حاوره: مقداد مسعود
)خروج رأس الحسين من المدن الخائنة) هذا الديوان كان بداية التعارف بيننا الشاعر قاسم حداد وأنا طالب الرابع الإعدادي. ثم .. وثم.. جاءت نزهتي الشعرية في كتابه الأروع (طرفة بن الوردة) وحين انهيتُ قراءة (رأسك في مكان وجسدك في مكان) للروائي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، أهديت مقالتي عنها للشاعر والكاتب قاسم حدّاد .. الذي ألتقيته في مهرجان المربد الشعري قبل أربع سنوات وأمضيتُ معه اليوم الثاني من المهرجان وفي اليوم الثالث ودعني وسافر إلى بغداد ومنها عاد إلى البحرين. من يومها ونحن في تواصل ثقافي بين الحين والآخر .. وهذا الحوار كان الثمرة الدانية
م : كم هي نسبة مسؤولية الشاعر في التعامل مع اللغة؟
ق : لا أحب إطلاق الأحكام على الأشخاص عموما.. أميل إلى الكلام عن القضايا الشعرية التي تتصل بالتجارب وبالرؤى الشعرية خصوصا. أجد في هذا أفقا أكثر رحابة يتيح لي ملامسة الجوهر الأهم في الكتابة.
م/ في الآونة الأخيرة استيقظ المثقف العربي متأخرا وهو يلهج كاتبا عن (الهوية) وتزاحمت كتب الهوية في المكتبات ومواقع النت الثقافية.. كيف ينظر ويتعامل الشاعر والكاتب قاسم حداد مع هذا المفهوم؟
ق: هوية الإنسان حريته. كانت وماتزال خاصية التنوع الإنساني في هذه المنطقة واحدة من مكونات مجتمعاتها. وكان بإمكان التطور الطبيعي حضاريا، أن يتيح لهذه الخاصية أن تتبلور في صالح السياق الاجتماعي
م/ كل الحكومات العربية تلهج بفراديس الديمقراطية، والمتعارف عليه الديمقراطية علائق بين طرفين، إذن :.مَن يخدم من في هذا السياق؟
ق/ مَن يستطيع الجزم، بلا قلق، أن الحكومات العربية التي تزعم الديمقراطية، وتطرح صوتها العالي، على العالم بهذا الزعم، هي فعلا موظفة لدى شعبها وليس العكس؟ منذ أكثر من مائتي عام/ قبل أن تتبدى الثورات العربية، كان (فولتير) قد أطلق كلمته الدالة : (إنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لما تقول) لكأن هذه الجملة هي الاختزال الأبلغ لجوهر الممارسة الديمقراطية الحضارية التي استحقتها شعوب كثيرة قبلنا، فيما تصوغ حياتها القائمة على حق الحريات المدنية وتحميها المؤسسة الحكومية، بوصفها موظفة لدى الشعب.
م/ ننتقل لفضاءٍ أنت من المجذوبين إليهم . أعني السيدة المبجلة القصيدة العربية. سؤالي كالتالي هل أنت تكتب كما تحب ُ أن تعيش ؟
ق/ هذا الطموح بمثابة الترف الفني .. والأمر ليس يسيراً، ولا متاحاً ربما يكون السبب أن ليل النص حلم كثيف من الكائنات والعناصر وربما كان ليلاً أكثر حضوراً من نهارات المحو.في النص تحمل قنديلا تقود به سرباً من الفراشات، نحو هاوية النيران زاعماً أنها نافذة العتمة
م/ شعريا بماذا يحلم الشاعر قاسم حداد..؟
ق/ أحلم ُ بالفعل أن أكون شخصاً مختلفا ً في كل مرة، ليتاح للقارئ تخيل أن من كتب(قلب الحب) شخص يختلف عن كاتب (الدم الثاني) أو النهروان.. هذا ما يلّذ لي أن أقترحه على القارئ.
