18 ديسمبر، 2024 10:43 م

العمق.. أم الفاعلية؟!

العمق.. أم الفاعلية؟!

منذ زمن بعيد، وسؤال النهضة والاستئناف بعد يشغل بال الكثير من المفكرين والفلاسفة الذين يقدمون بين الحين والآخر قراءتهم للأحداث، وتوقعاتهم للمستقبل، وقبلها تعليل التراجع والتدهور، مما يظل دون شك مدار حديث واهتمام.

ولعل احدى الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع، والتي تمنح المرء قدرة اكبر على التبّصر بالأمور ودراسة الواقع وتقديم خطوات العلاج بشكل أكثر إمكانية على النجاح، هو تحديد مرتكز النهضة، وأساس التقدم مما سواه.

§ فهل العبرة بالعمق الحضاري أم الفاعلية الراهنة؟

§ وهل يمكن جعل القدم الزمني بوابة النهوض المنشود؟

§ وكيف تتم المواءمة بين الطرفين، وبما لا يجعل هناك فرصة لتغلب طرف على آخر؟

وابتداءً يجب القول، ان العمق الحضاري الممتد عبر آلاف السنين مهم جداً دون شك، ولا يمكن اغفاله او تجاوزه، لأنه بشكل من الأشكال متجذر فينّا نفساً وروحاً وجسداً وعقلاً، بل ان شخصياتنا التي نظهر بها اليوم مرتبطة إلى حدٍ بعيد بالجذر الذي وجدنا من خلاله، والبيئة التي نشأنا فيها، دون اغفال المتغيرات التي تظل تحاول الوصول إلى جوهر الأشياء ولكنها لا تقوى إلا على تغيير بعض المظاهر.

ودراسة الأمم والمجتمعات والحضارات مرتبط بالجذور والجوهر والمضمون لا الظاهر والشكل الخارجي، والنتاجات الفكرية التي تتناول تطور المجتمعات وتحديد شخصياتها واضحة في ذلك أشد الوضوح.

ولكن في نفس الوقت، لا يمكن النظر إلى هذا العمق بانه صك الغفران للبقاء في الساحة الحضارية، ولا سيما مع اشتداد وتطور حالة الصراع والتدافع بين مختلف الاتجاهات، فلا يمكن للدولة المتأخرة فعلياً عن ركب الآخرين ان تبقى طيلة عمرها ممتلئة بالفخر وعدم الاعتراف بالواقع لأنها عرفت الكتابة قبل آلاف السنين، او انها سبقت الآخرين بالشرائع والقوانين.. الخ.

فما قيمة ذلك وشعبها تتفشى فيه الأمية، وتغتال فيه القوانين، وتباد كل أثر للحضارة بمعناها الشامل؟! وما قيمة هذا العمق ازاء تقدم الآخرين، ونجاحهم في تحويل ما لديهم من موارد إلى نقاط وعوامل قوة، وتوظيف ما أمكن جمعه من سنوات الامتداد في جذور الأرض مهما كانت قليلة لجعله وسيلة للنهوض والاستمرارية؟!

ان الفاعلية الحضارية هي الأهم، والتواجد الايجابي هو الأصل، والساحة الفاعلة لن تفسح المجال إلا لمن ينجز ويقدر على المواصلة، لا الذي يقول كنّا وكانوا وحققنا وانجزنا قديماً!!

وسؤال النهضة المنشودة إنما يمنح القدرة على تحليل الواقع، واستثمار الماضي كما ينبغي، فلا يكون قصيدة فخر فارغة، ولا ركناً يهرب إليه الخائفون من المواجهة، والاجابة على السؤال تقتضي جمع كل تلك المعطيات المتوفرة وتحويلها إلى نقاط قوة وجذب وتوظيف، وصولاً إلى جعلها كلها اضافة نوعية في طريق الاستئناف من جديد بعد عقود التراجع والاخفاق من جديد.

عمقك الحضاري إذن هو أساس، وتاريخك مدرستك لتحسين الحاضر والولوج إلى المستقبل، وفاعليتك هي عنوان وجودك في هذا الزمان.