5 نوفمبر، 2024 5:00 م
Search
Close this search box.

سبع سنوات من اروع ازاهير العمر كنت مع الراحل الكبير عبد الرحمن منيف

سبع سنوات من اروع ازاهير العمر كنت مع الراحل الكبير عبد الرحمن منيف

بعد ان مر علينا انا والصديق العزيز المرحومجاسم المطير اكثر من عامين في مصلحة السينما والمسرح منذ ان تم نقلنا من مجلة الاذاعة والتلفزيون قسرا، برزت في الاوساط الصحفية فكرة اصدار مجلة نفطية اقتصادية ، مع بدايات عام 1975 تحققت هذه الفكرة وعين رئيسا لتحريرها الراحل الدكتور عبد الرحمن منيف بعد ان قدم من بيروت الى العراق بقرار سياسي ، حيث انيطت مهمة اصدارها الى جريدة الثورة وتغطية كل مستلزماتها المادية ، ولكون جاسم المطير كان من الكتاب الاقتصاديين البارزين فقد تم اختياره للعمل في المجلة بالاضافة الى المرحوم سامي احمد ، ثم التحق بالعمل الدكتور فلاح سعيد جبر امين عام اتحاد الصناعات الغذائية ، خلال فترة وجيزة خبرني الاخ جاسم بأن الدكتور عبد الرحمن يريد ان يلتقيك ، فاستفسرت منه عن السبب قال لقد رشحتك للقيام بمهمة المدير الفني للمجلة .

تحقق اللقاء في غرفة صغيرة في جريدة الثورة وهي المرة الاولى التي ادخل فيها للجريدة ، كان لقاء حواريا دار حول مهنة الصحافة وتحصيلي العلمي ونقاشات اخرى تناولت امور عديدة وكأنه اراد ان يختبرني ويعرف بعضا من تخصصاتي المهنية وثقافتي الفكرية ، وبعد ان شرح لي توجهات المجلة طلب مني ان اعد له ماكيت تجريبي يحتوي تصوراتي وافكاري عما يجب ان تكون عليه مجلة مثل ــ النفط والتنمية ــ وهذا هو اسمها كما ذكر ذلك منيف .

حقيقة من خلال هذا اللقاء انبهرت بالرجل ، واعجبت به ايما اعجاب بطريقة حديثه وجم تواضعه ورفعة ادبه واخلاقه ، احسست بأنني امام انسان لابالغ اذا قلت انه يختلف عن كل الذين عرفتهم ، بالمقابل احسست ايضا ان امامي تحديين كبيرين ، الاول كيف اوفي حق تواضع وانسانية منيف والثاني كيف اخترق قاعدة المألوف في التصاميم التي كانت شائعة آنذاك كي ارضي ثقته بي ولكي اجعله متمسكا بالنوذج الذي سأقدمه لانني كنت واثقا من انه سيواجه رفضا لي من قبل ادارة الجريدة بأعتباري متهما بالشيوعية وهي تهمة باطلة اراد من يعنيهم الامر ابعادي عن العمل في المراكز الحساسة كوني لست بعثيا  .

عملت على الاتجاهين ، امضيت اكثر من اسبوعين في اعداد ماكيت للمجلة ، كنت خلالهما ابتكر اشكالا جديدة وغير مطروقة في التصميم ، بما فيه غلاف المجلة وقياسها ، اعددت اكثر من شكل لصفحات المجلة ، واكثر من غلاف، وخلال فترة الاعداد هذه ، وصلتني اخبار من ان الجريدة قد رشحت اثنين من مصمميها للعمل في المجلة ، صادف خلال هذه القترة انني لم التق منيف ولا اعرف ما اذا كان قد طرح اسمي كمصمم للمجلة امام ادارة الجريدة ام لا ، بصراحة لقد اقلقني خبر مصممي الجريدة ، احسست بشيء من الانزعاج والتذمر ، لا لكوني اخسر فرصة هذا العمل، انما لاأريد ان اخسر فرصة العمل مع شخصية كبيرة مثل عبد الرحمن منيف .

حين انجزت الماكيتات اصبحت مهياءاً للقاء منيف وعرض النماذج عليه ، تحدد موعد اللقاء ولم اشعر بالرهبة او التردد او حتى التفكير في عدم قناعة منيف بشكل وتصميم المجلة ، لانني بذلت جهدا  حقيقيا ومبدعا  في اعطاء التصميم روحا تنسجم مع مجلة اكاديمية اقتصادية موجه لنخبة من الاكاديمين وذوي الاختصاص في الشؤون النفطية والاقتصادية والمالية .

