22 نوفمبر، 2024 3:29 م
Search
Close this search box.

صفحات من ذاكرة الجيش العراقي

صفحات من ذاكرة الجيش العراقي

في كل عام يحتفل العراق والعراقيون بذكرى تأسيس جيشهم الوطني العظيم، الذي تأسس في السادس من كانون الثاني عام 1921. وخلال قرن من عمره المديد جرت فيه من الأحداث ما لم يمر به أي جيش في العالم من حروب ومعارك وبطولات وانقلابات عسكرية وانتكاسات ومشاركات قتالية داخل وخارج العراق. وكان لي الشرف أن أكون أحد منتسبي ذلك الجيش الباسل خلال حقبة مهمّة من تاريخه.
انبثقت فكرة الاحتفال بعيد الجيش العراقي عام 1946، عندما أمر رئيس أركان الجيش آنذاك الفريق أول الركن صالح صائب الجبوري أن يُحتَفى باليوبيل الفضي للجيش، بعد انقضاء ربع قرن على تأسيسه، واُتخذت إجراءات متعدّدة وفعاليات كثيرة بهذه المناسبة، شارك فيها سياسيون وأدباء وكتّاب، وأقامت النوادي العسكرية وتشكيلات الجيش في المدن والألوية (المحافظات) العراقية احتفالات مماثلة، وبدا واضحاً للجميع مدى التفاعل الإيجابي والمتبادل بين الشعب والجيش، وسمّي ذلك اليوم بـ (يوم الجيش)، وأُلقيَّ خطابًا عامًا وطويلًا من دار الإذاعة إلى الشعب بهذه المناسبة، جاء في مقدمته:
(… اليوم من أيام الشعب العراقي الغرّاء، ويجب علينا أن نذكره بحفاوة وإجلال، إذا ما تذكّرنا بأن الجيش للأمة الفتية الناهضة هو عمادها، ودعامة عزّها، ورمز مجدها، ومرتكز كيانها …) *
ومنذ ذلك اليوم عُدَّ السادس من كانون الثاني من كل عام عيدًا وطنيًا للجيش العراقي وعطلة رسمية في كافة أنحاء البلاد.
وعليه فأن عيد الجيش هو العيد الوطني الوحيد في العراق الذي استمر الاحتفال به بلا انقطاع أو إلغاء أو إهمال منذ إقراره رسميًا في ذلك التأريخ وإلى يومنا هذا، على الرغم من تغيّر الأنظمة الحاكمة والحكام والحكومات، ما يُعَدّ مؤشّرًا واضحًا ورسالة ناصعة بأن الجيش العراقي هو مؤسسة وطنية شاملة، يحق لكل أبناء الوطن من شماله إلى جنوبه الانتساب إليه، ليضم بين صفوفه شرائح المجتمع المختلفة من طوائف وأديان وألوان، بل حتى كان من بين أفراده أشقاء عرب تولّوا مناصب ومواقع مهمة، وأصبح هذا الجيش رمزًا بارزًا من رموز الوحدة والسيادة الوطنية العراقية وفخرًا لكل العرب.
جميع المؤسسات الحكومية الرسمية وشبه الرسمية تُعطّل في ذلك اليوم الأغرّ، أما منتسبو الجيش فيستمرون بالعمل بكل فئاتهم كأي يوم من أيام السنة ولأسباب بديهية، لكنهم يحتفلون فيما بينهم داخل أسوار ثكناتهم بتبادل التهاني بين الرئيس والمرؤوسين وبقية المراتب وتُلقى الخطب الوطنية والاستذكاريه بهذه المناسبة، وتقدّم لهم الحلويات والعصائر وتوزع الهدايا على المتميزين منهم ويكرّم عوائل الشهداء.
الرائد (محي الدين عمر 1882-1952) والمولود في بغداد، هو أول ضابط يلتحق ويُنشر بصحيفة الجيش العراقي، من خلال انتسابه لصنف الخيّالة في بداية شهر كانون الثاني عام 1921، بأمر من وزير الدفاع الفريق جعفر العسكري.
البوابة الرئيسة لمبنى وزارة الدفاع القديم في الباب المعظم من مدينة بغداد، هو رمز حصين لهذه المؤسسة، وتحفة معمارية هندسية، أمر بإنشائها عام 1936، الفريق بكر صدقي، رئيس أركان الجيش آنذاك، وهي نسخة مشابهة إلى حدٍّ ما في بنائها وهندستها لبوابة وزارة الدفاع التركية. ومازالت البوابة قائمة إلى اليوم بكامل هيكلها وتفاصيلها.
