تتداول المنظومة السياسية في العراق أمراً بات لايَشغلُها غيره وكأنها كانت غائبة عن الوعي حين كان يحدث ذلك الحدث وتحديداً في زنازين المنطقة الخضراء القريبة من مكاتبهم وقصورهم الفارهة.
بات لايَشغل السياسيين إلّا الحديث عن جرائم رموز السُلطة في الحكومة السابقة لِمصطفى الكاظمي بعد أن كشف تقرير لِصحيفة واشنطن بوست عن جرائم لُجنة مُكافحة الفساد الحكومية التي كان يرأسها الفريق أحمد أبو رغيف الذي إشتهر في العراق بإسم (الزائر الليلي) حين تم تشكيل هذه اللُجنة من قِبل رئيس الحكومة السابق الكاظمي.
تصاعد الحديث في العَلن مُؤخراً عن تلك الجرائم والإتّهامات التي مارستها تلك اللُجنة خلف الزنازين المُغلقة من جرائم التعذيب والعُنف الجسدي والصعق الكهربائي لإنتزاع إعترافات من كبار مسؤولين عراقيين ورجال أعمال.
لم يكتشف ساستنا بشاعة هذه الجرائم إلّا بعد أن رُفِعَ الغِطاء الأمريكي عنها، وكأنهم إستيقظوا من التنويم المُغناطيسي الذي كانوا يَغطّون فيه، ربما لايُريدون الإعتراف بحقيقة تتكرر فُصولها عند تولّي أي رئيس وزراء من السابقين وحتى اللاحقين أن تكون من أولويات عمله عند تسلّمه السُلطة جمع المعلومات عن الصديق قبل العدو، لذلك يسكُت ويتغاضى الجميع عن جرائم الجميع، وصَدقتْ مقولة نوري السعيد رئيس الوزراء في العهد الملكي عندما قال “العراقيون مثل الملح الفَوّار، يفور في بادئ الأمر فقط ثم يهدأ” في وصف حال الأمة التي تغضب وتثور وتتوعّد ثم تهدأ وكأن شيئاً لم يحدث.
توالى التنديد والإستنكار وأصبحت قضية رأي عام وضرورة مُعاقبة الجُناة وهم مُتأكدون في بواطِنهم أن هؤلاء ينظرون إليهم نظرة المُستهزئ الساخر الذي يعيش مُتنعّماً بِما إستطاع الإنقضاض عليه خارج الحدود لأنه يُدرك أن هذه الزوبعة سَتَمر وتُمحى ذِكراها من ذاكرة الشعب التي أتعبتها الأحداث لِتحل محلّها كارثة أو مُصيبة أخرى.
بعض السياسيين بدأوا الصُراخ في الفضائيات العراقية بِضرورة مُحاكمة رأس الحكومة السابق ورموز حكومته على جرائمهم، وكأنهم غافلون أو مُتغافلون أنَّ الإنتخابات القادمة سيشترك بها جميع هؤلاء وغيرهم.
يتغاضى هؤلاء عن حقيقة أن الذي يتّهمونه ويُشيرون له بأصابع الجرائم سيكون من أول المُرشّحين للإنتخابات القادمة ويتنافس معهم ويفوز بِبضِعة مقاعد في البرلمان وسيدخُل إلى نِظامهم السياسي من الشُبّاك بعد أن خرج من الباب.
عالم السيرك الذي يتقافز على حِباله هؤلاء الساسة لايحسب المرء إن كانوا يضحكون به على أنفسهم أم الشعب الذي يُشاهد حركاتهم البهلوانية وهو يعلم أنها مُجرّد خُدع بصرية لأنه إعتاد أن يرى صور زعامات الفساد وأعتى المُجرمين تتوسّدها الشوارع وأعمدة الكهرباء.
سَيدخُل هؤلاء ومَن سبقهم واللاحقين ماراثون الإنتخابات شاء من شاء حتى ولو كانت جرائمهم إبادة الشعب بِرُمّته.
تتداول المنظومة السياسية في خبرها العاجل جرائم الحكومة السابقة التي كشفت عنها تقارير أمريكية وكأنّهم كانوا ينتظرون الضوء الأخضر الأمريكي ليبدأوا الهجوم.
هي حكاية من حكايات العراق التي تُمارِس دورة حياتها في عقول الشعب، حكاية بعد أُخرى تبدأ فصولها مِن حيث إنتهت الأُخرى، والمُصيبة أنّ العراقيين يعلمون أن سَفسَطة الحديث عن الفساد والجرائم ماهو إلا هُراء لإقناع الأغبياء والسُذّج الذين يعتقدون بِنزاهة النظام السياسي وسُلطته، لكن المُفاجأة حين يَرون قوائم الإنتخابات وقد ضَمّتْ جميع أسماء اللصوص والسُرّاق وحتى القتلة، وتلك هي حِكاية المشهد السياسي في العراق.