18 ديسمبر، 2024 11:02 م

اشدّ اصدقائي فقرا وأكثرهم من الدنيا قناعة ، ان سُئلتَ هل عرفت رجلا لم يضر احدا بحياته قط ،، قل نعم ؛ محمد نوري .لم ينافس احدا في هذه الدنيا على شيء ، حتى في العلم الذي توافر على قدر طيب منه قد لايملك ربعه كثير ممن يلاحوننا على كل صغيرة وكبيرة اليوم ،ولم يجادل احدا اقل منه ولا اعلى علما ولم يرفع صوته في النقاش قط، ، هو يتكلم برأيه إن فسحت له ، فإن تقويت عليه او إستأثرت بالكلام سكَتْ ، لم يسابق احدا على طمع في الدنيا ولايدري مامعنى ان يرث الانسان اباه او ان يغتني من ذلك او ان يستقل ببيت او حتى يتزوج ،
هو قنوع بالفطرة لا بالتدريب، وخلوق بالخلقة لا بالتهذيب ، فعندما كنا اطفالا تظهر علينا المنافسة والغيرة لا نكتمها كما نفعل اليوم ، كان هو لايهتم لذلك ، كان آخران من اصدقائي الاذكياء المتفوقين يقولان اننا أولى من فلان بهذه المرتبة عندما يضعهم المعلمون بعدي وانا افعل إن وقع لي، الا هو فعندما كنا نعود من المدرسة الابتدائية نحو بيتينا المتقاربين في الحي ، اساله : هل علمت انك وُضعت من بعدي في الترتيب يقول: وانا فعلا آتي من بعدك ، ويضيف مازحا غير مكترث “وهل اطمع باكثر من ذلك او استحق!” “بتعبير اقل وبما يناسب فصاحة طفل طبعا” ، وكنت ببراءة اضحك ولكن لأني لم اكن “فيلسوفا” مثله ، فلما نضجت واستذكرت صرت ابتسم مع نفسي باندهاش واشتياق الى ذلك الولد لايدانيه الا اشتياقي لصباي نفسه ،
لا يكترث محمد نوري ان زاد مال فلان او نقص ولا يدري ولايسال ،واذا طرق حديث من ذلك تناول الامر مازحا او متهكما بصدق لا بقلة حيلة ، وكان مزاحه عن الأغنياء محببا الى الحد الذي لو سمعوه لأكرموه ، قلت له يوما وقد مررنا ببيت جديد البناء فخم ، بيت من هذا؟ فقال : وما ادراني ، قلت: على كل حال (الله يزيده ) ، قال : يا أخي ادع لنفسك الله يزيدك ، الرجل مكتفي) فابتسمت ، وهو لا يهتم سواء شبع ام لم يشبع -ان اكل- ،فلا يبدو عليه انه ياكل اصلا ،انا عن نفسي لا أذكر أني رأيته مرة يأكل طيلة أربعة عقود من الملازمة ، فلا يتحمس إن كانت هناك دعوة غنية بطعام لذيذ او لا -كما نفعل-، الى الحد الذي يجعلك لاتفكر بدعوته الى طعام طيب او ربما لاتفكر بدعوته قط ان لم تكن تحبه كما أفعل، فاذا تذوق الطعام الطيب وسالته هل اعجبك قال :اكيد ، وكذلك يقول ان تذوق الطعام البسيط ،
سوف لن تدعوه لسبب آخر ، هو انه لايتكلم ان لم تساله ، واذا تكلم لن تمل حديثه ، كنا فتيانا قبل سن الجامعة وكان ياخذنا الطريق الطويل يشرح لي مغزى ايات معينة في القران وبلاغتها واسباب نزولها وتأويلها -وكان هذا شغفه الاول- ويناقش مع نفسه غرابة احداثها فيطرد عن نفسه وعنك الشك في صدقية نزولها من الله تعالى ، حتى جمع من نظراته العلمية الخاصة وتفسيراته الاستنباطية السوية للقران الكريم مايقوّم كتابا مهما ، كنت انتظر ان يكتمل فاقراه يوما ، فلما غبت عنه سنوات اغترابي وعدت سالته عنه لأطبعه له على نفقتي ، قال : لا ادري اين صارت مسوداته (هكذا بكل بساطة)! ، قلت: هل بحثت عنه : قال : لا ، ولكني سافعل ان شاء الله ان تذكرت ، فترك ذلك وعاد يجالس صديقا -مقعدا بسبب مرضه- امام منزل ذاك الرجل الذي يتقدم عليه عمرا بما يزيد عن خمس عشرة سنة، بينما رقدت في المستشفى 3 شهور عندما احرق الايرانيون بيتي لضياع مسودات كتاباتي التي كنت انتوي طباعتها طيلة سنين،
قلت : هل تريد جهازا حديثا تكتب فيه وتخزن ماتكتب او ماتستذكر؟ قال : لا ادري ، كان عندي واحد وتعطل ، قلت : اشتري لك واحدا ! قال : ولماذا ، فجزعت وتركتُ الامر .
