جلس العم سمير في المقهى الصغير بالقرب من جدار بناية الكنيسة في بداية شارع الميكانيك – مدينة الدورة في ضواحي العاصمة بغداد – هو ليس مقهى بالمعنى الاصولي لمفهوم مشيدات مباني المقاهي المعروفة في كل مكان من هذا العالم وإنما هو مكان صغير او بقعة مناسبة من رصيف عند تلك الكنيسة المذكورة أعلاه حيث اتخذ منها أحدهم موقعا للرزق مع العلم انه كان يخالف شروط البلدية وتعليماتها المعروفة للجميع . أصبح ذلك المقهى مكانا يلجأ إليه كبار السن من المتقاعدين وغيرهم ممن لايملكون وظيفة او عملاً محدداً . كلما شعر بالحاجة الملحة للجلوس في مكان عام يراقب فيه حركة المارة دون أن ينتبه لوجوده احد من البشر او وجد في اعماق روحه رغبة شديدة لمطالعة رواية من روايات المؤلفين الكبار دون ان ينغص عليه احد متعة القراءة – كما كان يفعل بعض من أحفاده المشاكسين – يحث الخطى الى ذلك المكان ويتخذ له مكانا منعزلا ويبدأ قبل كل شيء بمراقبة سير الكائنات البشرية المتدفقة من عدة جهات او يتامل حركة العجلات المختلفة ويسرح في عالم من الخيال البعيد حيث تتصارع الأفكار في ذهنه من كل حدب وصوب . بعد أن يتناول قدح متوسط الحجم من شاي ابو الهيل يستل من حقيبته البلاستيكية المتواضعة الرواية التي كان قد عزم على التهامها بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى .
حينما يشرع بقراءة روايته بصمت لايقترب منه أي صديق أو غير ذلك فقد كان قد وبخ احدهم بعنف يوما ما واخبره بانه لايرغب في الدخول باي حديث او نقاش حينما يطالع روايته المفضلة ومن هذا المنطلق فقد عرف الجميع هذا الموضوع وصاروا يتجاهلونه حينما يشاهدونه وهو يمسك الكتاب بشوق كبير . كانوا جميعا يدخلون في نقاشات لاتنتهي – عقيمة حسب منظوره الشخصي – ولهذا السبب لم يكن يدخل معهم باي نقاش إلا حينما يشعر انه ينبغي عليه ان يقول شيئا ما . في ذلك اليوم سمعهم يجادلون بعضهم البعض في جدال كبير وراح بعضهم يصرخ على البعض الآخر بين مؤيد او معارض وكان جوهر الموضوع يدور حول عدم وجود العمل في العراق وان اغلب الشباب عاطلين عن العمل والسبب معروف للجميع – وخصوصا لكل من يعيش في العراق – في حين راح أحدهم يتحدث بصوت جهوري مؤكدا أن العمل موجود في كل مكان ولكن على الفرد ان يبتكر الفكرة المناسبة لخلق ذلك النوع من العمل حتى وإن لم يكن لديه راس مال وراح يعدد انواع كثيرة من الأعمال ولكن على الفرد أن يكون جديا في تحقيق عملية خلق الفكرة التي يروم من ورائها الحصول على كسب شريف . لم يتدخل سمير في ذلك النقاش وظل يحدق في السطور التي أمامه من تلك الرواية لكنه أصغى السمع للنقاش وراح يسجل بعض النقاط التي كان يقولها البعض ويبتسم في قرارة ذاته . كان يخاطب خياله الواسع بانه ربما يستطيع أن يحقق فكرة من تلك الأفكار التي كانوا يتناقشون حول امكانية تحقيقها . من أغرب الأفكار التي سمعها من أحدهم ولايدري هل انه كان يمزح ام يقول الفكرة بكل جدية — ومفادها أن أحدهم يستطيع أن يجلس على جهة من جهات الطريق السريع ويكتب لافتة ظاهرة للعيان بشكل واضح ويكتب عليها بثلاث لغات عبارة — اسألني اي سؤال أرشدك فيه على الطريق الذي تريد الذهاب إليه مقابل مبلغاً زهيداً جدا كنوع من رد الجميل أو