عندما التقيت منيف ومعي الماكيتات كان معنا جاسم المطير ، عرضت التصاميم ووضعتها على المنضدة امام منيف دون ان اتحدث وتركت له فرصة الاطلاع ، راح يقلب الماكيتات بهدوء ويتوقف عند بعض الصفحات دون ان يتحدث او يسأل ويعيد تصفح الماكيتات مرة اخرويتوقف عند البعض منها ، ثم نظر الي وقال بالحرف الواحد : هذه هي مجلة النفط والتنمية التي اريدها ان تكون ، قلت له الا توجد لديك ملاحظات يمكن ان تغني هذه الافكار ، قال ستأتي الملاحظات اثناء استكمال التحضير للعدد الاول من المجلة ، عندها قال جاسم المطير : اعتقد ان العمل الذي قدمه رياض يشجعنا على البدء بالتحضير للعدد الاول من المجلة                                          

بعد انتهاء الجلسة دعانا منيف لان نسهر عنده في البيت كانت تبدو على ملامحه علامات الفرح والسرور بما يعني انه قد حقق النجاح الاول لبداية مسيرة صحفية عنوانها النفط والتنمية .

انقطعت عن اللقاء بالدكتور منيف منتظرا منه اية اشارة للبدء في العمل من عدمه ، لم اسمع اي شيء من جاسم لانه هو الاخر لم يلتق الدكتور ، بعد اكثر من اسبوع اخبرني جاسم بان الدكتور  قد طلب لقاؤنا في مكتب المجلة ، اعتقدت ان هذا اللقاء سيحسم الامور سلبا او ايجابا ، تم اللقاء ، كان الدكتور كعادته منشرحا مبتسما هادئا ، ابتدأ الحديث بالقول : لقد حسمنا امرك يارياض ، واضاف تم قبولكبصفة المديرالفني للمجلة وانتهت السجالات مع ادارة الجريدة ، قلت له وماذا تعني بالسجالات دكتور ، قال هم ويقصد ادارة الجريدة يقولون انك لست بعثيا  وعليك شبهة شيوعية ، وقد رشحوا بعض مصممي الجريدةوقبلت الترشيح وطلبت منهم ان يقدموا ماكيتات ايضا حتى لا ابدو منحازا اليك ،  اعمالهم كانت عادية جدا وتقليدية ورفضتها ، عندها تحدثت بأسمك مصرا على ان تتولى انت المهمة ، وفيما يتعلق بالجانب السياسي فقد تعهدت ان تكون بمسؤوليتي وحسم الامر على ان اختيار الكادر من مسئوليتي كرئيس تحرير ، كان يتحدث بمنطق القوة والحزم وكأنه اراد ان يوصل رسالة مفادها انا من يقود العمل وصاحب القرار ولا اسمح بالتدخل مطلقا، وفعلا كان هكذا طيلة عمله كرئيس تحرير للمجلة .

كانت فترة اعداد العدد الاول عصيبة على منيف ، اذ انه راهن على كفائتي امام ادارة الجريدة وعلي ان احقق ارادته ، وكان على تماس يومي مباشر مع ما اعده من تصاميم .

استمر منيف بالتواصل اليومي معي ، كان يبدي ملاحظات ليست بمعنى تطوير التصميم او تحسين شكله ، وانما هي مجرد تساؤلات فيما اذا عملنا كذا وكذا هل يمكن ان نحسن التصميم ، كنت اقول له حسنا سأفكر بها ، لكن في النتيجة ابقي الشكل الذي اعتمدته ، فهو بصراحة كانت هذه تجربته الاولى في رئاسة تحرير مجلة ولم يكن له اي دراية في تفاصيل التصميم ، وربما هذه التجربة الصحفية الثانية له بعد ان عمل في مجلة البلاغ اللبنانية بصفة كاتب لا محرر . وماشدني لعبد الرحمن اثناء ابداء ملاحظاته هي تلك الرقة والشفافية والتواضع التي كانت تخلو من الاصرار على تنفيذ ماكان يراه او يعتقده .

