استضاف مؤخرا “بيت الأدب” في برلين Literaturhaus Berlin لأمسية شعرية موسومة “الفرات، النخيل… مازلتُ أتنفس” الشاعر العراقي المقيم وعائلته منذ سنوات في العاصمة الألمانية برلين فارس مطر، رافقه العزف المنفرد على آلة العود الفنان الفلسطيني المبدع بكر خليفي، فيما قرأت السيدة إيفا ليتشمان القصائد التي قام بترجمتها إلى اللغة الألمانية التونسي الأصل طارق المحمودي الحاصل على شهادة الدكتوراه بجامعة برلين الحرة عن أطروحة حول أعمال الكاتبة الألمانية باربارا هونيشمان. الفنان التشكيلي العراقي أحمد حسين شارك بعرض لوحات فنية ذات أبعاد رمزية قيمية تتواءم مع معاني القصائد ومضامينها التعبيرية ـ السردية.
بيت الأدب الجهة المضيفة، مؤسسة عريقة عامة لترويج الثقافة من قبل ولاية برلين، وهو فيلا تاريخية. يقيم سنوياً عشرات الندوات والمناقشات والمحاضرات والمؤتمرات ومعارض الفنون والكتب. تم افتتاحه في يونيو 1986 باعتباره الأول من نوعه للترويج غير المباشر للمؤلفين الناطقين بالألمانية وغيرها، فضلاً عن القضايا الأدبية والجمالية في الأدب الدولي المعاصر. تولى الشاعر إرنست ويتشنر إدارة البيت 2004 حتى عام 2017. في كانون الثاني (يناير) 2018، أصبحت العالمة الأدبية جانيكا جيلينك ومؤرخة الدراسات والفنون الأمريكية سونيا لونغوليوس مديرين مشتركين للمؤسسة.
في نص مختارات الإشهار المتعلق بالأمسية جاء: على ضفاف بحيرات برلين يعاود الشاعر العراقي فارس مطر الجلوس بين الفينة والأخرى يتذكر نهر الفرات وأشجار النخيل. كُتبت قصائده في برلين هنا مع إطلالة على الوطن البعيد. يعيش اليوم في برلين، يتآلف مع مجتمعاتها ويستمتع بمعالمها وموروثها الثقافي. يعتبر هذا بالنسبة له امتدادا مهما لتجربته الشعرية، حيثما تتلاقى الثقافات، فالشعر والموسيقى… أمسية عراقية من ليالي ألف ليلة وليلة.
اؤمِنُ بامرأَةٍ من أَرضِ بِدايَتِنَا
في جِهَةِ الأَصداءِ الآنَ
تُعِدُّ قصيدَتَها بِتَأَنٍ..كالبُنِّ صباحاً
وتُسَرِّحُ خَيطَ الخَفَقَانِ بِأُغنِيَةٍ
من يَدِها تَتَدَلّى تُفاحَتُنا ومَسافَتُنا
سَتقومُ بِرَسمِ تَكَسُّرِها
مُدرِكةً أَنَّ اللَّوحَةَ دونَ نِهاياتٍ
في امسيته الشعرية الساحرة لم يتناغم الشاعر مع النظرة الشابة وغير الهرمية في الخطاب الأدبي السائد في فلسفة لغة الشعر وحسب، إنما جعل الموسيقى حاجة ديناميكية تتفاعل مع التنوع الثقافي كما وتحاكي أبحاث الخيال دون “شهرزاد”. أغلب نصوص فارس الشعرية، على الرغم من انها تمتلك الكثير من الهارموني، ألا انها مؤثرة وحزينة للغاية، وبعضها أشبه بنص تعويذي يهدف إلى إنتاج تأثير سحري، مصحوب بارق الغناء والإلهام الفيزيقي “المادي” المحسوس. ربما كان يدرك ذلك فاحتمى بالموسيقى لإنصاف أوجه التشابه والإختلاف بين الثقافات على طريقة الألماني كريستوف وولف أستاذ الأنثروبولوجيا والتعليم. القصيدة منذ القدم تنتمي جميعها إلى النوع الغنائي، أصوله تعود إلى الثقافة اليونانية القديمة. في ذلك الوقت كانت الكلمات الشعرية لا تزال تُدعى Lyra أغان، اليوم تشكل من بين النصوص ما يعرف بالأنواع الأدبية الثلاثة: الشعر والملحمة والدراما.
في بيتي شاعرٌ يَبني وجهي ثانيةً
كنتُ أُحاولُ أَن أَنجو
وَجهي يَحمِلُ هِجرَتَهُ
ذاكرتي يَملَؤُها صَوتُ الريحِ
وُجُوهٌ تَحلُمُ بالآتي وَتُؤَجِلُهُ
ها أَنتَ الآنَ تَمُرُّ على خَطَوَاتي
وتَهُشُّ على نأمَةَ ضَعفي
تَتْبَعُ في شَغَفٍ مِدهاجَ ضَياعي
ستضيعُ معي، يا صاحبَنا المائيَّ
أُريدكَ أُغنيةً نابضةً فدمائي صامِتةٌ
ها أَنتَ الآنَ، تقولُ لبيتي الطينيِّ
لقد طارَ بعيداً نحو الإِسمنتِ
تأنَّقَ بالمنفى والفولاذِ
وصارَ غريباً
نصوص الشاعر فارس مطر يمكن جدولة كل نوع منها- بما في ذلك النصوص ذات العناصر الخيالية- إلى أحد تلك الأشكال الثلاثة. عادة ما يشار للأنواع الأدبية المتنوعة الثلاثة، الملحمة والشعر والدراما باسم “أشكال الشعر الطبيعية”. أكثر قصائده اقترابا للشكل الملحمي السردي، هي قصيدته الطويلة: (الفرح المتأخر يغمرني). وهي مكتوبة نثر وتتميز بحقيقة: أن القصة يقدمها راوي (خيالي). يظهر أحيانا وأحيانا أقل وضوحا كشخصية مستقلة في عالم السرد. تم تقسيمها إلى أشكال ملحمية صغيرة وأشكال ملحمية متوسطة وأشكال ملحمية كبيرة… قال فيها الدكتور هشام عبد الكريم العكيدي: ((يستهل الشاعر العراقي فارس مطر قصيدته الطويلة (الفرح المتأخر يغمرني):
أجهلني
لاشيءيُعرّفنيعني
أتحسس أوصالي
أبحث عن جسدي
وأقول لمن يجمعني
لا أتشابه.