المساعدة . في تلك الجلسة يستطيع الفرد أن يحقق عدة اشياء منها الجلوس وتامل الطريق السريع وما يجري عليه من احداث ربما لا تخطر على ذهن إنسان أو يستطيع أن يطالع أي كتاب يريده وبهذا يكون قد تخطى وقتا جميلا مفيدا وربما يحصل على شيء من النقود . طبعا يستطيع الفرد ان يبتكر افكاراً أخرى الى جانب تلك الفكرة – ابتسم سمير لتلك الفكرة وراح يسخر من الشخص الذي كان يشرحها بكل جدية . في الطريق إلى البيت راح يفكر بتلك الفكرة الغريبة التي قذفها ذلك الرجل الى الفراغ لكنها ظلت تدور وتدور في ذهنه وهل يمكن تحقيقها أم أنها غير واقعية تجعل الاخرين يسخرون ويضحكون على الشخص الذي يروم تنفيذها . كان يتحدث مع نفسه وكأنه يحاول اقناعها ويبرر لها اشياء كثيرة وهي طالما ان الشخص لا يعتدي على حقوق الآخرين ولا يسرق اشياء يمتلكها غيره فهي اذا لن تكون ضمن المحرمات الشرعية بل على العكس يكون الشخص قد أعد نيته للعمل والتوكل على الله سبحانه وتعالى ومن الممكن ان يضع الشخص اشياء قليلة اخرى تكون بضاعة جاهزة للبيع في ذلك المكان الذي اتخذ منه موقعا للعمل .
لم يستطع النوم تلك الليلة وظل يتقلب في فراشه كالمحموم يدرس الفكرة من جهات مختلفة ويحاول أن يبتكر أشياء لا تتناسب مع ذلك الموضوع الغريب . عند الساعات الاولى من الصباح عقد العزم على تنفيذها بطريقته الخاصة وقرر ان لايخبر زوجته بالامر وان تكون الفكرة له وحده ولن يخبر بها احد مهما كانت الظروف . بعد الفطور الصباحي أخبر زوجته بأنه سيتأخر ذلك اليوم وسيتصل بها عند المساء اذا لم يكمل عمله . لم تعترض زوجته وتمنت له السلامة والنجاح وقالت له عبارتها المشهورة كلما كان يخرج الى العمل قبل ان يحال الى التقاعد ( كن مطمئنا ومتفائلا وتوكل على الله ) . كانت تلك الكلمات بمثابة السهم الناري الذي كاد ان يشطر قلبه الى نصفين وكادت الدموع تخرج من مقلتيه – لا بل تمنى ان يحضنها بقوة ويبكي ساعات طويلة كي يزيل كل تلك الأحزان والهموم التي كانت تحيط بروحة سنوات وسنوات . أعادت له كلماتها ذكريات تلك السنوات الجميلة قبل اكثر من ثلاثين عاما حينما كان شابا يخرج الى العمل في ساعات منتظمة كدليل ومترجم مع كافة الصحافة الاجنبية التي تزور العراق . كان العمل بالنسبة له يشبه الكرنفال اليومي – سفرات ولقاءات مع مسؤولي الدولة وعامة الشعب ووجبات طعام في كل فنادق الدرجة الاولى في عموم البلاد . ذكريات تصلح أن تكون كل واحدة منها رواية أفضل من كل روايات أولئك الذين يكتبون أجملها . ابتسم لها وهو يحاول ان يخفي عنها عذابات الروح والشوق إلى أي عمل يدر عليه ولو رزقا قليلا . حينما تخرج أولاده وصار لديهم موردا لاباس به فرح هو وشريكة حياته كثيرا وظن أن أولاده سيغدقون عليه أموالا كثيرة لكن واقع الحال لم يكن على هذه الشاكلة . كان يناقش هذه الحالة مع زوجته الا انها كانت تصرخ في وجهه وتطلب منه ان ينساهم ولا يطلب منهم اي شيء فكل واحد منهم مشغول مع عائلته ولديه مصاريف اخرى . احتراما وتقديرا لها كان يعض على شفتيه ويذهب الى دائرة من الصمت الرهيب ويعدها بانه لن يفكر بهم مرة اخرى وسيظل يعتمد على الله ومن ثم على ذاته ويعتبر انه يعيش لوحده معها في ذلك المكان حتى الساعات الاخيرة من حياته .