الجيش العراقي هو ثاني جيش وطني تأسس في الوطن العربي بعد الجيش المصري. لكنه اتسم بعد سنوات من تشكيله، بنَزَعاته الانقلابية ضد نظام حكمه وحكّامه، فكان انقلاب بكر صدقي سنة 1936، أول انقلاب عسكري في العراق والوطن العربي والمنطقة، ثمَّ أعقبها أربعة انقلابات أخرى ناجحة وفي أزمان متباينة، وجميع هذه الانقلابات كانت نتائجها دموية شرسة وخسائرها بشرية مؤسفة ومادية فادحة، باستثناء انقلاب 1968، الذي سمّي في حينه بـ (الثورة البيضاء أو الانقلاب الأبيض).
تُعدّ الكلية العسكرية العراقية التي تأسست سنة 1924، من أعرق الكليات في الوطن العربي وأشهرها، وتُكنّى بـ (مصنع الأبطال)، وبلغ عدد الدورات التي تخرّجت من هذه الكلية لغاية عام 2022 (111) دورة.
في مراجعة تاريخية لإحدى هذه الدورات وهي الدورة (17) وتخرج فيها 240 ضابطًا عام 1938، فقد تميّزتَ بانخراط شرائح مختلفة من أطياف الشعب العراقي إليها، ففيها المسلم والمسيحي واليهودي، والعربي والكردي والتركماني، والقومي والشيوعي والعشائري، لكنها في الوقت نفسه عُدّت من أكثر الدورات إثارةٍ وتمردًا وحظوظًا في مسيرتها، مقارنةً بمثيلاتها من الدورات السابقة واللاحقة، وسمّيت نفورًا بـ (دورة الانقلابات والمؤامرات) أو (منطلق الانقلابات)، أما أبناء هذه الدورة فأطلقوا عليها تفاخراً بـ (الدورة الذهبية)، والسبب يعود في كل ذلك إلى اشتراك الكثير من تلامذتها في الانقلابات التي حدثت لاحقًا. فشارك أغلبهم بحركة مايس عام 1941، وتبوّأ أغلبهم مناصب مدنيّة عليا في الدولة فضلًا عن المناصب العسكرية الرفيعة، فاعتلا اثنان من أبنائها منصب رئيس الجمهورية، وآخر رئيس وزراء، وغيرهم وزراء ووكلاء وزارات، وسفراء، ومدراء عامين، ومدير أمن، ورئيس محكمة عسكرية، وأمين عاصمة، وشاعر مرموق.
أحد أمري فصائل هذه الدورة والمعلم فيها هو الملازم الأول عبد الكريم قاسم، ومن تلامذتها عبد السلام عارف، وزميله أحمد حسن البكر؛ فبرز هؤلاء الثلاثة إلى سطح الحياة السياسية من خلال الانقلابات، فالأول جيّرَ له انقلاب 14 تموز 1958، والثاني حُسم له انقلاب 8 شباط 1963، والثالث قاد انقلاب 17 تموز 1968.
تخرّج في الكلية العسكرية العراقية أعداد كبيرة من الأشقاء العرب ليصبحوا ضباطاً في جيوش بلدانهم وبمراكز عليا، من أبرزهم الأمير محمد والأمير نايف، شقيقا ملك الأردن الحسين بن طلال، وكذلك الرئيس اليَمَني عبد الله السلاّل (من الدورة 16 التي تخرجت عام 1938). ومن سُخريات القدر أن الرئيس السلاّل -توفي عام 1994-كان قد قام بزيارة رسمية للعراق عام 1964، بدعوة من الرئيس عبد السلام عارف، واعتزازًا من زملائه السابقين في الكلية العسكرية وتقديرًا لمكانته بين الزعماء العرب فقد مُنح فيها شهادة فخرية من كلية الأركان، أما في زيارته الثانية لبغداد عام 1967، بدعوة من الرئيس عبد الرحمن عارف، وبينما هو في غضون تلك الزيارة، أطيح به في انقلاب عسكري ناجح جرى ضده في اليمن.
