كي لا أسقط على الأرض. كانت القطعة المشدودة على وجهي بأحكام تحجب الرؤيا تماماً. عند مدخل دورة المياه طلب مني الوقوف في مواجهة الجدار لحين خروج الشخص الذي دخل قبلي. بقيتُ أنتظر فترة من الزمن خِلتها دهراً طويلاً.عندما تأخر الشخص صاح عليه الجندي وهو يضرب الباب بحذائهِ العسكري ” إستعجل”. عند خروج الشخص قادهُ الجندي إلى زنزانتهِ وسمعتُ صوت إغلاق الباب الحديدي. عاد مسرعاً وسحبني من يدي وهو يقول ” أُدخل”.
في اللحظةِ التي أصبحتُ فيها داخل دورة المياه رفعتُ قطعة القماش، شاهدتُ نفس المكان الذي دخلته ليلية أمس .أسرعتُ في قضاء ما جئتُ من أجله كي لا أسمحَ له بضرب الباب والصراخ بصوتهِ المرعب ” أخرج…أخرج؟. عند باب الزنزانة قلتُ له بأن غرفتي باردة جداً والغريب أنه نظر إليّ بتأمل ثم أندفع إلى داخل الغرفة وعاد على الفور وقال بدمدمات لم أفهم منها شيئاً. سحبني من يدي في ممرٍ طويل آخر وتوقف وهو يقول ” أُدخل هنا هذه ستكون غرفتك منذ هذه اللحظة.” دفعني وهو يغلق الباب خلفي. حينما رفعت قطعة القماش وجدت نفس المساحة لغرفتي السابقة إلا أن هناك شيئاً جديداً. فراش أصفر يشبه – الموكيت – الذي نستخدمه في بيوتنا وبطانية إضافية ووسادة خضراء. فرحتُ جداً بهذا المكسب الجديد. توجهتُ إلى الجهةِ المعاكسة للقبلةـ معتقداً أنها الإتجاه الصحيح ـ وصليتُ وتضرعتُ إلى الله أن يساعدني في محنتي هذه. بعد الصلاة اضطجعتُ على البطانية أُفكرُ في حالتي البائسة وجاءت إلى ذهني العبارة التي تؤكد بأن الفتنة ُ أشد من القتل. لا أدري لماذا ظلت هذه العبارة ترن في أذني دقائق طويلة. حقاً أن الفتنة أشد من القتل. لقد “فتن” عليّ المدعو قاسم ألزاهدي سامحه الله وجعلني أسبح في محيطٍ من العذاب الذي لا ينتهي. لو أنهم قتلوني هناك في اليوم الأول الذي وطأت فيه قدميَّ تلك الأرض المنسية لكنتُ قد استرحت من عذابٍ طويل ومعاناة لا تنتهي. ولكن أن يُترك المخلوق البشري يسبحُ في ظلام الرهبةِ والخوف والضياع فهذا ما لا يطيقه الإنسان. بعد لحظات سمعتُ صوتاً يُعلِنْ من خلال الرواق الطويل كاسراً جدار الصمت الأبدي وظل يصرخُ عبارةً واحدة ” فطور صباحي….فطور صباحي “. جلستُ عند الزاوية لا أعرف ما الذي يتوجبُ عليّ فعله كي أتواصل مع ذلك النداء.