حمل معه رواية ( بوح الجدران ) وكرسي صغير قابل للطي كان قد وضعه في حقيبة بلاستيكية كبيرة في الليلة الماضية مع لافتة كان قد كتب عليها بخط كبير و بثلاث لغات – العربية والانكليزية والفارسية ( اسألني اي سؤال عن الطريق أو المكان الذي تريد الذهاب إليه مقابل مبلغ زهيد من المال وسأكون في خدمتكم — مع التقدير ) . حينما استقل السيارة لم تكن لديه اية فكرة عن المكان الذي يريد أن يتخذ منه مكانا للعمل . قرر ان يذهب الى آخر نقطة تصل اليها سيارة الاجرة – الميني باص — ثم يعود في نفس الطريق فربما تتكون لديه فكرة ما عن المكان . قبل ان يصل الى نهاية الطريق طلب من السائق التوقف . ترجل منها فقد شاهد مكانا مناسبا بالنسبة له – هذا ما كان قد فكر فيه في تلك اللحظة .
استقر تحت ألمُجَسّرْ على الجهة الاخرى من الطريق السريع حيث كان هناك شاباَ يجلس الى جانب بضاعته من مختلف الفواكه والخضروات . بعد أن القى العم سمير التحية على الشاب سأله فيما إذا كان يستطيع أن يجلس على مسافة من مكان وجوده ويبيع بضاعته التي تتكون من الكلام فقط ومساعدة الناس لايجاد العناوين التي يرغبون في الذهاب إليها ولن يسبب له اية مضايقة على الإطلاق . تطلع الشاب الى الرجل المسن وهو يحدق في وجهه بطريقة غريبة معتقدا ان الرجل لابد أن يكون قد فقد عقله او ربما مصاب بمرض نفسي جعله يريد ان يمارس تجارة ( بيع الكلام فقط ) وفي هذا المكان الصاخب بسبب حركة الشاحنات التي لاتنقطع عن المرور ليلا ونهارا . وافق الشاب على الفور وهو يخاطب الرجل المسن ” على الرحب والسعة ايها العم العزيز وانا تحت أمرك وفي خدمتك ” . استحسن العم سمير جواب الشاب وتمنى ان يرد له هذا الفضل في مناسبة ما . راح ينظف المكان الذي اتخذ منه موقعاً للرزق وطفق يزيل كافة الأوراق والأخشاب الصغيرة المتناثرة في زوايا متفرقة وفي نهاية المطاف أخرج اليافطة من جيبه وثبتها في مكان مناسب ووضع كرسيه الصغير الى جانبها حيث جلس عليه وهو يقول بصوت مسموع نوعًا ما ” يا الله انت الرزاق وأنت الحافظ وترزق من تشاء بغير حساب ” . أخرج من جيبه الرواية وراح يطالعها بكل إهتمام . كان الشاب ينظر اليه بين الحين والآخر ويقول مع نفسه بصمت ” يبدو ان هذا الرجل مسكين حقاً فكيف سيبيع الكلام على حد قوله , لم اشاهد في حياتي تجربة كهذه ” . مضت دقائق معدودة وإذا بسيارة سوداء تقف بالقرب من موقع العم سمير فترجل منها رجلاَ أنيقاَ وتقدم بخطوات ثابتة وهو يخاطب بائع الكلمات بكل إحترام ويطلب منه أن يرشده الى الطريق المؤدي الى مستشفى – الشيخ زايد – شرع العم سمير يشرح له الطريق بكل جدية ومن ثم أخرج ورقة وطفق يرسم له مخططا دقيقا لكل الشوارع والمنعطفات والزوايا التي تؤدي الى العنوان بشكل دقيق . شكره سائق السيارة السوداء وهو يستلم الورقة المرسوم عليها المخطط وفي نفس الوقت أخرج من جيبة ورقة نقدية فئة عشرة الاف دينار عراقي وقدمها لبائع الكلمات . حاول سمير ان يرفض في بداية الامر الا ان الرجل أصّر بكل قوة على ضرورة أخذ المبلغ البسيط . عند إنطلاق السيارة نحو المكان المطلوب عاد سمير الى مكانه سعيداَ وهو يتطلع نحو الورقة النقدية غير مصدقاً ماكان قد حدث له قبل قليل . قبل أن يشرع بمواصلة مطالعة الكتاب الذي كان بحوزته توقفت سيارة كبيرة تحمل أكداسا من الأخشاب وقفز منها شاب في مقتبل العمر وفي اللحظة التي إقترب فيها من مكان العم سمير قال بصوت مسموع ” هل تدلني على أسواق الميكانيك ؟ “وبدأ العم سمير يشرح له الطريق المؤدي الى السوق الكبير شكره الشاب ومنحه ورقة نقدية من فئة خمسة الاف دينار عراقي . انطلقت سيارة الحمل وعاد بائع الكلمات الى مكانه وهو يشكر الله على كل شيء .