عدد الوزراء الذين حَملوا حقيبة وزارة الدفاع منذ تشكيل الدول العراقية ولغاية الآن (35) وزيرًا، أولهم الفريق جعفر باشا العسكري–الذي يُعتبر الأب الروحي لهذه المؤسسة-وأخرهم ثابت محمد سعيد العباسي. وبعضٌ من هؤلاء أصبح رئيساً للوزراء واحتفظ لنفسه بمنصب وزير الدفاع أيضاً.
خمسة من مجموع أربعة عشر زعيمًا حكموا العراق خلال تاريخه الحديث، كانوا من خريجي الكلية العسكرية الملكية العراقية، وهم على التوالي: الملك غازي، والفريق الركن عبد الكريم قاسم، والمشير الركن عبد السلام عارف، والفريق عبد الرحمن عارف، والمهيب أحمد حسن البكر.
أطول مدّة قضى فيها وزير دفاع في منصبه أعوامًا متوالية هو الفريق أول الركن عدنان خير الله، حيث ثَبَتَ فيه لمدّة ناهزت أثني عشر عامًا، وذلك من أواخر عام 1977 ولغاية عام 1989، ويليه الفريق الأول الركن سلطان هاشم أحمد، من عام 1995 لغاية 2003، وأقلهم زمنًا هو الفريق الأول الركن سعدي طعمة الجبوري، الذي حمل حقيبة وزارة الدفاع لمدة أربعة أشهر إبّان حرب الخليج الأولى عام 1991، وعُدّت من أحلك الظروف التي مرَّ بها الجيش العراقي وأصعبها على الإطلاق.
أول عسكري تخطّى الرتب العسكرية وترفّع خارج السياقات النظامية المتبعة، هو الرئيس عبد السلام عارف (1963-1966)، فقد كان عارف، حتى يوم 8 شباط 1963، عقيد ركن متقاعد، وبعد انقلاب 14 رمضان بأيام أغدَقَ على نفسه رتبة مشير ركن، وهذه الرتبة لم تكن مألوفة في نظام رتب الجيش العراقي، وإنما اُستنسخت من الجيش المصري وتقليدًا للقائد العام للقوات المسلحة المصرية آنذاك المشير عبد الحكيم عامر. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم استمرت هذه التجاوزات والقفز على الرتب ورَكبْ المناصب، بشكل مريب ومستهجن. وأن رتبة مهيب ركن (Field Marshal) المرادفة لرتبة مشير ركن وهي أرفع رتبة عسكرية في الجيش العراقي لم يحملها سوى شخص واحد هو الرئيس صدام حسين، الذي لم يمتهن العسكرية في حياته قبل ذلك ومنح لنفسه هذا الرتبة عام 1979، باعتباره قائدًا عامًا للقوات المسلحة حسب الدستور المؤقت آنذاك. كما إن صدام حسين هو أول مسؤول مدني يُمنح شهادة الماجستير في العلوم العسكرية مع رتبة فريق أول ركن عام 1975، في احتفال رسمي عندما كان نائبًا لرئيس مجلس قيادة الثورة، وهذه سابقة أخرى للجيش.
معظم الوزراء الذين حملوا حقيبة الدفاع هم من العسكريين المحترفين المسلكيّين باستثناء اثنين، هما: حسين كامل المجيد، وعمّهُ علي حسن المجيد، فقد تسلّقا هذا المنصب نتيجة المحسوبية العائلية السائدة آنذاك والمناطقية المفرطة؛ وأنَّ ثلاثة من هؤلاء الوزراء كانوا مدنيّين، ولا شأن لهم بالجيش ولا أي دراية في قيادته، هم: علي عبد الأمير علاّوي وحازم الشعلان ونوري المالكي، وشغلوها بعد احتلال العراق عام 2003، وهلّمَ جرّا مم بعدهم.
وزيران استُوزرا لهذه الوزارة لم يكن في حينها أي وجود للجيش النظامي للدولة بمعناه الحقيقي أو لم يكن قد تشكّل بعد، هما: جعفر العسكري وعلي علاّوي. ومن الجدير ذكره أنه في عام 2003، بقي العراق ولأول مرة في تأريخه المعاصر، من غير جيش نظامي يحمي كيانه. حدثَ ذلك بعد أن حلّه الحاكم المدني الأمريكي سيء الصيت بول بريمر، وسرى هذا القرار لغاية عام 2004، حيث بوشر بتشكيل جيش جديد للعراق بدأ من الصفر وبعقيدة مغايرة وتسليح جديد.