على حين غرّه انفتحت الفتحة الصغيرة المثبتة في الباب الحديدي. استدرتُ إلى جهة الجدار على الفور حسب التعليمات المكتوبة في ورقةٍ مطبوعةٍ ومعلقة على الجدار الداخلي للزنزانة وقد كُتِبَ عليها بثلاث لغات بما معناه ” عندما تنفتح الفتحة الصغيرة في الباب الحديدي فعلى السجين أن يستدير إلى جهة الحائط أو يضع قطعة القماش السميكة فوق عينيهِ كي لا يشاهد الشخص الذي يجلب الطعام أو المكلف بالحراسة ومن يخالف هذه التعليمات يُعَرّض نفسه للعقاب”. تطلع شخص ما نحوي لم أشاهد وجهه وحينما تأكد من استدارتي نحو الجدار فتح الباب الحديدي الذي أصدر صوتاً مرعباً وتقدم نحوي واضعاً قطعة من الخبز وفوقها ملعقة من المربى على الأرض وهو يقول بصوتٍ جاف ” فطورك الصباحي” . نظرتُ إلى الفطور الصباحي المأساوي غير مُصدقاُ ما وصلت إليه حالتي المزرية. تبادرت إلى ذهني آلاف الصور القديمة السعيدة وكيف كنتُ أتناول فطوري قبل سنة وفي هذا الوقت بالضبط. كنتُ أنهض من النوم من غرفتي الوثيرة الدافئة وزوجتي تُعد الفطور الصباحي في المطبخ وبين فترة وأخرى تأتي لتقول لي بصوتها الحنون ” إنهض ..إنها السابعة والربع صباحاً ستتأخر عن الدوام قم أيها الكسول……” وبخطى متثاقلة أتوجه إلى الحمام الدافئ ويتفجر الدش الحار وأبقى ربع ساعة أنعمُ بدفيء المياه الخالدة,وحينما أجلس أمامها عند المنضدة أجد أشياء كثيرة من أنواع الفطور الصباحي التي رزقنا الله بها”.
امتدت يدي وهي ترتجفُ وشرعتُ أتناولُ قطعة الخبز اليابسة وكانت تُصدِرُ صوتاً مسموعاً عند المضغ. لم أستطع إتمامها على الرغم من قلتها فقد اختفت شهيتي إلى الأبد. بعد قليل طرق الباب شخصٌ آخر وقدم لي قدحاً من الشاي الخفيف جداً مع قطعتين من ـــ القند ــ القند عبارة عن مكعب صغير من السكر الذي لم أُشاهدهُ إلا هنا في أرض الضياع. عند السابعة والنصف صباحاً سمعتُ أصوات أصفاد في الممر الداخلي لذلك الرواق الطويل ، هبطت روحي ونبضَ قلبي بعنفٍ شديد فصوت الأصفاد يُثير في نفسي رعباً مخيفاً. حينما سمعتُ صوت المزلاج الحديدي ينفصلُ عن الباب أدركتُ عندها أن ثمة شخص قادم نحوي. وضعتُ قطعة القماش السميكة حول عينيَّ وأحكمتُ وثاقها واستعديت للمواجهة. في اللحظةِ التي دخل فيها الجندي صرخ بصوتٍ مرعب ” إنهض .. لديك تحقيق”. قفزتُ ووقفتُ عند الجدار. قدمتُ يدي كي يأخذها الجندي ليقودني إلى غرفة التحقيق. كان الشخص المكلف بنقلي إلى غرفة التحقيق يدفعني تارةً ويسحبني تارةً أُخرى بطريقةٍ خاليةٍ من الرحمة. كنتُ أرفعُ قدميَّ عند حافةِ عتبةِ كلِ بابٍ نصلهُ. كانت هناك قواطع كثيرة وممرات لا تعدُ ولا تحصى ,أما الهواء البارد فكان ينفذُ إلى عظامي من خلال النوافذ المنتشرة في الرواق الطويل وفي النهاية وصلنا إلى مساحةٍ مفتوحة وفضاءٌ ثلجي. شعرتُ ببرودة الثلج تحت قدميَّ. كانت قدميَّ تنغرزان في الثلج فينفذُ البرد خلال شرايين أقدامي فيحيل جسدي إلى كتلة من الثلج المتحرك. دخلنا إحدى الغرف الصغيرة. طلبوا مني أن أخلع كافة ملابسي. شعرتُ برعبٍ شديد. إعتقدتُ أنهم سوف يجلدون جسدي. وضعوا رقماً في عنقي ــ قطعة خشبية علقوها في رقبتي وراحوا يلتقطون لي صوراً عديدة. بعد ذلك إقتادوني إلى غرفة صغيرة تحتوي على عمودين من الحديد مثبتين في الأرض يصل طول العمود إلى عشرة سنتيمترات تقريباً قد يُستخدمن لأيصال الكهرباء للتعذيب أو ربما لشيء آخر. دون أن يسألني أحد عن أي شيء طلب مني الحرس بلهجة غاضبة أن أنهض وأجلس إلى أن يطلب مني التوقف.