استأنف العم سمير مطالعة الرواية بسعادة ملحوظة وغاص في عالم الخيال ولم يعد يشعر بحركة العجلات المنطلقة بسرعة عالية جدا كأن الزمن على وشك الأفول وكل واحدة ٍمن تلك العجلات تحاول اللحاق بالزمن المحدد لبلوغ الهدف المرسوم لها من قِبَلِ مالكها . بين فترة واخرى يرفع العم سمير نظراتهِ من فوق سطور الكتاب ويرسلها بعيداً جداً ليراقب ذلك التناسق الجميل لحركة المرور لكل هذا الكم الهائل من السيارات بمختلف اشكالها واحجامها وتبدأ الافكار تتزاحم في ذهنهِ ترسم أشكالاً هندسية لتصميم شوارع اخرى لو تم تطبيقها لما كان هناك توقف لحظة واحدة في جميع الشوارع الممتدة نحو المحافظات الجنوبية , وهو في خضم ذلك التأمل الحالم شاهد من بعيد ارتالاً لسيارات عسكرية تقترب رويدا رويدا . أوجس في نفسه خيفة وهو يراقب ذلك التشكيل العسكري المهول . تظاهر بعدم الاهتمام وألصق نظراته مرة اخرى في صفحات الكتاب إلا أن قلبه وحواسه كلها كانت متيقظة منتظرة مرور ذلك الموكب العسكري وعودة الطريق السريع الى هيئته الاعتيادية الخالية من كل مظهر من مظاهر العسكر – لايريد ان يستذكر كل تلك الصور المرعبة لزمن الشباب الذي قضى نصفه في رعب وخوف لاينتهي في زمنٍ مات فيه نصف شباب العراق هناك خلف الحدود في حروبٍ طاحنه لم نحصد منها الا الموت والخراب .
وقف الشاب وهو يلوح بيده اليمنى وكأنه يطلب من جميع السيارات العسكرية التوقف لشراء فواكه وخضروات والغريب أن قائد الرتل العسكري توقف بالقرب من صناديق الخضراوات والفواكه فتوقفت جميع السيارات وراح يطلب من بعض الجنود نقل عدد لابأس به من صناديق الخضراوات والفواكه الى بعض العجلات . كان الشاب سريع الحركة وهو يساعد الجنود في مهمة نقل الصناديق الى العجلات الاخرى لدرجة ان العم سمير شعر بالسرور الدفين وهو يصوب نظراته نحو الشاب وقال يحدث نفسه ” بوركت ايها المجاهد من أجل لقمة العيش أنت أفضل من جميع الفاسدين الذين يستغلون مناصبهم الرسمية من أجل سرقة أموال العراق . هم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا لكنهم في حقيقة الأمر بؤساء لايعرفون المصير الذي ينتظرهم يوم الحساب سحقا لهم ولما يجمعون ” , وهو في خضم ذلك التجلي ومحاكاة الذات شعر ان قائد الرتل العسكري يتقدم نحوه بهدوء بخطى ثابتة وقد تأبط عصا التبختر بطريقة صارمة تدل على مدى قوة وجدية التدريب العسكري الذي خضع له ضمن سياق المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها . شاب وسيم يحمل رتبة نقيب . نظر الى العم سمير وهو يخاطبه بكل إحترام ” هل أستطيع أن اوجه لك سؤالاً واحداً ولاتخف سأدفع لك ثمن الجواب حسب هذه اليافطة المكتوبة هنا ” . نهض العم سمير بهدوء مرحباً بالنقيب وهو يبتسم قائلاً ” حسناً طالما أنك ستدفع ثمن السؤال فعلى الرحب والسعة ” وراح يضحك وهو يمد يده لسيادة النقيب الشاب .