الجيش العراقي هو الجيش الأوحد من جيوش الدول العربية شارك مع دول المواجهة (سورية، الأردن، مصر) في كل الحروب العربية ضد الدولة العبريّة في فلسطين، فقد شارك في حروب عام 1948، 1967، 1973، وقبل ذلك أسهم في القتال ضد الإنكليز والعصابات الصهيونية في فلسطين قبل عام 1948، من ضباط ومتطوعين عراقيين، وأن الجيش العراق خاض أطول حرب خلال القرن العشرين ضد إيران، استمرت ثمانية أعوام.
يُعدّ العراق الدولة الوحيدة الذي قام جيشه باستخدام قوّته الصاروخية في ضرب الكيان الإسرائيل من أراضيه، بواقع 39 صاروخ أرض-أرض نوع سكود، وذلك أثناء حرب الخليج الأولى عام 1991.
عام 1988، كان عام الذروة للجيش إذ بلغ أوجّ قدراته وخبراته العسكرية، ووصل عدد أفراده إلى قرابة المليون مقاتل، ينتسبون إلى سبعة فيالق نظامية، وفيلق أول الخاص وفيلق للحرس الجمهوري، أما مجمل عدد الفرق فوصلت إلى أكثر من (70) فرقة، كاملة العدد والعدّة وجاهزة للدخول في أي معركة.
يمتلك الجيش العراقي ثلاث مقابر لشهدائه خارج حدود الوطن، الأولى في مدينة نابلس الفلسطينية، حيث تضم رفاة أكثر من (50) شهيداً والثانية في مدينة جنين، الفلسطينية وتضم (194) شهيدًا، أكثر من نصفهم مجهولي الهوية، وجميعهم استشهدوا خلال حرب عام 1948، وأرضها ملك للدولة العراقية منذ ذلك الوقت. وهناك مقبرة ثالثة تقع في محافظة المفرق الأردنية ضمت تحت ثراها (36) شهيدًا سقطوا خلال عام النكسة 1967. وبذلك يكون عدد الشهداء الذين روت دماؤهم أرض فلسطين خلال حرب عام 1948، وما بعدها (250) شهيدًا، ما عدا الذين نُقِلَت جثامينهم إلى العراق، عشرة منهم ضباط والباقي من ضباط الصف والجنود.
في حرب تشرين أو حرب أكتوبر مع الكيان الصهيوني عام 1973، سقطت في أرض الكنانة مصر، ثلاث طائرات عراقية أثناء اشتباك جوي مع طائرات إسرائيلية، وتناثرت جثث طيّاريها وبقيت أشلاؤها مغروسة في صحراء سيناء، تروّي دماؤهم الزكية ذلك التراب للدلالة وقوف العراق وجيشيه إلى جانب أشقاؤه العرب. أما في سورية وخلال الحرب ذاتها فقد استشهد على أرض الشام 330، ضابط وضابط صف، وخمسة عشر طيارًا شاركوا بأرواحهم للدفاع عن دمشق من أن تسقط بيد الصهاينة. ومنذ ذلك التأريخ وإلى يومنا هذا يطلق على (الشهيد) وصف تأريخي ومعنوي بأنه (سارية علَمْ العراق)، وأُطلق أيضًا شعار سامي آخر هو (الشهداء أكرم منّا جميعًا)، فضلًا عن شعارات أخرى لها مغزى معنوي وإنساني وبطولي.
الفريق أول الركن عبد الجبار خليل شنشل، هو أندى ضابط عراقي خدم في الجيش بشكل مثابر، وربّما هو الأعظم في تاريخ جيوش العالم، فقد بلغت سنيّ خدمته الفعلية ستة عقود ونصف، بدأت عام 1938، وانتهت عام 2003، وهو الضابط الوحيد الذي اشترك في كل حروب الجيش العراقي، وأرفع ضابط عراقي يُتوفى ويُدفن خارج بلده، فقد ولِد في مدينة الموصل عام 1920، وتوفاه الله في عمان عام 2014، ودُفن مع أقرانه في مقبرة شهداء الجيش العراقي في محافظة المفرق الأردنية. الفريق شنشل حاصل على وسام الاستقلال الأردني من الدرجة الثانية بإرادة ملكية سامية من الملك الحسين بن طلال عام 1959، ويعود له الفضل مع زملاء آخرين في تأسيس كلية القيادة والأركان الملكية الأردنية.