م/ ثمة مشكلات تعترض الإبداع العربي. وأنت كشاعر وكاتب لديك خبرات غزيرة في حقليّ الكتابة كيف تتعامل بهذا الخصوص ؟
ق/ أعتقد أن المشكلة المعرفية، على صعيد الثقافة والنقد الأدبي العربيين، تتمثل في أن النظرة المهيمنة لا ترى إلى الكتابة الإبداعية باعتبارها فن ّ الشكل، ولكن فنّ المضمون. ثمة مفاهيم تكرّست طوال الوقت، تشي باحتقار شديد، أو إغفال تام، للشكل في الكتابة العربية. الأمر الذي يجعل معظم منظورات النقد الأدبي أحكاما تدرُ وتقول عن خارج، مأسورة بالمضمون لا تزال، ليبقى النص وحيداً في غربته. تُرى، ما الذي يميّز شاعراً عن آخر، إذا كتباً في مضمون واحد؟
م/ لنقترب أكثر.. كيف كانت تجربتك الشخصية مع هذا المثنوي التقني : الشكل والمضمون؟
ق/ منذ وعيتُ انحيازي للكتابة الشعرية، جابهت ضغوطا تفرضها المفاهيم السائدة التي تضع المضمون في المقام الأول عند الحكم على القصيدة. حتى عندما يجري الكلام عن طريقة قول هذا المضمون، وهو ما يتصل بالشكل، فإنه يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، وباستهانة لا تليق بالإبداع.. بعد صدور كتابي الأول (البشارة) بدأت لدي مشاعر عميقة، بأن مبرر كتابتي للشعر هو أن أسعى إلى اكتشاف قول التجربة بشكل جميل، وأن أحاول قول ما أريد بشكل جديد في كل مرة، أي أن أقول شكلا جديداً وليس موضوعا جديداً
م/ من خلال تنوع كتاباتك وتجربتك الوطنية : يا تُرى الفرد؟ أو الجماعة : له المؤثرية الرئيسة في صناعة التاريخ ؟
ق/ التاريخ، حتى عندما يسهم في صناعته الأفراد، ليس ملكا شخصيا لأحد، لكنه مسؤولية حضارية للجميع
م/ أنت من جيل ثقافي عاصر تحولات ثقافية ونكوصات عامة ما هو خطابك للجيل الراهن ؟
ق/ نصادف من يرجع عن سياق التجديد الذي سبق أن أعلن عنه، ليس في الحياة وحسب، إنما في النص، وهي رجعة لا نستغربها، لكننا نشهق مع الجيل الذي يأتي مشحوناً بالأحلام، مفجوعا بمن أعلن المستقبل ثم سرعان ما استراح في سقيفة الماضي. نشهق مع جيل يأتي إلينا بلهفة المستغيث فيجد القدح مشحونا بالرمل. كلما تفاقم التقهقر نحو الأسلاف، تضاعفت ضرورة نقض القواعد من الأساس، من الجذور، من لحظة النص الأول وبلا هوادة. كل حركة للرجوع عن حيوية المستقبل الماثل، هي بمثابة التكريس الفجّ للقعود عن ورشة الاحلام. غير أن هذا ليس المشهد كله… نقول للجيل الجديد.
م/ فعل القراءة وحده من يوقظ القصائد من نومتها بين دفتيّ كتاب. كيف ينظر الشاعر قاسم حداد إلى القارئ؟
ق/ كل قارئ هو مشروع ناقد، وفي القارئ تستطيع أن تعرف، هل استمر َ الشعرُ هنا أم توقف. من هذه الشرفة تلمس الإمكانية المتوفرة لدى القارئ ليصير مشروعا نقدياً وأحيانا يحدث هذا من حيث لا يدري. وعندي فإن أفضل النقد هو الذي يأتي من حيث لا يدري القارئ. فالحساسية الشعرية أمرٌ لا يمكن تفسيره. ولكن يمكن اكتشافه أحيانا كثيرة. وهنا كشاعر أكون أمام القارئ باعتباره صوتا شرساً يشترك في الحوار ويطرح أسئلته الجوهرية المشروعة . القارئ : ناقد شعبي عفوي وهنا تكمن خطورة الأمر.
م/ المفكر والمناضل محمود أمين العالم له تجربة شعرية في السجون المصرية القرن الماضي (قراءة لجدران زنزانة) ديوان شعري صدر عن وزارة الإعلام العراقية في 1972 وقد شخّص الناقد محمد النويهي قصائد محمود أمين العالم (لا تجنس ضمن الشعر الجديد الذي هو انتقال من الايقاع الكمي في عمود الشعر الى الإيقاع النبري، بل هي انتقال إلى إيقاع الموجة)
قاسم حداد الشاعر والسياسي تم اعتقاله صيف 1975 وطالب الحزب الشيوعي العراقي بإطلاق سراحك ونشر صورتك والتعريف بك في صحيفة (طريق الشعب) ماهي انعكاسات هذه التجربة المريرة على قصائد قاسم حداد؟
ق/ تجربتي الشعرية في السجن تمثل تجربة فنية شبه متكاملة. بما أفرزته من إنتاج شعري. كون هذه الفترة – التجربة قد تميزت بدرجة من الاختلاف في الملامح الخاصة والمغايرة للمراحل الفنية السابقة، بغض النظر عن كون هذا الاختلاف سلبا أو إيجاباً. كون هذه التجربة – القصائد- جعلت العديد من الأسئلة تطرح بأشكال مختلفة ومتفاوتة من قبل الأصدقاء في السجن وخارجه. في قصيدة. لا يسعني إلا ّ أن أعلن : إذا كانت هذه التجربة جديدة بالنسبة للقارئ مرة واحدة. فإنها جديدة بالنسبة لي كثيراً.