ظل النقيب يحدق في وجه بائع الكلمات دون أن ينطق حرفاً واحداً . شعر العم سمير بنوع من الحرج لهذا الصمت الذي راح يغلف مظهر النقيب الوسيم . على حين غرة فتح النقيب هاتفه الثمين بعد أن فتح صفحة من صفحات التواصل ألأجتماعي وقال بثبات ” هل هذا حسابك وهل انت العم سمير مدرس والدي سلام حينما كنتما معا يوما ما في بيت الأموات ؟ ” . في اللحظة التي شاهد فيها العم سمير صورته وحسابه وعرف أن هذا النقيب الشاب ما هو إلا إبن ذلك الصديق الخالد في روحه منذ اكثر من ثلاثين عاما شعر أن تياراً كهربائياً يخترق أحشاءه ويصعقه وكاد ان يسقط على الأرض من شدة الصدمة . ظل العم سمير ينظر في عيني النقيب وكأنه يبحث عن صديقه القديم هنا في هاتين العينين الجميلتين يستذكر في لحظات كل سنوات العذاب هناك خلف الحدود . بلا وعي صاح بائع الكلمات بهيجان كبير ” إذن …أنت مازن ؟ يا الله كم أن هذا العالم صغير ! كم سمعت عنك حكايات طيلة أحد عشر عاما لدرجة أنني لم أجد يوما واحداً إلا وقال صديقي سلام شيئا ما عنك..كم تمنيت أن أراك قبل ان أرحل عن هذا العالم الواسع ” . عانق النقيب العم سمير وهو يهمس في أذنه ” كم أنت رجل عالِ الشأن ..هذا ماكان والدي سلام يقوله كل يوم منذ أن عاد الى أرض الوطن قبل أكثر من عشرين عاماً . كلما كان يفتح كتابا يحدثنا عنك وكيف قضيت معه احد عشر عاما تعلمه وتدرسه ماكان يحلم به لدرجة أن كل من يعرف والدي صار يعرفك ويعرف كل شيء عنك دون أن يراك . سنذهب الآن في واجب للقضاء على الخارجين عن القانون وحينما نعود سأدعوك الى أفخر عشاء عرفه ألأنسان وليس كتلك الدعوة التي وجهها لك سلام اقصد والدي في رأس السنة هناك في بيت الأموات وأنت تعرف الحكاية المأساوية تلك ” . راح النقيب يمسح دمعة قبل أن تسقط على خده . تراجع الى الوراء قليلا وأدى ًالتحية العسكرية بطريقة لم يشهد لها العم سمير مثيلاً طيلة خدمته العسكرية قبل ثلاثين عاما . وبسرعة البرق راح يتحدث بالجهاز اللاسلكي الى كل العجلات ويأمر كافة المنتسبين بالترجل والتقدم بطريقة نظامية عسكرية لمصافحة العم سمير . في غضون لحظات كان الجميع يتقدم الواحد تلو الآخر ويصافح بائع الكلمات بأحترام مطلق . أمرهم أن يعودوا الى مواقعهم وطلب من مساعده الملازم الاول حيدر أن يقود الرتل وسيكون هو في مؤخرة الرتل العسكري المتجه صوب صحراء الأنبار. في اللحظة التي طفق الرتل العسكري بالسير أخرج النقيب من جيب بلدته العسكرية رزمة من النقود جميعها من فئة خمس وعشرون ألف دينار عراقياً وقال بهدوء ” هذا كل ما أحمله في جيبي ثمن جوابك وفي المرة القادمة سوف أضاعف لك المبلغ ” وراح يضحك بصوت هاديء . حاول العم سمير أن يرفض إستلام النقود لكن النقيب رفض هو الآخر بشدة . عانقه وركض صوب سيارة القيادة التي انطلقت كالصاروخ ليلحق برتله العسكري.