رئيس الجمهورية العراقية الأسبق الفريق عبد الرحمن عارف، هو الآخر دُفن في هذه المقبرة وقبل هؤلاء جميعاً فأن الفريق الركن ياسين باشا الهاشمي، رئيس وزراء العراق، هو أقدم ضابط عراقي وري الثرى خارج بلده بعد وفاته في بيروت عام 1937، ودفن في دمشق تحت مآذن الجامع الأموي، وبجوار ضريح صلاح الدين الأيوبي ولا زال.
من جميل الصدف أن يتزامن عيد الجيش العراقي كل سنة بعد أيام قليلة من احتفالات العالم بعيد الميلاد المجيد للسيد المسيح، ورأس السنة الميلادية الجديدة. وخلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) كانت تمنح للعسكري بصورة عامة إجازات دورية منتظمة، أمّا العسكري المسيحي، فيمنح إجازة خاصة لأيام متعدّدة يتمتع بها مع عائلته بغض النظر عن إجازته الدورية الطبيعية، باستثناء حالات الإنذار القصوى عند اندلاع المعارك، ففيها تتوقف جميع الإجازات الاعتيادية والاستحقاقات للمنتسبين كافة. ونفس هذا التوجّه ينطبق على المكوّن الأيزيدي والصابئي خلال أعيادهم الدينية، وهذه من الميّزات الحسنة والبارّة في سلوكيات الجيش العراقي وتقاليده العريقة حتى في أحلك الظروف.
دأبت أغلب دول العالم على إقامة استعراض عسكري يليق بجيشها، تفتخر به حيال شعبها وتتباهى أمام العالم بقدراته. ومن أهم الاستعراضات التي أقامها الجيش العراق وأضخمها من حيث العدد والعدّة وحسن التنظيم ذلك الاستعراض الذي جرى يوم 6 كانون الثاني عام 1990 وسُميَّ بـ (استعراض النصر)، قاده وأشرف عليه وقتئذ الفريق الركن محمد عبد القادر الداغستاني، معاون رئيس أركان الجيش للتدرب. إذ أُقيم لأول مرة في ساحة الاحتفالات الكبرى ببغداد، المشيّدة حديثًا لمثل هكذا مناسبات، وحضره عدد من كبار الأشقاء العرب والمسؤولون الأجانب. أثار هذا الاستعراض في حينها انتباه العالم، وسرَّ الأشقاء والأصدقاء وأغضب الأعداء والخصوم، وقيل إنه أعظم استعراض عسكري شهدته المنطقة.
انخرطت في هذا الاستعراض الرحب تشكيلات كبيرة من الجيش مثّلت القوات البرية والجوية والبحرية، ومعها صنوف الجيش الأخرى، المقاتلة والساندة. وبلغ عدد الأفراد المستعرضين فيه بحدود 35 ألف مقاتل، مع مشاركة 1300 آلية ما بين دبابة ومدرعة وعجلة ومعدّة اختصاصية، واُستعرضت لأول مرة صواريخ (Scud) البالستية بعيدة المدى والمطوّرة بخبرات عراقية، عُرفت باسم (صاروخ الحسين والعباس)، فضلًا عن معدات عسكرية أخرى مصنّعة في معامل التصنيع العسكري العراقي، منها طائرة الإنذار المبكّر والاستطلاع الإلكتروني المحمول جواً (عدنان1 وعدنان2). فيما حلّقت في سماء بغداد تشكيلات من أسراب الطائرات بلغ مجموعها 150 طائرة بين مقاتلة وسمتيّة. وفي حينها قرّت العديد من الدوائر الغربية والمؤسسات العسكرية ومراكز الدراسات الاستراتيجية المختصّة إن العراق بات يمتلك رابع أو خامس أقوى جيش في العالم.