خلال هذه الفترة اقتربت اكثر من منيف ، صرت قريبا جدا منه  ، وبدأنا نعمل معا كل يوم ، كان جديا ودقيقا في ملاحظاته وافكاره ، كنت المس منه صدق التعبير في المناقشة وروح الطموح في النجاح، وسلاسة التعامل لدرجة انني حفظت بعضا من جمله الانسانية في التعامل ، لقد اراد من خلال كل ذلك ان يحقق ما يرضي ضميره ونفسه وليس مباليا بالاخرين .

صدر العدد الاول نهاية عام 1975، وكانت فرحة منيف قد عززت فرحتي وفرحة جاسم المطير بهذا الانجاز الذي لم يكن ورائه فيلق من الملاكات انما جهد تحقق بكادر لايتعدى اصابع اليد .

بعد صدور العدد الاول من المجلة ، وردت للدكتور منيف العديد من برقيات التهنة والتبريك ، وانتشر بنحو سريع صدور المجلة ، بل وفاجأ الكثير من المهتمين بهذا الشأن ، لان لم يسبق صدورها اية اعلانات او اخبار ترويجية ، وهذا ما اثلج قلب منيف كونه قد حقق النجاح مع بداية العدد الاول ، ومن معرفتي بكينونته هو لم يكن بحاجة للنجاح ، لأنه ناجح في جوانب اكبر من النفط والتنمية ، لكنه اراد ان يضيف الى نجاحه الادبي والثقافي نجاحا اخرا تحدد في عمل صحفي متخصص في الاقتصاد السياسي والتنمية القطاعية , كنت غالبا ما استشعر منه خلال احاديثي معه انه كان يعاني من ان هناك من يعرفه على انه رجل اقتصاد وسياسة ، فكيف وقد اصبح ممتهنا للادب وكتابة الرواية ، لم اجبه على هذا التساؤل ، لكنني وضحت الامر لنفسي ، اذا كانت السياسة وهي مرتبطة بالاقتصاد قد خذلت الشعوب ، فيمكن للرواية ان تبرر سبب هذا الخذلان بحكبة روائية ذكية كما حصل لرجب في روايته ذائعة الصيت شرق المتوسط بعد ان يأس من الحياة وقرر مغادرة الوطن حين ادرك ان السياسة قد تكون اداة لقتله والاقتصاد صار اداة لفقره.

بمرور الوقت توطدت علاقتي بعبد الرحمن ، ، احسست ان هذه العلاقة بدأت تأخذ مسارا اخر يتعدى اطار العلاقة العملية الى علاقة صداقة عميقة ، ذلك ان الراحل عبد الرحمن شخصية جذابة فيها من المواصفات مايتمناه المرء ان يحصل ولو على جزء منها ، فهو انسان بسيط ومتواضع حكيم وحقيقي ، شفاف ومرح ، هذا عدا ثقافته الواسعة في كل الاتجاهات وعذوبة كلامه وسلاسة جمله التي يخاطب بها الاخرين ، لقد كان رجل يؤمن بالمبدأ ويعتنقه ، وصاحب موقف لايحيد عنه ، ويبقى الانسان محور قضيته .

كل ذلك قد ترك اثرا في نفسي وجب علي ان احترم هذا الانسان واقدر كل مافيه واتعلم منه قدر المستطاع ، ووجدت عنده اهتمام خاص بي من بين كل العاملين ، فغالبا ما كان يمر على غرفتي قبل ان يصعد الى مكتبه ، ونتناول فنجان من القهوة ، اذ يجري الحديث بالاضافة الى شؤون المجلة فهو يتحدث عن حياته وتجربته في عالم السياسة والاقتصاد وغالبا مايشير الى تجربته في مجلة البلاغ اللبنانية وعن معارفه في كل ارجاء الوطن العربي ، وتحتل مشاريع رواياته حيزا مهما من الحديثوغالبا ماكنا نكمل هذه الاحاديث في سهرات تتكرر في بيته ، حيث كان يسكن في الحي العربي وهي منطقة لاتبعد اكثر من ثلمائة متر عن المجلة ، احيانا نتمشى للبيت بعد انتهاء العمل مساءا دون الحاجة لركوب السيارة ، كان بيته صغيرا ومستأجرا يدفع ايجاره شهريا من راتبه وهو اشبه بالمشتمل وفيه حديقة صغيرة جدا ، وسرني ذات ليلة بأنه لايملك غرفة نوم في البيت بل جعل ( الهول ) مكانا للنوم على الارض ، لقد كان زاهد ويأبى ان يطلب او يتملق من اجل الحصول على المكاسب والمغانم بالرغم من ان لديه علاقات طيبة ومحترمة انذاك مع معظم اعضاء القيادتين القومية والقطرية وكبار المسؤولين في الدولة من دون اية ارتباطات حزبية او سياسية ، ثم انتقل بعد فترة من الزمن الى حي الجامعة في بيت اكثر سعة من السابق لم يستمر به طويلا ، وعرفت منه ايضا انه لايستلم اي امتيازات او مخصصات من الحكومة آنذاك سوى راتب بسيط وسيارة تويوتا مع سائق ، كان يعيش من خلال عائدات رواياته التي تطبعها المؤسسة العربيةللدراسات في بيروت ، اذ كان يتقاضا بين 13% و 15% من حجم المبيعات .