كان العم سمير يرتعش وهو ينظر الى النقود في يده اليمنى ويؤكد لذاته أن تلك اللحظات التي يعيشها ما هي الا احلام واهنه واهيه كتلك الاحلام التي يعيشها يوميا بلا فائدة . جلس على كرسيه الصغير ينظر الى السماء لايعرف مايقول لكن صمته كان يدل على ذكر كل كلمات الشكر والتبجيل لخالق السموات والارض . تقدم الشاب نحو العم سمير وجلس على الارض قريبا منه وهو ينظر نحوه بكل احترام وراح يخاطبه ” من انت ياعم ؟ لماذا ادى لك التحية النقيب الشاب ؟ لماذا ركض كل افراد قواته وراح كل واحد منهم يصافحك ؟ لماذا خرجت بعض الدموع من عيني النقيب؟ هل أنت ملك من السماء أم أنت ساحر مجنون؟ بالله عليك قل لي من أنت ؟ ” . ارتسمت على وجه العم سمير ابتسامة صغيرة وهو ينظر إلى الشاب بسرور بالغ . بلا مقدمات قال للشاب ” خذ وقل لي كم هو عدد هذه النقود التي وهبني الله إياها عن طريق ذلك النقيب الطيب ؟ لنتقاسمها نصفها لك ونصفها لي لأنك سمحت لي أن أجلس قريباً منك وعاملتني بأدب واحترام ” . لم يصدق الشاب وراح يحسبها بسرعة وشطرها إلى نصفين احتفظ بنصفها وقدم النصف الآخر إلى العم سمير .
رجع الشاب إلى مكان عمله بعد أن حصل على نصيبه من النقود التي منحها له بائع الكلمات وهو يشعر في داخله بسعادة ليس لها مثيل . من بعيد خاطب العم سمير بأنه سيشعل قليلا من النار عند الصخرة التي كان قد جعل منها موقدا للنار كلما شعر برغبة شديدة لصنع قدح من الشاي . لم يرد عليه العم سمير بكلمة واحدة فقد طفق يلتهم كلمات الرواية التهاما ولكنه رفع للشاب يده اليسرى مستحسنا تلك الفكرة — فكرة تناول قدح من الشاي — في تلك العزلة الموحشة التي كان يشعر بها كلما تقدم الزمن دون ان يتوقف شخص ما لتوجيه أي سؤال له عن أي شيء وهذا معناه توقف الرزق بالنسبة له . في الطرف الآخر من موقع العمل كان الشاب يحاول بجهد جهيد إشعال النار وفي ذات الوقت يتحدث مع نفسه عن حالة هذا الرجل الغريب وكيف ظهر إلى عالمه وهل صحيح انه حضر لبيع الكلمات حسب قوله أم إنه جاء ليتخلص من الفراغ القاتل الذي يعيشه بعض المتقاعدون ؟ حالة غريبة لم يشاهدها من قبل ومع هذا شعر الشاب بسعادة دفينة لوجوده بالقرب منه لعدة أسباب منها يملأ عليه بعض الفراغ الذي يواجهه هنا حينما يظل وحده ينتظر ساعات طويلة دون أن يشتري منه أي شخص اي شيء على الرغم من تلك السيارات الكثيرة التي تتواجد على الطريق السريع طيلة ساعات الليل والنهار . بعد فترة وجيزة جاء الشاب يحمل في يده قدح متوسط من الشاي وقدمه للرجل المنسلخ عن عالم الواقع تماما والسابح في بحر من الخيال الجميل . بصوت هاديء قال الشاب ” تفضل أيها العم العزيز هذا قدح من شاي لن تتذوقه في حياتك القادمة ولم تتذوقه طيلة فترة حياتك المنصرمة . ” تطلع بائع الكلمات صوب وجه الشاب لحظات قليلة وتمنى لو يقبله على رأسه فقد أعادت له كلمات الشاب ذكريات مؤلمة قابعة في ركن من أركان عقله اللاواعي . قبل أن يتفوه بحرف واحد جلس الشاب على ألأرض قرب الرجل وهو يقول بطريقة ناعمة بعض الشيء ” لماذا تقرأ وماذا تقرأ أيها العم ؟ يبدو أنك تعيش في عالم يختلف عن هذا العالم الذي أعيش فيه أنا وهل توجد حكايات خفية تغلف روحك لاتريد البوح بها لأي شخص أم ماذا ؟ وجودك على هذا الشكل وتعاملك مع ألأحداث بهذه الطريقة تجعلني أتخبط في حيرة من أمري . ” .