نصب الجندي المجهول، هو قبر رمزي تُشيّده الدولة تخليدًا لجنودها الذين يُصرَعون في ساحة المعركة ويُصعب التعرّف إلى هوياتهم. وكتقليد شائع أُتبعته أغلب الدول بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، نظراً للعدد الهائل من الجنود الذي سقطوا خلال المعارك ولم تعرف أسماؤهم، فدُفنوا حيث ما قُتلوا. وحذا العراق حذو تلك الدول وشيّد صرحاً لذلك في بداية ستينيات القرن الماضي، فتمَّ بناء نصب الجندي المجهول في الساحة التي سُميت باسمة آنذاك، بمنطقة العُلوية وصمّمه المعماري رفعة الجادرجي. لكن في منتصف السبعينيات قررت الحكومة العراقية تشييد نصب جديد أكثر إجلالاً وعظمة، بما يلائم ويوازي تضحيات الجندي العراق في المعارك التي خاضها خلال تأريخه الطويل ودفاعه المستميت عن تراب الوطن. وبعد اختيار التصميم الفائز الذي صمّمه النحات خالد الرحال، بوشر العمل فيه أواخر السبعينيّات وأفتُتح عام 1983، وتزامن افتتاحه مع مرور ثلاث سنوات على اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وتصاعد ضراوة المعارك فيها.
ومن نافلة القول، أن نصب الجندي العراقي المجهول هو من النُصُب القليلة في العالم التي يضم تحت بلاطه رفاة جندي مجهول الهوية لا يعرفه إلا الله، جيء به من جبهات القتال بعد استشهاده في إحدى المعارك مع العدو الإيراني وقتئذ، وقد وري الثرى بمراسيم عسكرية مهيبة وموسيقى جنائزية في حينها، تقدّمهم القائد العام للقوات المسلحة، وكبار المسؤولين في الدولة العراقية. وأن مصمم النصب الفنان خالد الرحال، هو الأخر دُفن فيه بعد وفاته، تحت أحد أقبيته التي تحمل الرقم (7) حسب طلبه في وصيته الخاصة. ومن البديهي ولعدم الازدواجية في تشييد النصب نفسه في مدينة واحدة فقد أزيل النصب السابق قبل الانتهاء من إنجاز النصب الجديد واُستُبدِل اسم الساحة التي كان فيها إلى أسم متآلف بالمعنى، هو (ساحة الفردوس).
يُعتبر الجندي، العمود الفقري لأي جيش في العالم وهو الحلقة الأصغر في كيانه، وتكريمًا لمكانة الجندي العراقي والتضحيات الجسيمة التي قدمها في الدفاع عن سور الوطن وكرامتهِ فقد أقيم له في بغداد تمثالان متمايزان: الأول يقع قبالة الجسر المعلق من جهة الكرخ، سمي بنصب الجندي العراقي، للنحات العراقي ميران السعدي، والآخر يقع قبالة جسر باب المعظم من جهة الرصافة سمي بنصب المقاتل العراقي، للنحات الإسباني Manuel Rodriguez، لكن في عام 2009، رفع الأخير من مكانه لأسباب إنشائية جرت في تلك المنطقة لينقل إلى مدخل وزارة الدفاع الجديدة (بناية المجلس الوطني سابقًا)
المجلة البريطانية العسكرية المتخصصة ((Jane’s منحت الجيش العراقي لقب أفضل جيش في العالم لعام 2017، -ربّما لنواحي معنوية أو إعلامية-بسبب الانتصارات الكبيرة التي حققها في أقل من سنة ضد أقوى التنظيمات الإرهابية في العالم المسمّى اختصارًا بـ (تنظيم داعش)، في حين أن الخبراء والمحللين العسكريين في الولايات المتحدة الأمريكية قدّرت القضاء على هذا التنظيم بعشر سنوات.
شاعر القرنين عبد الرزاق عبد الواحد بارك بطولات الجيش العراقي وإنجازاته بقصيدة عصماء ألقاها أما حشد جماهيري في 6 كانون الثاني عام 1993، منها هذه الأبيات:
لله أنتَ لكلَّ أسياف