كان ذلك نوع من التعذيب الجسدي والنفسي ، وحينما وصلتُ إلى الرقم عشرين شعرتُ بأرهاق وعطش لايُطاق. كان جسدي لا يقوى على النهوض. جلستُ على الأرض الهثُ من التعب. وفي لحظة جلوسي على الأرض فتح الباب بعصبية وراح يصرخُ بصوتٍ مرعب ” من قال لك أن تتوقف عن الحركة؟”. حاولتُ النهوض والجلوس مرتين وفي المرة الثالة سقطتُ على الأرض وشعرتُ بحالةٍ من الغثيان. عندها سحبني إلى المغاسل كي أنظف فمي من القيءْ. نظرتُ إلى وجهي في المرآة فشاهدتُ وجهاً مخيفاً قد عصفت به أيام الرعب وساعات الغليان. كان وجهي شاحباً وكأنني شارفتُ على الهلاك. شعر لحيتي طويل فقد تعذر عليّ حلق لحيتي منذ أكثر من شهر وعينيَّ غائرتين إلى الداخل لم أصدق أن شكلي أصبح هكذا؟ قادني الجندي إلى غرفةٍ أخرى. وجدتُ شخصين في انتظاري ومنضدة وثلاثة كراسي. في لحظة جلوسي على الكرسي المخصص لي ووجهي إلى الجدار وعينيَّ معصوبتين، قال المترجم بلغةٍ عربية غير جيدة: ” السيد العقيد سوف يسألك عدة أسئلة وإياك أن تكذب عليه وإلا سيكون عقابك شديد”.جلس العقيد خلفي قريباً جداً لدرجة أنني كنتُ أحسُّ أنفاسه قريبة من رقبتي. قبل أن يوجه لي أي سؤال سألني فيما إذا كنتُ أدخن أم لا؟ وحينما أجبته بنعم قدم لي واحدة. رحتُ أدخنها بنهم لأنني لم أدخن سيجارة منذُ يومين وكنتُ في أمسّ الحاجة لواحدة في تلك الدقائق العصيبة من تاريخ حياتي المجهول.
بدأت الأسئلة تنهال عليّ من كلِّ حدبٍ وصوب. لم أكذب أبداً. كلما أجبتهُ عن إستفسار معين كان يطرح علي سؤال آخر. كنتُ كمن يدافع عن نفسه في ساحةِ حربٍ ليس لها نهاية. حاول بكل الطرق أن يبرهن لي بأنني رجل مهم في الدولة العراقية وأنني أنتمي إلى قبيلة الرئيس. حاولتُ بكل الطرق أن أُبرهن له بأنني لستُ الهدف الذي يحاول الوصول إليه وأنني لا أنتمي إلى أي شيء مما يقول. كان يتهمني بأشياء تجعلني أود الانفجار بضحكات هستيرية لاتنتهي ولكن هناك أشياء كثيرة تمنعني من فعل شيء كهذا. وأستمرت عمليات الهجوم من جانبه دقائق لاتنتهي في جحيمٍ من محاولات الدفاع المستميتة استخدمتْ فيها كل الوسائل المتاحة للدفاع عن النفس القلقة. عرض عليّ أشياء مغرية جداً تجعلني أكون ذو حظوة لديهم إذا ذهبت للعمل معهم. عند الحلقة الأخيرة من الإستنطاق أكد لي بأنني سأظل في غياهب السجن حتى الموت إذا لم أعترف بالأشياء التي يتهمني بها. ترك غرفة التحقيق وتركني أسبح في محيط هائج مظلم لا أعرف إلى أين سيقودني التيار المهلك. أيقنت أنها النهاية بالنسبة لي …نهاية كل الأحلام التي كانت تراودني منذ أن أبصرتُ النور. سحبني الشخص المكلف بإعادتي إلى الزنزانة. سرتُ معه كجسدٍ بلا روح، مجرد هيكل بشري يتحرك نحو حتفه المؤكد في يومٍ لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى. رفعتُ رأسي إلى السماء ولكنني لم أرَ إلا ظلاماً فقد كانت عينيَّ محجوبتين بقطعةِ قماشٍ أسود .