لم يشتر محمد نوري بدلة أنيقة منذ شبابه اي منذ صار مسؤولا عما يلبس وكان في طفولته احسننا ملبسا اذ اهله الميسورون يكسونه ، فلما كبر لم يشتر الا مايحتاجه لتبديل مايهرا او تنظيف مايتوسخ .
لايكترث بسيرة الناس وكأنه لايعيش معهم وكأنهم لايزعجونه كما لايفرحونه ، لا أتخيل انه يتشاجر باللسان فضلا عن الأيدي ،حتى انه لم ينتم الى إحدى “عصابات الأطفال البريئة أيام اللهو” ، ولم أسمعه يوما يقول ان فلانا طويل أو قصير ، ولا يعبأ ان احدا يضره او ينفعه ،
فإن خطر ببالك أن تسألني : وهل تامل ان هذا الرجل سيكافئك على ماكتبت بحقه ، قلت لك بكل اطمئنان : طبعا لا ، هو لن يقرا لي اصلا ، ولا وسائل تواصل لديه ، وليس لديه جهاز هاتف وقد استغرق مني أمر حصولي على محادثة معه وأنا في غربتي سنة كاملة عن طريق أصدقاء وسطاء ، كما انني بحسب طبيعتي لن أقول له ، هو يقرأ لكثيرين غيري ، ولو وصله كتابي المطبوع لقرأه ، لكنه يصغي الي كثيرا في حديث الدين او الفكر إذا التقينا ويقدر قولي -كما اظن- ،
-فلمَ تكتب عنه اذن؟، لا ادري ربما هي رغبة الكاتب الذي ملّ قراؤه من الفلسفة والتنظير ، بل وربما من الادب ونقده ايضا ، فاراد ان يكسر الرتابة بعض الشيء ، خذها هكذا ولا تحزن علي ، فقد كتبت عن أشياء لا دور كبير لها وكتبت عن اناس لا يستحقون الذكر ، ويشفع لي في امر هذا الرجل انه ليس منهم .
وأطمئنك انني لن اتأثر سلبا حتى إن علمت إنه قرأ وتجاهل فمحمد هذا ان قلت له : انك شخص طيب او ذكي او وفي ،ابتسم وقال لك دون وعي : اشكرك ، ولا تنتظر ابدا ان يقول لك كما نقول :”انت الاحسن” لانه وببساطة لايظن في نفسه ما وصفت ولايظنك انت ايضا كذلك.
يسكن محمد نوري مع والدته التي بقيت معه دون اخوته المتزوجين في بيت والدهم الذي -ربما- هو البيت الوحيد الذي لم يفكر ورثته ببيعه وتقاسمه ، ولايقدرون على تجديده او ربما لايفكرون بذلك او لايرغبون ،، لا اجزم . وهو البيت الوحيد بين جيلنا الذي بقي كما هو منذ ان كنا نعود من المدرسة الابتدائية صغارا فيطرق محمد الباب نفسه الذي آراه اليوم ، وينتظر ليدخل بهدوء ، بينما نذهب نحن الى بيوت ابائنا فندفع ابوابها بارجلنا مهللين صارخين منبهين لقدومنا المزعج فاسحين لانفسنا الطريق الى المطبخ ،
ولان الله تعالى لم يخلق الناس عبثا وانهم اليه راجعون ، فاني اظن -وظني بربي حسن- ان صديقي سينال في الاخرة رضا وسرورا ،فإنه لم ينل من هذه الدنيا شيئا كما نلنا -اللهم إلا سيجارة ضررها اكثر من نفعها- ولعله لايتذوقها ، ولعل تجرعه لرداءة النوع يكفّر له عنها ، عدا عن هذا لم اره يوما يتنعّم بشيء ، حتى فراشه الذي ينام عليه “بعد صلاة الفجر” ، ولعل رؤيتي له هكذا هي اكثر مايخيفني من قول الله تعالى ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَٰتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُم بِهَا﴾ ولو ان الخِطاب كان موجها للكافرين اعاذنا الله ان نكون منهم ، ذلك القول الذي كان يخافه ساداتنا عمر او علي رضي الله عنهما كما يروى ، فأجد-قياسا لصديقي- اننا اذهبنا كثيرا من طيباتنا في الحياة الدنيا ، بينما وفّر محمد نوري -ربما دون أن يقصد – كلّ شيء الى الحياة الأبدية الآخرة .