ذات يوم ، مر علي كعادته الى غرفتي واثناء تناوله لفنجان القهوة قال لي : ماهو رأيك ان نصدر مجموعة من الكتب ااضافة الى المجلة تتناول موضوعات اقتصادية مهمة اضافة الى كل مايتعلق بالنفط والتنمية ، قلت له فكرة ممتازة وخطوة كبيرة تمنح المجلة دعما معنويا واكاديميا وتوسع مجال شهرتها وانتشارها ، لكن علينا ان نخطط لألية وتنظيم هذا المشروعوتخصيص ميزانية له تشمل تغطية نفقات الطبع واجور الكتاب ، تم تكليف جاسم المطيربصياغة مشروع قانون للنشر وتحديد سقوف اجور الكتاب وتكليفي باعداد ميزانية مالية لتغطية نفقات الطبع ، وباشرنا بالمشروعفعلا وصدر اول كتاب تحت ترويسة ــ منشورات النفط والتنمية وتواصلت الاصدارات شهريا .

في احدى سهراتنا في بيت عبد الرحمن ، تحدثت السيدة سعاد ــ ام عزه ــ زوجة منيف وهي غالبا ما كانت تشاركنا الجلسات ، كانت سيدة راقية ومتواضعة ومثقفة بشكل ملفت للانتباه واعتقد كانت تحمل بكلوريوس فلسفة، فيها الكثير الكثير من صفات منيف ، اقول تحدثت عن بدايات عبد الرحمن في الولوج الي عالم الرواية، وذكرت “ان عبد الرحمن كان غالبا ما يختلي بنفسه ويجلس في مكتبه الصغير ويكتب بطريقة غير ممنهجة كما لو ان هناك قضية تشغله يحاول ان يجد لها حلا ، في كل مرة يترك مجموعة اوراق مبعثرة واحيانا قصاصات كثيرة على منضدته ، عندما كنت اقرأ ما كتبه اجد نفسي انني امام نصوص ادبية وفكرية عميقة لا علاقة لها بتخصصه الاقصادي،كل ورقة تحمل نصا يختلف كليا عن نصوص الاوراق الاخرى ، في حينها لم يحدثني عن هذه الكتابات ولم اسأله ماذا يعني ذلك ،استمرت هذه الحالة عدة شهور الى ان صارت عندي قناعة لكثرة ما قرأت مما كان يكتب بأن هذا الرجل موهوب في الكتابة الادبية وبالاخص كتابة الرواية لأن روح النصوص التي كان يكتبها هي قريبة جدا من روح النص الروائي ان لم تكن هي من مفردات رواية ما ، فتحمست لان اقول ذات جلسة انت كاتب روائي ياعبد الرحمن وعليك ان تبدأ من الان بكتابة الرواية لانني اشعر انك تمر بفترة مخاض واعتقد بل اجزم ان هذه الفترة قد انتهت ، وهكذا ابتدأ عبد الرحمن في الكتابة ” .

في ذلك الوقت كان منيف قد اصدر عدة روايات وحتى قبل مجيئه للعراق منها ، قصة حب مجوسية ، سباق المسافات الطويلة، النهايات ، حين تركنا الجسر، الاشجار واغتيال مرزوقواخيرا رائعته شرق المتوسط ، التي اثارت ضجة واسعة في العالم العربي وفي الوسط الثقافي وهي التي اكدت موهبته وقدرته الكبيرة في تقديمه كأحد واهم كتاب الرواية في العالم العربي ، كنت قد قرأت معظم هذه الروايات وبالاخص شرق المتوسط حيث اعدت قرائتها ثلاث مرات .