يضيف: بهذا التصريح المثير للحزن رسم الشاعر صورته التي كان للحرب الدور الكبير في تشكيلها، إذ كما نعلم أن الحرب هي تقويض لكل أشكال الحياة والفرح والجمال. والقصيدة هنا وبشكلها العام جاءت على شكل استذكارات لما مر به الشاعر خلال فترة الحرب التي عاشها وكان جزءاً منها فتحول عمره إلى (جرار كسرت). بعد أن رأى آلاف الشبان يتحولون إلى محض ركام محترق. أما هو فتحول إلى يباس بفضل ما تركته الحرب في نفسه من انكسارات.)) انتهى.
كما هو الحال في قصيدة، الفرح المتأخر يغمرني، التي كان لها بسبب انتمائها الشعري المتميز كقصيدة تقرأ على انها تعاويذ، غنائية ملحمية درامية، دورا رئيسيا في بنيوية النصوص الجديدة الأخرى التي امتعنا الشاعر فارس مطر بسماعها. نجد الـ “انا” في اغلب تلك القصائد، سمة مميزة، لسيرة الشاعر الذاتية.. من الميزات الموجزة التي تميز قصائد الشاعر عن الأنواع الأدبية الأخرى، اللغة الرمزية والعبارات المربوطة وتقسيمها إلى مقاطع. أيضا، القافية وايقاعها الجمالي على ترجمة القصائد الى الألمانية بشكل منضبط. ومن نظرة عامة، فإن الغنائي في شعر فارس، على الرغم من أنه “يلتحف الحزن”، يشكل الجوهري الذي تندرج تحته جميع أشكال الشعر.. من ناحية أخرى، هيمنة النموذج الاستيعابي الذي كان واضحاً في التصميم اللغوي ورصانة اللغة البلاغية، أيضاً التعبير عن الأفكار والمشاعر والاحاسيس بشكل أفضل من خلال ترك الكلمات مساحة كبيرة للتفسير، او القيادة الى عناوين واسماء ومعلومات، او التمييز بين الصريح والضمني من حيث خصائصه بما فيها صورة المشهد الرومانسي، كما تمثله قصيدة “بروميثيوس” ليوهان فولفجانج فون جوته.
قالت؛
سَتَدوسُ بِلاداً لا تَعرِفُ جِلدَكَ
أَو خَطَواتِكَ
لا تَسمَعُ إِنشادَ الجُرحِ
وَنَوتَاتِ التَّعَبِ القافِزِ مِنكَ إِليكَ
تَوَارَتْ قائِلَةً, تَفقِدُني
قلتُ إلى أَينَ؟
فَقالت؛ لا أَعلَمُ..
لكنِّي سَأُعَلِّمُ ذاتَكَ فُقدانَ الأَشياءِ
سَأُنسِيكَ قَصائِدِكَ المَقتولَةَ
سَوفَ تَشيخُ وتُسأَلُ عَنها
لَكِنَّكَ لا تَعرِفُها
وَلِمَنْ كُتِبَتْ
في أَيِّ مَكانٍ .. وَمَتى؟
سَنُغَنيها.. وَعَلَى مَسمَعِكَ الهامِدِ
هذا إِن كُنتَ بِنَعشٍ
لكنَّ الأَرجحَ أَن تَنتَبِذَ التِّيهَ
فلا تَدري أَو تُدرى
تُطلِقُ ذَرَّاتَكَ للضوءِ
وتَمضي بِخَساراتٍ تَلتَمِعُ
الرقصَةُ غائِبَةٌ
لَن يَأتي جَسدُكَ
الشاعر فارس مطر كما يبدو لي أنه شديد الاهتمام بالنص الملحمي، كاهتمامه المباشر في صناعة الحدث الدرامي في قصائده في شكل حوارات أو مونولوجات تقسم النصوص الدرامية إلى مشاهد وأفعال. عادة القصائد لا تحتوي على نص مستمر، لكنها تتكون من مقاطع شعرية وأبيات بلاغية لا تخلو من الإثارة والإبداع كالتي وجدناها في نصوص فارس الموسومة بخصائص أدب الشعر: بنية المقاطع الشعرية والجُمل، التوضيحات اللغوية والشكل الغنائي الذي كان في العصور القديمة يؤدى غنائيا بواسطة مغن يرافقه قيثارة كما ينصب على ربط المحتوى والشكل. اليوم، لم تعد النصوص الشعرية تغنى، ولكن لا تزال هناك أهمية كبيرة لقراءة ما هو مكتوب بشكل واضح وبصوت عالٍ كما فعل فارس من أجل سماع الإيقاع في القصائد! لتتمكن التمييز بين الشعر والدراما والملحمة… بعيدا عن حكايات ألف ليلة وليلة.