رجعتُ إلى زنزانتي المنعزلة المرعبة. هنا في هذا المكان المنعزل عن الحياة والناس وكل شيء ينتمي إلى العالم تتكون حياة أخرى ومعاناة أخرى وأحلام لا تنتهي على الرغم من وجود المكان في مكانٍ لا أعرف أين في هذه البقعة من العالم. كانت روحي ترتجف وكل عصب من أعصابي يعزفُ لحناً خافتاُ مأساوياً في جوٍ سيطرت عليه كل معاني اليأس والقنوط. شعرتُ أن الزمن توقف عن الدوران ولم يعد للوقت قيمة تُذكر على الإطلاق. لم يعد لشروق الشمس أهمية ولم يعد لساعةِ الغسق من وجود فكل شيء مظلم يُشير إلى عزلةٍ تامة. الروح تسبحُ في بحرٍ هائج من الذكريات المريرة البعيدة التي تُزيد الطين بلّه في إحتراق الذات ولهيب المعاناة. ( الصمت…الصمت…الصمت..) يالهذه الكلمة المرعبة في هذا الوجود البعيد كل البعد عن الإنسانية. لا وجود للحياة في الزنزانة حتى اسمي لم يعد له شيءٌ يُذكر فقد تحولتُ إلى مجرد رقم كأي رقمٍ كنا ندرسهُ في رياضيات المدرسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية. ثلاثة عشر شهراً لم أسمع أي شخص يناديني باسمى. حينما يدعونني للتحقيق لا أسمع إلا ذِكر الرقم (………) كلما سقط الشريط المُثبت على الجهةِ اليُسرى من صدري حيث الرقم الذي أصبح اسما لي كانوا يسارعون إلى تثبيت شريطاً آخر يحمل نفس الرقم الذي يُميزني عن بقية الأسماء.الصمت كان من أشد أنواع التعذيب النفسي الذي واجهته خلال فترة وجودي في الزنزانة.
لايحق لأي أحد أن يُصْدِرَ صوتاً حتى لو كان يصلي. كانت الأيام والشهور تمر في الزنزانة واحدة متشابهة. لا يعرف المرء الصباح من الظهر أو المساء من الليل.الجو واحد والضوء واحد والعزلة واحدة والصمت واحد. تصور صديقي القاريء أن تكون صامتاً لوحدك مدة سنة وشهر. تجلس وحيداً في نفس الزاوية المظلمة لا تعرف شيئاً عن الشمس ولا تشاهد القمر ولا ترى النجوم ولا تسمع صوت طفل أو أي شيء آخر. كيف ستكون الحالة النفسية التي يعيشها المرء في وسط كل هذا الضياع وهذا الرعب الذي لا ينتهي أبداً؟ حينما كنتُ في بلد العشق والجمال في بلد الربيع …كنتُ أشعر بالملل إذا تكرر سماع أغنية جميلة أو تناولتُ طعاماً واحداً لمدة يومين أو حينما أنتظر ربع ساعة في محطة الباص فبماذا أشعر الآن وتتكرر عليّ الساعات والأيام والشهور المرعبة وأنا أجلس لوحدي في الزاوية اليسرى من تلك الزنزانة الصغيرة.؟.
في اليوم الثاني لوجودي في عالم الضياع شعرتُ أن ناراً محرقة تلتهب تحت جلدي لدرجة أن الصداع لم يُفارقني لحظة واحدة. كنتُ أدور في الزنزانةِ كالذئب الجريح كي أُسيطر على حالة الرعب والارتباك والخوف التي سيطرت على روحي.كلما تطلع الحرس نحوي من خلال العين السحرية الصغيرة المثبتة في الباب الحديدي وشاهدني أتحرك داخل الغرفة وأدور كالناعور يصرخ بأعلى صوتة طالباً مني الجلوس وعدم الحركة. أجلسُ مرعوباً لأن عدم تنفيذ أوامرهُ معناه الخروج والجلد بالسوط أو الوقوف خارجاً على قدمٍ واحدة حتى الانهيار. كنتُ أستمع إلى خطوات الحرس عندما يسحب قدميه على الأرض. حينما يبتعد أنهض بسرعة وابدأ بالسير بطريقةٍ دورانية سريعة في تلك المساحةِ الضيقةِ من الغرفة الصغيرة، وحينما أشعر بدنو صوت حذائهِ اجلسُ وأتظاهر بإطاعة الأوامر. وتبقى هذه الحالة تتكرر حتى أشعر بالإعياء .أجلس عندها في الزاوية كأنني حيوان مصاب بالجذام ولم تعد لديه القدرة على الحركة. في اليوم الثالث من وجودي على أرض الخوف وبسبب التفكير الكثير والاحتباس النفسي الشديد شعرتُ بحكةٍ شديدة في باطن الفخذ الأيسر، في البداية لم أهتم للأمر واعتقدت أنهُ شيء طبيعي. في اليوم اللاحق شعرتُ بألم وحرقة. أعلمتُ الحرس بحالتي الصحية وبعد مداولات ومناقشات أحياناً لا أفهم مايريد مني وأحياناً هو لايفهم ماذا كنتُ أقول له أضطر ّ إلى مرافقتي إلى طبيب المعتقل كي يتخلص من مسؤولية عدم الإبلاغ عن حالةٍ مرضية أثناء فترة حراستة. أبدى الطبيب الشاب اهتماما كبيراً حينما شاهد حالتي المزرية بكل مقاييسها وقدم لي علاجاً جيداً وحقنني بحقنةٍ سببت لي ألماً كبيراً.