م/ كيف عالجت جفاف الشعر لديك في شتاء 1975؟
ق/ انتهاء الشتاء بدون أن أكتب شيئا مهما، جعلني ألجأ إلى الاحتراق الداخلي على أمل أن يؤدي هذا الاحتراق الداخلي إلى تحرك إلى الأمام وامتدت المرحلة ستة أشهر، حيث بدأت ُ في محاولة كتابة قصة قصيرة، فوجدت نفسي أنجز شيئا جديدا بالنسبة لي. ليست قصة قصيرة، ليست قصيدة، ولا هو مسرح، لكن كل هذه الأشياء في نص مبتكر، لم استطع تسميته ألا (مشروع رواية) تلك التجربة الفنية المفاجأة – بالنسبة لي – أوقعتني في مأزق خطر لم أكن أتوقعه. فإذا كانت – الرواية – تجربة تعبيرية ناجحة، من حيث هي أسلوب جديد بالنسبة لي، فإنها في ذات الوقت زادتني رعباً، خشية تسرب ماء من بين أصابعي نهائيا
م / كيف تعاملك من الخطوة الروائية الطارئة والجديدة نوعا ما اجناسيا؟
ق/ داهمني شعورٌ غامض ٌ كما لو كانت – الرواية – هي العزف الجنائزي على قدرتي الشعرية. وخيل لي في وقت من الأوقات أنني أقف أمام مفترق طرق.
م/ هل تتذكر كم هي الفترة التي هجرتك القصيدة؟
ق/ فترة الانقطاع عن كتابة الشعر تكون قد امتدت من مارس 75 حتى مارس 77
م/ متى استقبلتك القصيدة ؟
ق/ الشعر يأتي في الوقت المناسب، من وجهة نظر الشعر وليس الشاعر
يبدو أن ظلام إحدى ليالي مارس الباردة، كانت وقتاً مناسباً من وجهة نظر الشعر، وفي الزنزانة الخشبية – المترين في المتر – اتسعت الأرجاء في ذلك الليل الضيق. وجاء إيقاع القصيدة هادئا كالخروج من حلم والدخول في حلم.
م/ .. وكيف كان شعور الشاعر السجين قاسم حداد؟
ق/ في داخلي فرحت ُ بولادة القصيدة، كما عصفور ينجح في العبور من غصن إلى آخر في الشجرة للمرة الأولى.
م/ ثمة مشاهد في حياتنا شمسها لا تأفل. ما المشهد الذي يحضرك بين الحين والآخر ..؟
ق/ في أحد أيام ستينيات القرن الماضي، فجأة حضرت السيدة السمراء في (المحرق) بزنديها الحانيتين وتصدت لجموع الطلبة المحتشدين أمام المدرسة، يحاولون اقتحام البوابة لإخراج الطالبات كي يشاركن في التظاهر.. يتزاحم الطلبة، بشعاراتهم المهتاجة، ضاغطين بالمناكب لفتح البوابة. غير أن السيدة ذات الهمة الواثقة، تصرخ فيهم أن يكفّوا عن ذلك، وأنها لن تسمح لهم أن يأخذوا بنات الناس إلى شوارع الفوضى العارمة .. سيذكر الكثيرون هذه اللحظة تلك المرأة. ستحضر عندهم مثلي، حيث أرى الآن ملامحها الغاضبة، جسدها المتوتر بالذود عن فتيات بقين هناك في ساحة المدرسة، مشتتات الذهن بين التوق لانفلات الفتية الغامض والمشاعر الجياشة بأن ثمة سيدة يعرفنها جيدا، هي في هذه اللحظة بالذات أمهم جميعا، أمهم الوحيدة التي لن تفرّط في حمايتهن من شارعٍ بلا قياد، بوابة المدرسة هي النموذج الباهر لعرين تحميه امرأة واحدة، كي تحفظ جيلا غضاً من الكائنات المحروسة، في سبيل أن تختار طريقة خروجها بنفسها.