بعد فترة وجيزة فاتحته المؤسسة العربية للدراسات مقرها ببيروت ومؤسسها الدكتورعبد الوهاب الكيالي برغبتها في اعادة طبع كل رواياته لانها نفذت من المكتبات وهي مطلوبة باستمرار ، وافق منيف على الطلب مشترطا على المؤسسة بأنه سيكلف احد الاشخاص بتصميم اغلفة الروايات ، وكنت حينها انا الشخص المعني ، كان هذا التكليف بمثابة اختبار صعب وكبير علي وانا اقدم تصاميم لحوالي خمسة روايات لكاتب اصبح يعد من كبار الكتاب والمتميزين في هذا المجال ، بعد انتهاء العمل من التصميم وعرضه على منيف وبعد أن تأمل كل غلاف على حدة لبضعة دقائق قال لي :  وكأنني الان في حديقة من الافكار تذكرني بكل مفردات ونصوص الروايات .

انعطاف اخر مهم حصل خلال تلك الفترة ازدادت من خلاله شمولية معرفتي الفكرية والثقافية ، اذ بدأ مشروع روائي كبير مشترك بين عبد الرحمن منيف والراحل جبرا ابراهيم جبرا ، اتفق الاثنان على كتابة رواية مشتركة بينهما ، رسمت خارطة الرواية على اساس انيكتب منيف فصلا من الرواية ويعطيها لجبرا لقرائته ، ثم يكتب جبرا الفصل الاخر ويعطيه لمنيف لقرائته ،  وهكذا يستمر العمل في كتابة الرواية ، وسط نقاشات وملاحظلات كلا الطرفين واجراء التعديلات التي تخدم النص بما يظهر الرواية وكأنها كتبت من قبل شخص واحد .

المهم في ذلك كان منيف يدعوني بعض المرات لحضور جلسات النقاش بينه وبين جبرا ، لم اكن حينها متحدثا او متداخلا ، انما كنت مستمعا صاغيا لفكرة ربما لم يحققها احد من قبل ، كنت خلال تلك الجلسات اراقب طبيعة النقاش الذي كان يجري بكل شفافية وتواضع بعيدا عن التحيز او التمسك بالافكار ، كنت المس ايضا ان القناعة فيما يقوله الاثنان سمة غالبة على اية صفة اخرى ، وكان الانسجام والتداخل النفسي وتقبل الافكار سلبا ام ايجابا هي سمات طغت كليا على مشهد النقاشات والحوارات المتعلقة بالنص الروائي ،كان منيف في بعض الاحيان يسألني مازحا وملطفا للجو : مارأيك يارياض بهذه الجملة التي اعترض عليها ابو سدير ويقصد جبرا فأقول له اعتراض ابو سدير اكبر الف مرة مما سأقول وتنتهي هذه المزحة بضحكة عالية ومييزة من منيف .

بعد ان انجزت الرواية وحين احيلت للطبع كان منيف قد غادر العراق ولم احظى بتصميم غلافها ، صدرت فيما بعد بعنوان عالم بلا خرائط  .

توطدت صداقتي بمنيف، بل وتعمق انتمائي له ، فقد شكلت السنوات االسبع التي جمعتني به في عمل صحفي انعطافة كبيرة في مسيرة حياتي العملية والانسانية ، استلهمت منه خصوصيات تركت اثرا عميقا في سلوكي وعاداتي وطباعي ، ومما زاد من تقربي منه هو دعوته لي لان اكون حاضرا في معظم لقاءاته مع اصدقاء كثر من مختلف الدول العربية بما فيها العراق ، وغالبا مع تحتدم هذه اللقاءات في مواسم المهرجانات والندوات الفكرية والسياسية والادبية التي تعقد في بغداد ، وبالاخص مهرجان المربد والمهرجانات العالمية للفن التشكيلي ، حتى اصبحت بناية المجلة وكأنها مؤسسة شهيرة لابد ان يزورها كل من يقدم الى بغداد للقاء منيف والتحدث اليه ، من بين هذه اللقاءات اذكر لقاء الشاعر الكبير احمد عبد المعطي حجازي عندما كان يشارك في احد مهرجانات المربد حيث اجاب على سؤال منيف اليه حول رأيه بالمجلة قائلا : وهل استطيع ان اضيف لعمل وصل الى مرحلة الكمال ،وفعلا فهذه شهادة الجميع من خلال ماتردنا من ملاحظات واطراءات كثيرة من الكتاب والمعنيين بالشأن الاقتصادي والنفطي ، الامر الذي اوصل سمعة المجلة وشهرتها لأن تكون في مقدمة المجلات المشابهة في عموم الوطن العربي .

