مريضتي العذراء….
منذ أن كنت في الجامعة..لم يكن اختصاص النسائية والتوليد من الاختصاصات المفضلة لدي…ولا ادري لماذا..رغم روعة هذا الاختصاص وإرتباطه الملموس بالموت والحياة الجديدة….
بعد سبعة اشهر من تخرجي…وكجزء من متطلبات الإقامة الدورية للأطباء حديثي التخرج..جرى تعييني في قسم الولادة في إحدى مستشفيات بغداد …
كانت الردهات تعج بأصوات غريبة…جديدة على مسامعي وهي اصوات الأطفال حديثي الولادة…بكاءهم الجميل….ونظرات اعينهم القلقة الغير مدركة للمحيط بعد….كم احببت تلك النغمات الفطرية السامية….وكنت لا أمل من سماعها مطلقا…وربما لو
إقتصر هذا الاختصاص على الولادات فقط لكنت فكرت جديا بدراسته ولكنه يشمل جوانب اخرى غير ذلك البرعم الوليد…..
كان الوقت قبيل الفجر تقريبا….وكنت اغالب نعاسي وتعبي الشديد..بينما اطالع الساعة بيأس واترقب مرور الدقائق والثواني بإنتظار انتهاء مناوبتي وحضور الطبيب البديل…..وفي ذلك الوقت ..استلمت تلك المريضة….كانت في الثامنة والأربعين…وتشكو من الام مبرحة في البطن…وبخبرتي المتواضعة وقتذاك استطعت ان اسكن الامها لحين طلوع الشمس …وافتتاح المستشفى بالكامل لكي اقوم بإجراء كافة التحاليل والصور الشعاعية للمريضة….
وتبين بعد إكمال الفحوصات اصابتها بورم على المبيض..وقد كان تقرير السونار يوضح احتمالية وجود سرطان بنسبة 90%……
كانت المريضة برفقة اختها الصغرى..وإحدى قريباتها
العجائز…علمت منهن فيما بعد ان المريضة ليست متزوجة…وكان السؤال عن الحالة الإجتماعية من ضروريات التشخيص بالطبع….
كنت اقوم بالمرور صباحا ومساءا على المرضى..لغرض فحص علاماتهم الحيوية من حرارة وضغط ونبض…وادونها في الفايل المعلق بجانب السرير….وفي كل مرة كنت اقترب فيها من المريضة كانت تنبهني شقيقتها وقريبتها الى ان تلك المريضة عذراء….وعلي توخي الحذر في فحصها….وكنت اوضح بأن العلامات الحيوية بعيدة كل البعد عما تظننه…..
تقرر اجراء العملية لتلك المريضة بعد اربعة ايام من دخولها الى الردهة وتشمل استئصال كامل للرحم والمبايض…وتعتبر من العمليات فوق الكبرى وذلك لأحتمالية اصابة المريضة بالسرطان….
كان من الطبيعي ان نشرح الحالة لذوي المريضة
ونخبرهم بكل شئ بدءا من التشخيص وانتهاءا بتفاصيل الجراحة….كانت عائلتها من مستوى اجتماعي مرموق وذات خلفية ثقافية لابأس بها….ولكن….بعد ان قامت الاخصائية بمناقشة الحالة ..رفضت عائلة المريضة اجراء الجراحة كليا….وذلك لأن المريضة عذراء…ولم تستطع الشقيقة ولا القريبة البت بالأمر واتخاذ قرار الموافقة….فتقرر تأجيل العملية الى حين وصول شقيق المريضة الذي سيتمكن كرجل بالطبع من إتخاذ القرار الملائم……
جلس اخوها متسمرا امام الطبيبة الجراحة وهو يستمع الى تفاصيل مرض شقيقته…وكنت انا اقف بجوارهما اتصنت على تلك التفاصيل واراقب تعابير وجه المستمع….كان تبدو عليه الحيرة والذهول…وشككت لوهلة انه لايفقه ماتقوله الطبيبة او انه يعاني من صدمة نتيجة لسماعه كلمة ورم او سرطان…..ولشدة دهشتي …..بعد ان انتهت
الاخصائية من التوضيح….اجابها بسؤال واحد……هل ستؤثر العملية على بكارة شقيقته…..
ران الصمت …وارتسم الجمود على محيا تلك الاخصائية الكهلة ذات الخبرة الواسعة بالأورام والعمليات ومختلف انواع الاستئصالات…ولم تعرف بماذا تجيبه…..
ولكنها استجمعت المتبقي من صبرها المهني…واجابته بأن العملية لن تتعرض لبكارة شقيقته….فما كان منه إلا ان وقع بموافقته على اجراء تلك الجراحة اخيرا…………
المرأة الشرقية… .ممتهنة…..كبنت..كزوجة…..كأم ومخلوقة…..واهم إنجازاتها في الكون هو الحفاظ على بكارتها…..حتى لو وضعت حياتها في كفة وبكارتها في الكفة الأخرى….سترجح كفة البكارة بالتأكيد…….
كم كانت تحتاج مريضتي ذات الثامنة والاربعين عاما الى تاج العفة ذاك..وهي تعاني من السرطان الذي
قد يفتك بها…وكل ماكان يشغل بال شقيقها هو ان تدفن اخته وهي عذراء……..ولن اقول المزيد….