بسبب التراكمات التربوية والاجتماعية والدينية الموروثة او التي تتعلق بالمناهج الدراسية الجامدة عبر عشرات السنين، والبناء القبلي لمعظم مجتمعاتنا التي تمنح الشيخ صلاحيات تشبه صلاحيات الدكتاتور في النظم السياسية الشمولية، تكلست مجموعة من القيم والسلوكيات التي حولت الكثير ممن يتولون أي مسؤولية إدارية صغيرة كانت او كبيرة الى دكتاتوريات قزمية تحاول تقمص شخصية الرئيس او شيخ القبيلة، من خلال اسقاطات سلوكية وسايكولوجية بالغة في معظم المجتمعات العربية والإسلامية وتأثيراتها على الفرد وموقعه الوظيفي اجتماعيا او إداريا، حيث يتقمص في سلوكه وتصرفه شخصية الرئيس او الملك في الموقع الذي يشغله تدرجا من اصغر مدير دائرة أو مفوض شرطة مرورا بشيخ العشيرة ورجل الدين، وليس غريبا أن يكون ذلك السلوك مرتبطا في الأساس بسلوك ابٍ متسلط بإفراط او معلم مستبد في المدرسة او رجل دين متشدد لا يقبل الحوار والنقاش صعودا الى شيخ العشيرة ومن ثم الى اعلى الهرم في الحكم المطلق للفرد.
ولا عجب في ذلك لأن منظومة التقاليد والعادات والتفسيرات الدينية الداعمة مع التراكم التربوي والاجتماعي وحتى الديني يدعم هذا التوجه والرمزية في الحكم، ولا أظنه عيباً في مجتمعات ما تزال في بدايات انتقالها إلى نمط آخر من الحياة السياسية والاجتماعية وما يواجهها من صراعٍ عنيف بين النظام الذي تعيشه والنظام البديل، خاصةً وأنه ليس من الضرورة أن يكون البديل سياسياً فقط، بل إن المتغيرات التي أنتجتها الكهرباء ومشتقاتها في عالم الاتصالات والإنترنيت والتواصل الاجتماعي أحدثت ارتباكا شديداً في عملية الانتقال المفاجئ إلى النظام الجديد دونما المرور في سياق التطور الطبيعي للمجتمعات وتعاملها مع معطيات الحضارة الجديدة، فكانت أشبه ما تكون في صدمتها بنتائج غزوة بدوية كالتي كانت تحصل بين القبائل قبل عشرات السنين، مما أدى الى تعطيل الانتقال النوعي واستبداله بمظهرية سطحية لم تتعدى الشكل الخارجي وإكسسواراته في السلوك أو الثقافة، والذي أنتج هجينا غريبا لا يمت بأي صلة لا بالنظام الأول ولا بالبديل المرتجى!
نعود الآن إلى عقدة (الرئيس) المفرط بالرئاسة، كواحدة من تلك العقد التي واجهتها عملية التغيير الاجتماعي والسياسي في معظم هذه البلدان، وخاصة تلك التي تم تغيير هياكل أنظمتها اما بانقلابات او بمساعدة قوى خارجية كما حصل في العراق وليبيا واليمن وسوريا وتداعياتها الاجتماعية والسياسية، خاصة العقد الموروثة من أنظمتها السابقة، وفي مقدمتها عقدة (الرئيس القائد) المفرطة التي أنتجتها الدكتاتوريات السياسية والاجتماعية وما يرتبط بها من كاريزما وصلاحيات مطلقة كانوا يتمتعون بها ويستخدمونها في تخدير الغالبية من الأهالي الذين يمتلكون استعداد الاحتواء (القطيعية) من هكذا كارزميات بصرف النظر عن طبيعة سلوكها، ولعلنا نتذكر تلك الجموع الغفيرة التي كانت تتغنى بهم وما زالت تمارس ذات السلوك مع غيرهم اليوم.
ومن هنا وبسبب هذا التراكم الموروث سيكولوجيا واجتماعياً تشعر كثير من الزعامات التي أنتجتها مرحلة الانقلاب الى الوضع الجديد وبغياب دولة المواطنة وهشاشة القانون، إنها تشغل ذات الموقع الذي شغلته تلك الشخصيات في النظم الشمولية، ابتداءً من اصغر مدير دائرة يتوهم نفسه امبراطورا وحتى اعلى المستويات حيث تتقمصها وتقلدها بشكل أعمى، وإزاء ذلك يبدو من الصعوبة بمكان إحداث تغيير مهم وبسرعة في هذه التركيبة من الأمراض الاجتماعية والنفسية والسياسية المتكلسة، مالم تبدأ حملة تطهير وتنوير كبيرة تشارك فيها كل النخب المثقفة والأكاديمية بمختلف توجهاتها وعلى كل المستويات، ابتداءً من الأسرة والمدرسة ومناهجها التي تكرس هكذا سلوك وخاصة في مبدأ المواطنة الجامعة، وتنقية التعليم من عملية تعبئة الرؤوس بالمعلومات واستبدالها بمناهج معاصرة نقدية عملية بعيدة عن المتوارث من الخرافات والاساطير والهيمنة البدوية في التفكير والسلوك، وإلغاء تداخل النظام القبلي او الدين مع الدولة بالتأكيد على مدنية الدولة والنظام، وإن أي موقع في الدولة أو في النظام الإداري والتشريعي والقضائي ما هو إلا عمل وظيفي مقابل أجر لخدمة المجتمع وأفراده، وليس منةً أو هبةً من أحد، بل هي وظيفة اجتماعية أو سياسية أو تشريعية لخدمة الأهالي دونما تأليه أو تفرد أو امتيازات مبالغ بها على حساب الآخرين.
[email protected]