وضع العم سمير كتابه جانبا وراح يحرك ملعقة الشاي بهدوء ملفت للنظر ويحدق في حركة الشاي كأنه يراقب حركة الحياة بكل صورها وأشكالها ودون أن ينظر نحو الشاب قال بصوت هاديء ” هل تعرف ماهي الغربة ومن هو الذي يعيش في غربه كاملة ؟ أنت في هذه اللحظة غريب وتعيش غربة كاملة مع العلم أنك تعيش في بلدك ولست مسافرا , أليس هذا بالشيء العجيب ! أنا مثلك على الرغم من أنني أتدثر بحصون وطني وتحيط بي جدران هذا البلد الواسع الجميل ومع هذا أنا غريب . أشعر أن الغربة غرست كل نصالها في خاصرتي مع العلم أنا لست مسافراً وأعيش هنا قريبا من بيتي وبالتحديد على ارض وطني . لو تطلعت في هذه اللحظة نحو جميع السيارات التي تنطلق مسرعة الى جهات مختلفة واقتربت من الناس الذين في داخلها وتحدثت اليهم لوجدت أغلبهم غرباء على الرغم من أنهم يعيشون في بلدهم . الغربة ليست مقتصرة على كل من سافر خارج بلده كلا ليست هكذا , هل تعلم أن الغربة هي العزلة التامة التي يعيشها الإنسان بعيدا عن الآخرين بعيدا عن المؤانسة ومن يعيش في عزلة عن الاخرين تنبت غربته ويغزوه الشك في إنسانيته . أنت وأنا نعيش في غربة ولهذا السبب طلبت منك حينما قدمت إلى هنا في بداية النهار أن تسمح لي كي أجلس قريبا منك لكي أتخلص من الغربة والعزلة عن الآخرين ..الغربة شيء مرعب ياعزيزي ” .
كان الشاب ينظر إلى العم سمير بشرود ذهني كامل لم يستوعب كل ماكان قد قاله بائع الكلمات ولكن قلبه كان يخفق بشدة وشعر أن كلمات الرجل قد نفذت إلى أعماق روحه وتمنى لو أن العم سمير ظل يتحدث بلا توقف ساعات طويلة . في تلك اللحظة توقفت سيارة حديثة وخرج منها شاب وراح يسأل العم سمير عن موقع – مستشفى الشيخ زايد – بلهفة وقلق ظاهر بشكل جلي على كل حركة من حركات جسده . إبتسم بائع الكلمات وهو يقول بطريقة مؤدبة جدا مخاطبا الشاب ” ماهي حكاية هذه المستشفى ؟ قبل أكثر من ساعة ونصف طلب شخص نفس الموضوع وأرشدته الى هناك ” . قال الشاب بسرعة ” أحد أقربائي هو الذي سألك عن موقعها وهو من قال لي بأن شخص ما يجلس تحت المجسر الرابع وأستطيع أن أساله في حالة عدم معرفتي بالطريق . هل تأتي معي الى المستشفى وسأعيدك إلى هذا المكان بعد إنتهاء زيارتي ستكون المهمة سهلة جدا بالنسبة لي لو رافقتني , لا اريد التفكير والبحث عن المكان وسأمنحك مبلغا جيدا ماذا تقول ؟ . وافق العم سمير بلا تفكير فقد كانت فرصة مناسبة بالنسبة له لتغيير الجو كما يقول البعض والتخلص من الجلوس في ذلك المكان المقفر من البشر . نظر العم سمير ناحية بائع الخضراوات والفواكه وطلب منه أن يحتفظ بالكرسي الصغير واليافطة المكتوب عليها تلك الكلمات التي تشير إلى أنه يساعد من يريد إرشاده الى مكان ما . تناول بائع الفواكه حاجيات بائع الكلمات وأكد له بأن أشياءه ستكون في مكان أمين لحين عودته. إنطلق العم سمير أو بائع الكلمات مع الشاب في سيارته الحديثة نحو الهدف المطلوب وقبل أن تبتعد السيارة لوح العم سمير الى بائع الفواكه وهو يقول مع نفسه ” ستعود الى غربتك وحيدا ..ولا أعرف هل سأعود غدا لأجلس قربك كي أبيع الكلمات … لا اعرف حقا لا اعرف…..”
ثامر مراد
بغداد
5/ 3 /2023