من جرّبَ الزنزانة في أية بقعة من العالم يفهم تماماً ما تعنيه هذه الغرفةِ الصغيرة. تحدث حالات عجيبة أثناء العزلة والعيش وحيداً. أنا شخصياً لم أفهم تلك الحالات إلا بعد أن عِشتُ فيها واكتويت بنارها. مثلاً بدأتُ أتحدثُ مع نفسي ــ أحياناً بصوتٍ مرتفع وأحياناً يستلم ذهني إشارات مختلفة لمواضيع لا تُعد ولا تُحصى. أبقى أرسم الخطط لمواضيع قد تبدو خيالية لو سمعها شخصٌ ما. أحياناً أصل إلى مرحلة التفكير والتركيز والتخطيط لدرجة أنني أصبح لا أشعر بوجود أي شيء . أبتسم أحياناً ، أُقطبُ حاجبيَّ أحياناً أُخرى….أفرح…أغضب…أثور…أهدأ…وأشياء أخرى تبدو للعيان علامة من علامات الجنون وهلوسة وانفصام للشخصية. أحياناً أتحدثُ مع نفسي بصوتٍ مرتفع كي لا أفقد صوتي لأن الصمت الطويل قد يجعلني غير قادر على الكلام مرة أخرى. كانت هناك طريقة أخرى اتبعتها لقضاء الليالي الطويلة التي ليس لها نهاية. بعد وجبة العشاء من كل ليلة أستلقي على الجهةِ اليسرى ثم أبدأ بترتيب البطانية التي أنام فوقها وكأنني أرتب صفحة كبيرة من الورق. أستخدم السبابة اليمنى كقلم ــ أقصد أتخيلها قلم ــ ثم ابدأ بكتابة قصة طويلة باللغة الانكليزية. أحياناً أحذف أو أمسح العبارة أو الكلمة بيدي وكأنني أستخدم ممحاة حقيقية.انفعل لتزايد الحدث القصصي وأتأثر للتصاعد المستمر في أحداث الرواية. كنتُ أستخدم هذه الطريقة ساعاتٍ طويلة إلى أن أشعر بأن أصبعي يكاد يتمزق من شدة الألم ومن شدة ضغطي على الصفحةِ الوهمية.أحياناً كنتُ أشعر بأن عينيَّ تكادان تخرجان من مواضعهما فقد كانت تحدث ما يشبه الشرارة الكهربائية الصادرة من مقلة العين. في بعض الأحيان وعندما يتقدم الليل الذي لا يوجد أي مؤشر لانجلائه، كان الحرس يفتح النافذة الصغيرة المثبتة على الباب الحديدي وينظر إليِّ مندهشاً من جراء تلك الحركات السريعة لأصبعي ولِما أقوم به من حركة لا تعرف الكلل والملل. أحيانا كان يتركني أفعل ما يحلو لي وأحياناً أخرى يصرخ بصوتٍ بشع مستفسراً عما أقوم به. حينما أؤكد له من عدم وجود شيء ذو أهمية يغلق الفتحة الصغيرة وهو يدمدم بأشياء لم يعد لها أهمية فيما إذا كانت ضدي أو ضد أي شخص أخر في الوجود.
يتبع …