العروبةِ صرتَ زنْدًا

قاتلتَ ظُلمَ الأرض قا

طبةً، وما طأطأتَ بندًا

وحملت من الأوزارِ ما

لو مسَّ أكبـرهُم لأردى

 

وقبله كان شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، قد مَجّدَ للجيش الأبي بقصيدة رائعة عام 1958، منها هذه الأبيات:
جيش العراق ولم أزل بك مؤمناً

وبأنك الأمل المُرجي والمنـى

وبأن حُلمك لن يطولَ به المدى

وبأن عزمك لن يُحيق به الونى

جيش العراقِ إليك ألف تحيةٍ

تستاف كالزهرِ الندي وتجتنـى

 

هذه الأبيات الشعرية، لحّنها الموسيقار المصري رياض السنباطي وكان من المؤمّل أن تؤدّيها كوكب الشرق أم كلثوم، في وصلة غنائية تقدّمها ضمن برامج معرض دمشق الدولي نهاية عام 1958-أيام الوحدة السورية المصرية-إلا أن الخلاف السياسي بين العراق والجمهورية العربية المتحدة آنذاك، وجفوة العلاقة بين الزعيم عبد الكريم قاسم والرئيس المصري جمال عبد الناصر، منعت أم كلثوم من أدائها في تلك المناسبة، وقيل في حينها إن أسباب فنّية حالت دون إنشاد القصيدة! لحد الآن لا نعرف أين مصير لحن هذه الأنشودة الوطنية بحق الجيش العراقي العريق؟

رحم اللهُ شهداءنا الأبرار وحمى الله العراق وجيشه المغوار

أحدث المقالات