بعد إفلاس “كريدي سويس” .. انهيار السمعة السويسرية كملاذ آمن للثروات المنهوبة عالميًا !

بعد إفلاس “كريدي سويس” .. انهيار السمعة السويسرية كملاذ آمن للثروات المنهوبة عالميًا !

وكالات – كتابات :

يُمثل انهيار بنك كبير جرى تأسيّسه قبل 167 عامًا؛ حالة طواريء مالية بالنسّبة لأي بلد عادي، لكن المخاطر كادت أن تُصبح وجوديةً بالنسّبة لـ”سويسرا”؛ إذ بنّت “سويسرا” نموذجها الاقتصادي وهويتها الوطنية على فكرة حماية ثروات العالم، وقد صّقلت تلك الهوية على مر قرون.

ولهذا لم يكن مصرف (كريدي سويس) بمفرده الذي يحتاج لإنقاذ، بل كانت “سويسرا” نفسها بحاجةٍ للإنقاذ أيضًا، كما يقول تقرير لصحيفة (وول ستريت جورنال) الأميركية.

أزمة بنك “كريدي سويس” هزّت سمعة سويسرا..

في يوم الخميس 16 آذار/مارس 2023، كانت الأزمة المصرفية المتصاعدة قد بدأت قبل 24 ساعةً فقط، بينما بدأت الودائع تنزف من خزائن مصرف (كريدي سويس) السويسري. وبدت المؤسسة المالية الوطنية، التي يبلغ عمرها (167 عامًا)، على بُعد أيام قليلة من الإفلاس.

ولإبقاء المؤسسة على قيد الحياة حتى عطلة نهاية الأسبوع، كان المصرف المركزي السويسري على وشك زيادة حجم خط الائتمان المفتوح: بـ 50 مليار دولار، ومضاعفته بأكثر من: 04 أضعاف.

بينما اتصلت الجهات التنظيمية الأميركية والبريطانية بالسويسريين، حتى يحرصوا على عدم سماحهم لـ (كريدي سويس) بأن يتسّبب في انهيار الأسواق العالمية.

لهذا أجرت وزيرة المالية؛ “كارين كيلر-سوتر”، ورئيس البنك المركزي؛ “توماس غوردن”، ورئيسة جهة التنظيم السويسرية؛ “مارلين أمستاد”، اتصالاً هاتفيًا مع رئيس مجموعة (UBS) المصرفية. وكان الغرض من المكالمة هو تقديم خيارين، لكنهما كانا عبارةً عن خيار واحد في الواقع: فإما أن تشتري (UBS) مصرف (كريدي سويس) دون الإلمام الكامل بميزانيته العمومية الضخمة والمعقدة، أو تسمح لـ (كريدي سويس) بالانهيار التدريجي.

وقد خشي مسؤولو (UBS) أن يؤدي انهيار (كريدي سويس) إلى تقويّض مصداقية “سويسرا” كمركز مصرفي عالمي، كما تقول صحيفة (وول ستريت جورنال).

وبعد سلسلة من المكالمات الهاتفية المحمومة والمقابلات التي رعتها الحكومة، وافقت مجموعة (UBS) على: “ابتلاع” (كريدي سويس) مقابل: 3.2 مليار دولار.

وقال “تييري بوركارت”؛ رئيس الحزب الليبرالي الراديكالي، الذي يُعد ثالث أكبر أحزاب البلاد: “ليس مصرف (كريدي سويس) مجرد شركة سويسرية. لأن إفلاس مصرف سويسري عالمي كان سيؤثر على جميع أنحاء العالم بشكلٍ فوري. بينما ستتعرض سّمعة سويسرا لأضرار صعبة وطويلة الأمد”.

“سويسرا تواجه أخطر أزماتها منذ الحرب العالمية الثانية” !

تقول الصحيفة الأميركية، لم يتضح بعد ما إذا كان السويسريون قد نجحوا في احتواء الأضرار بالكامل أم لا؛ إذ كان امتلاك مصرفين على مستوى عالمي يُعتبر بمثابة ملاذ آمن، للحفاظ على مكانة “سويسرا” في الأسواق العالمية. لكن: “الزواج الجبري” الأخير ترك “سويسرا” بمصرفٍ عالمي واحد، وزعزع ثقة المواطن السويسري العادي وإيمانه بالنموذج الاقتصادي والسياسي في البلاد.