عند اندلاع الحرب العراقية الايرانية ، في عام 1980 تم استدعائي لخدمة الاحتياط  ، لحسن حظي ومن خلال العلاقات وتأثيرات منيف فقد جرى تسويقي لاحدى الوحدات العسكرية داخل بغداد ، كنت اداوم صباحا في تلك الوحدة وعصرا في المجلة ، لم يطرأ اي تغيير او تراجع في العمل ، كنا نتصور ان ماحصل هو مناوشات عسكرية في قاطعي سيف سعد وسربيل زهاب وستنتهي سريعا ، لكن وللامانة والتاريخ اقول مابدد هذا الاستنتاج قول منيف حين سألته حول هذا الموضوع : هذه ليست مناوشات يارياض ، انما هي حرب شرسة لاتستبعد ان تدوم لعشر سنوات قادمة ، واضاف قائلا انها الحرب الخطأ بين الناس الخطأ وفي الوقت الخطأ ، وكان فعلا ممتعضا ومتشائما من هذه الحرب وقللت في داخله حماسته وولعه بالمجلة دون ان يظهر ذلك او يصرح به لكنني ومن التصاقي به احسست ان امرا من هذا القبيل قد حصل عنده .

في خلال هذه الفترة بدأت بعض الازمات الصحية تنتاب منيف وبالاخص مرض السكري وارتفاع الضغط المتكرر ، الامر الذي اضطره لان يقلل المجيء للمجلة ، ويخلد للراحة في البيت ، كنت اذهب اليه في البيت مساءا ومعي كل تصاميم العدد لكي يطلع عليها ويوافق على النشر ، لكن اي حديث حول الحرب لم يكن يجري بيننا لانه لم يكن يرغب في التحدث حول هذا الموضوع ، ذات مساء وقبيل عام 1982 قال لي وملامح الحزن قد بانت على ملامحه : سأغادر العراق يارياض ، كانت هذه الجملة وكأنها قنبلة وقد انفجرت في جسدي واضاف : لم تعد صحتي تحتمل البقاء هنا فأنا بحاجة لرعاية صحية متواصلة ، وقد رتبت الامر مع الاخوان في القيادة لان اسافر لباريس ، وحصلت الموافقة .

بين حزني العميق لسماعي خبر رحيله ، وتوقعي بعدم الاستمرار بالعمل ، كان ثمة اختزال لزمن سبع سنوات انتجنا في بدايتها مجلة راقية هي النفط والتنمية وعشرات الكتب والملاحق التخصصة ، اقول هي تجربة ليست ككل التجارب ولانها وليد لايمكن تركه والابتعاد عنه ولابد من رعايته والمحافظة على نموه وديمومته ، فهي ولدت في احضان اناس امتهنوا الابداع والحرفية والتخصص كصفات للتميز وادمنوا القييم والمباديء كشرطين للحياة الحرة الكريمة .وبينما كنت مستغرقا في ذاتي قطع منيف هذا الصمت التأملي قائلا : سيارتي ستكون لك وستدفع لي فقط قيمتها في الوكالة بموجب الوصولات التي دونت فيها قيمتها الفعلية والسيارة هي نوع فولكس واكن كولف موديل 1975 استخدمها في الطريق من بيروت الى بغداد فقط ، واستطرد قائلا وهو يناولني علبة صغيرة ، هذا مسدس نوع سمثمسجل بأسمي مع الهوية اقدمه لك هدية لانني اثق بك في عدم استخدامه لاغراض عدوانيةفقد عرفتك انسانا مبدعا مسالما تحب الحياة وتسعى لان تكون ، ولدي ثقة كبيرة في انك ستكون .

كان هذا اخر لقاء لي مع الراحل الكبير عبد الرحمن منيف ، ودعته باكيا لانني فقدت انسانا كنت اتمنى ان استمر معه مدى الحياة .

كاتب وصحفي عراقي

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات