تتنوّع الصراعات النفسيّة التي يُصارعها الإنسان في مسيرة حياته على هذا الكوكب، وهذه الصراعات قد تكون إيجابيّة، أو سلبيّة، أما الإيجابيّة فهي، دائما، ما تكون مُنتجة وبنّاءة، وأمّا السلبيّة فهي، عادة، ما تكون مُخرّبة وهدّامة.
والصراعات الإنسانيّة، النفسيّة والفكريّة، الإيجابيّة والسلبيّة، نتاج طبيعيّ لبيئة الإنسان ولذلك فإنّ البيئة الصحّيّة المليئة بالسلام والنظام تُنتج أفكاراً وتوافقات إيجابيّة، والبيئة السقيمة المليئة بالإرهاب والفوضى تُفضي لأفكار ونزاعات سلبيّة.
وكافّة التفاهمات الإيجابيّة تدعم الإنسان ليكون عضوا مُنتجا وفاعلا في حركة المجتمع وعِمارة الأرض، وبالمقابل فإنّ المُصادمات السلبيّة بكافّة أشكالها تُؤثّر على الصحّة الفكريّة والجسديّة للإنسان، وربّما، يَقع الملل على قائمة التحدّيات السلبيّة المُحطّمة للإنتاج الإنسانيّ، والباعثة للسأم، والتيه.
وتُعدّ السياسات المُتنافرة والهدّامة من الأسباب الكبرى لدعم النزاعات السلبيّة وهذا ما يُعاني منه ملايين العراقيّين منذ تسعينيّات القرن الماضي وحتّى اليوم!
ويُعاني عموم المجتمع العراقيّ من السآمة والملل الفكريّ والإنسانيّ وهو مِن أهمّ مُخلّفات السياسات المُتناحرة والحروب والتهجير والفوضى القانونيّة ولهذا نجد تناقضات وحكايات مأساويّة قد تنتهي بالهروب من الحياة (الانتحار) حيث سجّل العراق خلال العام 2022 أكثر من (750) حالة، أو قد تُحسم بالطلاق وبالذات مع تسجيل (73) ألف حالة طلاق خلال العام 2022، وأخيرا ربّما تدفع الملابسات العامّة بعض العراقيّين للتفكير الجادّ بالهجرة للخارج، ولا أحد يَعرف أعدادهم الدقيقة خارج العراق؟
والملل سرّ قاتل يُذيب القوى الفكريّة والعقليّة والجسديّة للإنسان في أوقات الفراغ، وعدم الانشغال بالنافع والمُفيد، ويؤكّد أطباء علم النفس أنّ استمرار الملل طويلًا أو حدوثه تكرارا قد يكون علامة على الإصابة بمرض الاكتئاب.
والملل ليس داءً مُستفحلاً لا يُمكن علاجه وإنّما هو نتيجة متوقّعة للسياسات الفوضويّة، والمُخطّطات الساعية لتخريب نظام حياة الإنسان والمجتمع، وبالنتيجة يقع الإنسان ضحيّة للأمراض النفسيّة والسآمة.
وهنالك عدّة عوامل ساحقة للإنسان نتيجة للسياسات السقيمة ومنها الفقر والتهجير والمخدّرات والاستخدام السيّئ لمواقع التواصل الاجتماعيّ وغياب الرقابة الأسريّة!
وأعلنت مستشفى ابن رشد للطبّ النفسيّ ببغداد أنّها استقبلت خلال العام 2022 أكثر من (31000) مراجعاً!
وسبق لمنظّمة الصحّة العالميّة أن أكّدت قبل سنوات بأنّ هنالك في العراق ما لا يقلّ عن ستّة ملايين عراقيّ مِمَن يُعانون من أمراض واضطرابات نفسيّة جرّاء الصراعات والحروب ومشاهد العنف اليوميّة، وأنّ عراقيّا واحدا من كلّ أربعة يُعاني من هشاشة نفسيّة!