بينما قال “مارك بيث”، الرئيس السابق لقسم الرشوة في “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”: “إذا أصبح تعريف المصرفية السويسرية يقتّصر على مصرفٍ ضخم واحد، فماذا سيحدث لو أصابه خطأ ما ؟ ستُصبح حينها البلاد بأكملها – واستقرارها المالي – عرضةً للخطر. وهذا أمر غير سويسري على الإطلاق”.

واعتادت هذه الدولة، الواقعة في “جبال الآلب”، أن تنظر لنفسها باعتبارها حالةً خاصة داخل “أوروبا”. إذ تُعَدُّ بمثابة الوسيط المحايد والديمقراطية رصينة الحوكمة، التي توفر مصارفها الملاذ الآمن السّري للمستثمرين وأثرياء العالم من أبعد الدول. ويصل حجم نظامها المصرفي إلى: 05 أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي، وهو حجم أكبر مما هو عليه في غالبية اقتصادات العالم. فضلاً عن أن حجم الميزانية العمومية لمجموعة (UBS) ومصرف (كريدي سويس) معًا يسّاوي ضعف حجم الاقتصاد السويسري.

كما كانت “سويسرا”؛ في وقتٍ من الأوقات، أرض الاجتماعات التي لا بديل لها، حيث يمكن للقوى العظمى أن تزورها لتتفاوض على إنهاء الصراعات. لكنها تعرضت للتهميش اليوم في ظل الصراع “الروسي-الأوكراني”، وصّعدت دول أخرى لتحل محلها.

لهذا قالت الرئيسة السويسرية السابقة؛ “ميشلين كالمي راي”: “أصبحت لدينا الآن معضلة، وتحدٍّ كبير بالنسبة لسويسرا حتى يتم الاعتراف بها كشريك استراتيجي. إذ لم تُعد كذلك في الوقت الراهن، ونحن في حالةٍ من الصدمة”.

بينما قال السفير الأميركي؛ في الأسبوع الماضي، إن “سويسرا” تواجه أخطر أزماتها منذ الحرب العالمية الثانية. حيث بدأ المستثمرون الأجانب، الذين تضرروا من زوال (كريدي سويس)، يُعيدون التفكير في استعدادهم للاستثمار في البلاد.

كيف وصلت أزمة بنك “كريدي سويس” لهذا الحد ؟

كان مصرف (كريدي سويس) يؤوي أموال العملاء المشبوهين منذ حقبة “الذهب النازي”. ووضع المصرف تلك الودائع إلى جانب أموال قائمة طويلة من أبرز أصحاب المليارات، وصناديق الثروات السّيادية، والعائلات الثرية.

لكن (كريدي سويس) خسّر أكثر من: 05 مليارات دولار مؤخرًا في 2021، إثر انهيار شركة إدارة الأصول العائلية (Archegos Capital Management)، مما مهّد لتعثر المصرف وابتلاعه بواسطة (UBS).

ورغم الفضائح المتلاحقة، تمكنت المصارف السويسرية – وحتى (كريدي سويس) – من الحفاظ على صورتها كقلاع حصينة لثروات العالم، كما تقول صحيفة (وول ستريت جورنال).

وتتألّف أحدث فرق إدارة (كريدي سويس) من عدة مسؤولين قادمين من (UBS)، وبينهم رئيس مجلس الإدارة؛ “أكسل ليمان”، والرئيس التنفيذي؛ “أولريتش كورنر”. وتعهد الفريق الجديد بتحسّين الصورة، واعتبروا استرداد (كريدي سويس) لعافيته بمثابة خدمة وطنية، وفقًا للمصادر المطلعة على تفكيرهم.

وجمعت الإدارة: 04 مليارات دولار من رؤوس الأموال المخصصة لإعادة الهيكلة في العام الماضي، لكن أسّهم (كريدي سويس) أصبحت متداولة: بـ 20% فقط من قيمتها الدفترية. بينما سحب العملاء: 120 مليار دولار من المصرف؛ في الخريف الماضي، أثناء فورة الجنون التي ضربت الإنترنت في ما يتعلق بصحة المصرف.

وقد وضع المسؤولون التنفيذيون ومستشارو الإدارة في (UBS) خططًا لمختلف السيناريوهات، من موقعهم القريب إلى (كريدي سويس)؛ في وسط “زيوريخ”، وحددوا ما ستحتاجه المجموعة من الحكومة كإجراء احترازي.

بنك “UBS” ليس في مأمن من الأزمة أيضًا..

يُذكر أن مجموعة (UBS) مدينةٌ للحكومة السويسرية بالكثير؛ إذ سذبق لها أن كانت مصدر المشكلات لـ”سويسرا” من قبل؛ حيث احتاجت إلى خطة إنقاذ من الحكومة السويسرية إبان الأزمة المالية عام 2008، وذلك لتعويض خسّائرها في الأوراق المالية السّامة.

من ناحيته؛ كان رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لـ (كريدي سويس) يخشى تلقيه مكالمةً من السلطات السويسرية؛ حيث دخلت أسعار أسّهم المصرف في حالةٍ من السقوط الحر بعد تصريحات رئيس “البنك الأهلي السعودي”، أكبر المستثمرين في المصرف، عندما قال خلال مقابلة تلفزيونية على هامش مؤتمر مالي في “الرياض”؛ إنهم لن يستثمروا مزيدًا من المال في (كريدي سويس).

فهرع السيد “ليمان” عائدًا من ذلك المؤتمر إلى “زيوريخ”، وطلب (كريدي سويس) من “البنك الوطني السويسري”، ومن “هيئة الرقابة على السوق المالية” السويسرية، تهدئة الأسواق بنشر رسالة دعم.

وفي مساء الأربعاء 15 آذار/مارس، تلقى (كريدي سويس) خط سيولة بأكثر من: 50 مليار من البنك المركزي، ثم خرجت الجهات التنظيمية لتقول إن المصرف يستوفي اشتراطات رأس المال والسيولة السويسرية.

لكن عملاء (كريدي سويس) استمروا في سّحب ودائعهم؛ يوم الخميس. لهذا وفّرت السلطات سيولة إضافية بأكثر من: 150 مليار دولار للمصرف، وفقًا لتصريحات وزيرة المالية؛ “كارين”. ولم تُفصح الحكومة عن تلك الخطوة آنذاك، أملاً في إبقاء (كريدي سويس) على قيد الحياة حتى عطلة نهاية الأسبوع، مع احتمالية العثور على حل نهائي في تلك الفترة.

وتلقى رئيس مجلس إدارة (UBS)؛ “كولم كيلير”، مكالمة من المسؤولين السويسريين في يوم الخميس. حيث اتصل به ثلاثي يُمثل: “هيئة الرقابة على السوق المالية” السويسرية، و”البنك الوطني السويسري”، و”وزارة المالية”. وكانت رسالة الثلاثي واضحة: ستسّتحوذ (UBS) على (كريدي سويس) أو سيُفّلس المصرف الأخير، وقد تؤدي التداعيات عندها إلى انهيار (UBS) وغيرها من المصارف بالتبعية.

يُذكر أن الأيرلندي؛ “كيلير”، قد انضم إلى (UBS) كرئيس مجلس إدارة؛ في نيسان/إبريل/نيسان، بعد مسّيرة مهنية طويلة مع “مورغان ستانلي”. وتحرك فريقه سريعًا بفضل الورقة الزرقاء التي صُدرت في عهد رئيس مجلس الإدارة السابق؛ “أكسل ويبر”، والتي تُحدِّد الشكل المحتمل لاندماج (UBS) و(كريدي سويس) تحت مظلة واحدة.

وعقد رئيسا مجلس الإدارة وكبار المديرين التنفيذيين لـ (UBS) و(كريدي سويس) اجتماعًا سريعًا مع وزيرة المالية، وذلك داخل مقر (UBS)؛ في يوم الجمعة 17 آذار/مارس، حيث جرى إخطارهم بأنهم سيوقعون الصفقة بحلول يوم الأحد 19 آذار/مارس.

أكبر عملاء بنك “كريدي سويس” من منطقة الخليج..