ويفتقر هذا الواقع المرير للمعالجات الحكوميّة الفاعلة وبالذات مع وجود مستشفى واحد فقط للتعامل مع المشاكل النفسيّة، وهو مستشفى الرشاد، وغالبا ما يكون للمرضى المُصابين باضطرابات عقليّة، وغالبيّة المرضى وذويهم يتردّدون ويخجلون من مراجعته لأنّ المجتمع سيتّهمهم بالجنون!
وقد تابعت تقريرا لقناة عراقية مع بعض مرضى مستشفى الرشاد، واستمعت لحالات يشيب منها الولدان، ولا يُمكن حتّى استيعابها، وصدق مَن وصف المستشفى بأنّه (مقبرة المرضى)!
ولا أحد يعرف، بمَن فيهم وزارة الصحّة، كم هي أعداد المرضى النفسيّين العراقيّين اليوم؟
وقد حاولتُ مِرَارا الوقوف على إحصائيات رسميّة حديثة لأعداد المرضى النفسيّين إلا أنّني لم أجد أيّ إحصائية تُبيّن أعدادهم الدقيقة أو التقريبيّة!
فأين دور الحكومات المتعاقبة أمام هذه المآسي المتداخلة؟
إنّ السياسات العليلة المقصودة كانت من الآفات الساحقة لملايين المواطنين، ويُفترض أن نلمس دورا حكوميّا فاعلا عبر تأمين الرعاية الصحّيّة والنفسيّة للعاجزين والمرضى النفسيّين، وترتيب خطة وطنية للمعالجة ومن ضمنها تفعيل دور الإعلام والأوقاف الدينيّة لنشر البرامج والأفكار والكتب الداعمة للتربية النفسيّة والفكريّة في قلوب وعقول ونفوس المواطنين، وتوفير فرص عمل لملايين العاطلين والفقراء، وربّما يُمكن تنظيم دورات تثقيفيّة للمواطنين الراغبين بتلقّي مفاهيم التعايش مع الآفات النفسيّة والفكريّة والملل المُهلك!
يفترض بالمجتمع ألا يستسلم لمرارة الواقع، وينبغي التكاتف المجتمعيّ، في ظلّ التراخي الرسميّ، والانتباه للسياسات والأفكار الهدّامة القاتلة للوطن والناس، وتطوير الصحّة النفسيّة، الفرديّة والمجتمعيّة.
إنّ المحاولات الخبيثة لمعالجة التأزّم النفسيّ والمجتمعيّ بالمخدّرات داخل بعض السجون والأحياء الفقيرة سيُزيد التراكمات والتعقيدات والتداعيات الخطيرة لهذه الآفات على المجتمع العراقيّ!
وأمام هذا الواقع المُخيف يَتوجّب على العائلة (المجتمع) توظيف وشائجه الإيمانيّة والإنسانيّة للصمود بوجه التحدّيات النفسيّة والمادّيّة القاسية المرافقة لتداعيات الأمراض النفسيّة وذلك بالتزامن مع المبادرات الإيمانيّة، والإعلاميّة لتثقيف المواطنين بضرورة تلاحمهم وتعاضدهم لمساندة المرضى النفسيّين ماديّا ومعنويّا.
هذه المبادرات وغيرها يُمكن أن تُساعد في محاربة الملل والخلل النفسيّ، والأهمّ منها جميعاً هي الرضا والقناعة الإيجابيّة بالواقع دون خنوع، أو تمييع للمبادئ، واليقين بضرورة دوام العمل الهادف للتغيير.
إنّ كفاح الإنسان العراقيّ لإعمار الأرض لا ينقطع؛ ولذلك تُحاول قوى الشرّ، القريبة والبعيدة، إحباط العزيمة الشعبيّة والرغبة الصادقة في التغيير والبناء، ولهذا ينبغي عدم الاستسلام للواقع والمضيّ في سبل الحياة المتنوّعة التي تقود في نهاية المطاف إلى إعمار الوطن وحمايته وزراعة الأمل والعمل والأمان في ربوعه وبين أهله، وهي مِن أهمّ النعم التي لا يَشعر بقيمتها إلا مَن فقدها!
dr_jasemj67@
نقلا عن صحيفة عربي 21