يوجد أكبر أصحاب الحصّص في (كريدي سويس) داخل منطقة الخليج، وبينهم “البنك الأهلي السعودي”. وقد شعر هؤلاء بالقلق حيال خسارة استثماراتهم بالكامل. لهذا اتصلوا بالمسؤولين في “سويسرا”، وبينهم محافظ البنك الوطني ووزراء في الحكومة، وراسلوهم كتابيًا. وجادل الخليجيون بأن حقوقهم أصبحت عرضةً لخطر التعدي عليها، وأنهم من المحتمل أن يستطيعوا طرح صفقة أفضل.

وفي مساء السبت 18 آذار/مارس، أخذ “كيلير” استراحةً من العشاء ليتصل بـ”ليمان” ويعرض عليه مليار دولار فقط. لكن العرض كان أقل مما دفعه “البنك الأهلي السعودي” مقابل الحصول على عُشر أسّهم المصرف؛ في تشرين ثان/نوفمبر الماضي، وهي الصفقة التي توسّط فيها “ليمان” بنفسه.

ومن ناحية (كريدي سويس)، أعرب المسؤولون التنفيذيون عن قلقهم حيال إمكانية تمرير الصفقة عبر حّملة الأسّهم. إذ كانت نحو ثُلث أسهم المصرف في حيازة مستثمرين خليجيين. لكن الحكومة جاءت بالحل. حيث أقرت قانونًا يسمح بتمرير الصفقات دون تصّويت حّملة الأسّهم. وقرأ مسؤولٌ حكومي نص القانون الجديد على مسؤولي (كريدي سويس) التنفيذيين، دون أن يمنحهم نسّخةً مكتوبة، بحسّب الأشخاص المطلعين على المسّألة.

وفي صباح الأحد؛ تلقى مجلس إدارة (كريدي سويس) العرض الأخير من المسّاهمين الخليجيين، الممثلين في “جهاز قطر للاستثمار” و”مجموعة العليان” و”صندوق الاستثمارات العامة السعودي”؛ (الذي يملك البنك الأهلي السعودي جزئيًا). ونص العرض على قيامهم بضخ نحو: 05 مليارات دولار، واحتفاظهم بالمصرف السويسري المسّتقر مع بيع بقية أذرعه بمرور الوقت.

فاتصل “ليمان”؛ بوزيرة المالية السويسرية، لكنهم أخبروه بأن (UBS) هي الخيار الوحيد المطروح أمامه، مُطلقين رصاصة الرحمة على ذلك العرض.

وقالت مصادر مطلعة إن المسؤولين السويسريين كانوا سيقبلون بالعروض السويسرية فقط لإنقاذ (كريدي سويس)، وذلك منذ اليوم الأول. وقد رفضوا محاولةً غير رسمية من “شركة إدارة الأصول الأميركية” العملاقة؛ (BlackRock)، للتدخل، وفقًا للمصادر نفسها.

لكن مجلس إدارة (كريدي سويس) أصرّ على أن العرض السويسري لا يزال منخفض السعر. وقبل ساعات من إعلان الصفقة، طلب المسؤولون في “سويسرا” من مجموعة (UBS) أن تُقدِّم عرضًا أفضل.

وفي وقتٍ متأخر بعد ظهر الأحد، وافقت (UBS) على زيادة عرضها ودفع مبلغٍ يتجاوز: الـ 03 مليارات دولار – أي أقل من نصف القيمة السّوقية لـ (كريدي سويس) في يوم الجمعة. والأهم من ذلك أن الجهات التنظيمية السويسرية ستشطب: 17 مليار دولار من سّندات (كريدي سويس) الأعلى مخاطرة. كما حصلت مجموعة (UBS) على خط سيولة من البنك المركزي بأكثر من: 200 مليار دولار، مع تعهد الحكومة بتغطية بعض الخسائر المحتملة بقيمة تتجاوز: الـ 09 مليارات دولار.

وأصدرت الحكومة إعفاء من قوانين مكافحة الاحتكار من أجل إتمام الصفقة، وذلك على أساس أن الاستقرار المالي للبلاد عرضة للخطر. وقالت وزيرة المالية؛ “كارين”: “أي حل آخر كان سيؤدي لإثارة أزمة مالية”.

لهذا قال “كيلير”، في المؤتمر الصحافي لإعلان الصفقة يوم الأحد، إن خطوة شراء (UBS) لـ (كريدي سويس) تصبّ في مصلحة “سويسرا”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة