18 ديسمبر، 2024 8:53 م

دراسة في الاجتماع السياسي لرواية “عروس الفرات” للدكتور علي المؤمن

دراسة في الاجتماع السياسي لرواية “عروس الفرات” للدكتور علي المؤمن

دراسة في الاجتماع السياسي لرواية “عروس الفرات” للدكتور علي المؤمن
إعداد: د.عطور الموسوي
مقدمة
لعل رواية عروس الفرات انعطافة مميزة في نمط مؤلفات المؤرخ والباحث الكبير الدكتور علي المؤمن، ذلك أننا تعودنا منه البحث في طيات التاريخ السياسي، وفي الفكر الإسلامي والفكر السياسي، وهو ما أعطى لمؤلفاته سمة البحث العقلائي المدعم بالأسانيد من جهة، ومن جهة أخرى عدّت مصدراً موثوقاً لمن يقتفي المعلومة النقية والتحليل الموضوعي.
وبذات النكهة الجميلة كانت روايته هذه؛ فأنت حين تقرأ، تتنقل بهدوء بين مشاهدها، غير مرتاب من مبالغة أو اختلاق لما لم يكن، سيما وأنه يتحدث عن بيئة نشأ وترعرع فيها، وأبدع في أن يجعل حواسنا تسمع وتشم وتعيش نفحات مشاهدها السعيدة، ونحزن وتنقبض قلوبنا وهو ينقلنا الى مشاهد الهمجية البعثية، وقد عشناها لحظة بلحظة، نعم؛ وصلتنا في هذه الرواية رسائل عديدة، ستبقى تتنقل من جيل الى جيل دون عناء، ممتطية صهوة قلمه المبدع في هذا النوع من التأليف غير النمطي للدكتور علي المؤمن، الباحث في شؤون الدين والسياسة.
رأت رواية “عروس الفرات” النور في العام 2016، بعد عقود مرّت على أحداثها، وطبعت في مرحلة مهمة من تاريخ المجتمع العراقي، حيث غابت أو غيبت تلك الحقائق، بكل ما فيها من ألم وتحد، وآيات من صمود لشبيبة متعلمة قل نظيرها، سلاحهم العلم ومدادهم الأدب وقدوتهم نبيهم وأئمتهم من ولده، فتحوا قلوبهم لكل إنسان عايشهم، حاملين شعاراً مقولة مولاهم أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))؛ فما أحوجنا لمثل هذه النماذج الفريدة من نوعها لجيل جديد كاد أن يفقد قدوات حسنة، وتجذبه وسائل التواصل؛ لتحرف مساره بعيد عن إرثه الديني والحضاري.
لقد اعتمدت في دراستي هذه بتناول رواية “عروس الفرات” من محاور عديدة، أزعم أني تصفحت عبرها أغلب ما جرى من أحداث ومشاهد اجتماعية سياسية عراقية خلال الأعوام 1979 ـــ 1982. وعلى الرغم من أنني سبق أن قرأت الرواية، إلّا أن القراءة بقصد الدراسة البحثية هي شيئ مختلف، فتح لي آفاقا لم ألتفت اليها من قبل.
المحور الاجتماعي في رواية عروس الفرات
جسّد علي المؤمن في روايته تفاصيل دقيقة لحياة الأسر العراقية الأصيلة، ووصفتها وصفاً جميلاً يجعل المرء يستشعر المكان استشعاراً حياً، ويكاد يشم عبق زهوره عند الحديقة، ويدخل الدفء الى نفسه عندما يصف اجتماع أفراد عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي حول المدفأة تجنباً لبرد الشتاء القارص في تلك السنوات، وتكاد رائحة الشاي وراتنجات قشور البرتقال تلامس أنف القارئ لهذا المشهد، ومن هنا يمكننا القول:
إن الرواية تعد مصدراً يؤرخ للتراث الشعبي السائد في القرن العشرين، وخاصة عقود الستينات وحتى التسعينات، حيث عرضت البيئة عراقية، بما فيها سلوك العائلة اليومي، عبر قيم متوارثة من الآباء الى الأبناء، بكل مصداقية وحرفية، وبينت كيف كان المجتمع العراقي مجتمعاً متماسكاً، انطلاقاً من الأسرة ذات العلاقات الحميمة، ونقول بحق: إن ما وصفته الرواية هو عراق ما قبل الغزو الفكري العلماني المتجسد بسلطة البعث وماتلاها.
أبدع المؤلف في مشهد عقد القران، والتمازج الاجتماعي بين عائلتين، يرأس إحداهما سيدٌ معممٌ وأخرى يرأسها رجلٌ معّقلٌ، وما بينهما رجال من مختلف الأزياء السائدة آنذاك. وحفظ المؤلف الذاكرة الاجتماعية عندما وصف لحظات عقد القران، وما جرت عليه عادات الأسر الكريمة من حشمة ووقار، ونمط الأفراح المحافظة، حيث فصلت تواجد الحاضرين الرجال في حديقة الدار، بينما النساء يحطن بالعروس، يزغردن ويهزجن من مورثات شعبية جميلة، نكاد نفتقدها، عبر ما يحدث في حفلات زواج مختلطة تأثراً بثقافة دخيلة على العراق، مهد الحضارات ومهبط الرسالات ومثوى الأنبياء والأئمة الأطهار.
وثق لنا المؤلف ظاهرة الأسر المركبة في بيت واحد، مهما كانت مساحته، حين يتزوج الأبناء الذكور ويبقون في ذات مسكنهم الأصلي، ويعيشون بسلام ومحبة، ويتربى الأحفاد في أحضان الأجداد، هذه الظاهرة كانت سبباً رئيساً في توارث القيم النبيلة والسلوك الصالح، فضلاً عن فيض من الحنان الذي يناله الأطفال من الأجداد كل يوم ولحظة، بينما نرى اليوم الأمهات يعانين من صعوبة التربية والعصبية، وقلة الخبرة في التعاطي مع الأطفال، في حياة تزيد من ضغوطها عليهن، ولا سيما بالنسبة للمرأة العاملة، حيث يفتقر الأبناء الى مصدر نقي للتربية وإثراء الروح بتلك القيم، ولعل أحب طريقة لزرعها وانجحها هي قصة ما قبل النوم أو جلسات الليل في الشتاء، وهم يحيطون بالمدفأة النفطية وابريق الشاي يعتليها. كما أن المعيشة المشتركة تجعل الجميع يعيش بقواسم المصير الواحد والهدف المشترك وتتوحد التربية وتتوطد علاقاتهم مع الأقارب وليس كأيامنا صار الجيل الجديد يجد ضالته في الغرباء ولا يمت بصلة حميمة لأقاربه من أبناء الأعمام والأخوال.
المحور السياسي
أبدع المؤلف علي المؤمن في إيصال رسائل متعددة عن الواقع السياسي في العراق آنذاك، فضلاً عن الاجتماع السياسي للنجف الأشرف مدينة إمام المتقين؛ فعلى الرغم من أن يوم 17 تموز 1968 يعد يوماً اسوداً في تاريخ العراق لوصول البعثيين لسدة الحكم، إلّا أن الرواية بيّنت أن صدام حسين كان أشد إجراماً من سابقه أحمد حسن البكر، إذ كان صدام هو الجانب المنفذ لكل مخططات الاستكبار بكل طواعية، ولكونه مدعوماً منهم؛ فقد كان القرار بيده حتى حين كان نائباً للبكر. أما تاريخ 17 تموز 1979 فهو بداية علنية لسلطة الفرد الواحد المستبد، والمواجهه الحقيقية بين “الدعاة” والبعثيين ورئيسهم المحب للدماء صدام:
سلطت الرواية الضوء على العمل التنظيمي لحزب الدعوة الإسلامية، حيث أبدع المؤلف في وصف مشاهد عاشها “الدعاة” في العمل الحزبي السري، حيث كانت الأنفاس تعد من قبل أزلام البعث، وتكاد تطبق على كيان الفرد العراقي من خلال إشاعة ((للحيطان آذان))، هذه العبارة التي جعلت المواطن العراقي في حالة اغتراب نفسي واجتماعي، واستلاب لكل معنى للحرية، كما أبدع الكاتب في التعريف بالعمل التنظيمي من خلال السرد السلس الممتع، وليس الشرح المباشر، وبيّن حقيقة أن خيرة الشباب المتعلم والمتدين ومن ينتمي لأصول اجتماعية عريقة، هو “الداعية” المتفاني في خدمة عيال الله، فضلاً عن الإقدام والشجاعة وحصافة الرأي في اتخاذ القرار الشرعي، مهما كانت نتائجه، وقد تجسد هذا النموذج ببطل الرواية الداعية أحمد عبد الرزاق، الموظف النزيه المحبوب من جميع زملائه في العمل، كما بيّنت الرواية تعامل أبناء عبد الرزاق مع أبيهم بطريقة الأخوة والصداقة، وهذا يدل على وعي وحرص في تربيتهم وتنشئتهم الدينية والسياسية.
وضحت الرواية في بعدها السياسي، همجية السلطة الحاكمة التي كان أعضاؤها والعاملون معهم من شراذم الخلق، وعندما تسلطوا على رقاب الشرفاء من العراقيين أساؤا استخدام السلطة وطغوا بكل معنى للطغيان، وأظهروا كل ما لايمكن وصفه من خسة ودناءة، كما كشفت الرواية عن غياب وانعدام مبدأ ((المتهم بريء حتى تثبت إدانته))، والتي وردت في مواد كل دساتير العراق، ومنها الدستور المؤقت لعام 1972، والذي استمر العمل به لما يقارب ثلاثين عاماً دستوراً رسمياً للعراق، بينما كان المتهم لدى النظام البعثي مجرماً وإن ثبتت براءته. ولم يكتفوا بهذا القدر من الطغيان، وإنما عاقبوا العائلة فرداً فرداً على ما لم يفعلوه، متجاهرين بالتحدي بقوله تعالى:(( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))، حين كانوا يعتقلون عائلة المتهم صغاراً وكباراً، دون أن يكون لأي منهم تهمة محددة، وهو مافعلوه بالضبط مع عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، حين قتلوا الصبي في الشارع، وهشموا رأس الطفل في المعتقل، وبقروا بطن الحامل، واغتصبوا الشابة، وأعدموا الرجل العجوز، وعذبوا المرأة الكبيرة، كل ذلك بسبب أنهم أقارب متهم هارب، لإجباره على تسليم نفسه!!.
ومن المؤكد في هكذا ممارسات عشنا تقاصيلها، كوني معتقلة سياسية، أن يتم إعتقال عائلة المتهم جميعهاً، دون مذكرات قبض قانونية؛ إذ كان الطاغية صدام فوق القانون الذي شرّعه هو، وأعطى لقراراته وقرارات ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة، الذي كان يترأسه، قوة القانون، وبذلك انتهك الدستور علانية، ووصل به الحال ان يتجرأ باختصار العراق بشخصه، عندما قال عبارته الشهيرة: ((اذا قال صدام قال العراق)).
المحور العسكري
وصف مؤلف “عروس الفرات” الحرب المفروضة على بلدين مسلمين بطريقة من عاش أحداثها أولا بأول، وعلى الرغم من الإسهاب والتفصيل الدقيق، لكنه لم يكن مملاً، بل نقَلنا لتلك الأجواء المؤلمة نقلاً سلساً، خاصة أننا عشنا كل لحظة فيها. ونتناول هذا المحور عبر:
أثر الحرب على الأسر العراقية؛ إذ بيّن الكاتب في مفاصل من روايته كيف عاش العراقيون حياة التعتيم، وقضوا لياليهم تحت ضوء الفانوس، فضلاً عن الشعور بالهلع من تداعيات الحرب. وبيّن الشعور بالمسؤولية الشرعية من المشاركة في الحرب من قبل عائلة السيد عبد الرزاق، وتجسيد مشهد القلق الذي انتاب العائلة جميعاً، عندما علموا بأن مواليد ولدهم أحمد مطلوبة للالتحاق بالخدمة العسكرية، وكان خوفهم من اقتتال المسلمين (مسلم يقتل مسلما)، وليس الخوف من الموت، وكيف كانت قرارات الطغمة الحاكمة جائرة في كل من لايلتحق بالجيش، وكيف هجموا على الدار الآمنة بكل همجية، وعاثوا فيها، ونشروا الخوف في قلوب كل أفرادها، وكأنّ ولدهم قاتلاً أو مجرماً، وليس مجرد متخلف عن الالتحاق بالخدمة العسكرية. وكان قرار أحمد بأن يعتزل العالم ويبقى حبيس الدار، قراراً شجاعاً، ودلّ على مدى التزامه الديني بعدم مقاتلة أخوانه في العقيدة، على الرغم من القلق الذي شعر به والداه.
كشفت الرواية، دون أفصاح، عن مدى الخرق الذي اخترق به الطاغية بنى المجتمع، وزرع أعينه وجواسيسه بين الجيران، في الحي والزقاق الواحد، وعلى الرغم من التزام احمد بعدم الخروج من البيت؛ فقد استدل أزلام السلطة عليه، وعلموا أنه هارب من الجيش؛ فمن أعانهم على ذلك!.
أثر الحرب في سلوك أزلام السلطة تجاه الهاربين من الجيش، حيث وصف الكاتب كيفية تعاملهم القاسي جداً مع الهارب من الخدمة العسكرية، وتعذيبه بشتى انواع التعذيب الجسدي والنفسي، وكان هذا ديدنهم مع كل من يخالف نهجهم العدواني .وركّز الرواي على نوع من السلوك تميز به النظام القمعي، ألا وهو (التطويع) القسري، حيث يجبر المعتقل السياسي وأبناء العوائل المهجرة، وعموم الرجال من غير العسكريين، على (التطوع) للالتحاق بجبهة الحرب، من خلال ما يسمى بــ (الجيش الشعبي )، الذي يشمل الذكور من عمر (15- 55) عاماً، وهي القوات الايديولوجية الشعبية الرديفة للجيش الرسمي. كما يصف الكاتب إجراءات عناصر الجيش الشعبي التي يرعبون من خلالها العوائل باقتحام البيوت الأمنة بحثاً عن الرجال، ليسقوهم الى جبهات الموت، وهي الإجراءات القمعية التي سيق من خلالها أحمد الى الجبهة، وعدد كبير من المعتقلين، دون أن يخبروا أهاليهم بذلك.
أثر الحرب في سلوك منتسبي الجيش العراقي، إذ أبدع المؤلف في وصف مشاعر الجنود العراقيين وهم يجدون أنفسهم قد زجّوا في حرب دامية لاناقة لهم ولا جمل، ولايعرفون أي هدف مطلوب منهم تحقيقه!. وكان أحدهم يشعر أنه وقود لهذه النار المستعرة، دون اعتقاد أو إيمان بها، وأنه يكره وجوده في الميدان، ويترقب أية فرصة للهرب، وإن كان فيها موته المحتم. ولعل المشهد الذي وصف فيه المؤلف تصرف مراقب الفصيل العسكري عندنا لمح أحمد وزميله عباس وهم يهربون باتجاه ايران؛ دليل على انعدام العقيدة لدى الجيش بهذه الحرب.
المشهد المؤلم لوفاة عباس في الصحراء خلال هروبه من الجبهة؛ فإن الكاتب قد أبدع فيه؛ فهو ينقل مشاعرنا بين الطرافة التي كانت تجري بين هذين المظلومين أيام دراستهما وأيام شبابهما، وبين الأسى الذي يعيشونه وهم يسيرون بين حقول الألغام، مجازفين بأرواحهم، كي ينجوان من التورط في دم المسلم. وما أروع ما كتب عن لسان عباس الداعية، الذي لم يوص بأهله بقدر ما ناجي السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وخاطب الدعاة الشهداء الذين سبقوه، نعم؛ بقي على عقيدته حتى آخر أنفاسه .
يمضي أحمد في طريقة اللاهب، يعين جسده المتعب بقوة الايمان والعقيدة، يتنفس الصعداء عند وصوله الجبهة الأخرى، وليصف لنا المؤلف كيف هي مشاعر المجاهدين الذين فارقوا الأهل والاوطان، وكيف يتوجهون بأنفسهم باذلين دماءهم للتحرير من ربقة الاستبداد .
القمع والقسوة البعثية
جسّدت رواية “عروس الفرات” مشاهد متعددة للقمع البعثي في كل فصولها:
خارج المعتقل؛ بدءاً بممارسات اقتحام الدور والاعتقال بدون إبداء مذكرة اعتقال، وانتهاءً بممارسات التعذيب وانتهاك أبسط حقوق الإنسان في دهاليز المخابرات وأقبية دوائر الأمن، التي سلبت أمان الأسر الأصيلة ولم ترع حرمة لأحد.
تجسّدت قسوة عناصر النظام البعثي وجرأتهم على الدماء، في مشهد قتل الفتى الطالب ياسر في الشارع؛ فمن أعطاهم هذه الصلاحية في إراقة الماء؟ إذ بين المؤلف أن أزلام الطاغية لا رادع قانوني لهم، وان مبدأهم هو أن قريب كل متهم هو مجرم وإن تثبت براءته.()
أما داخل المعتقلات؛ فقد أظهر المؤلف الصورة الحقيقية لانسلاخ جلادو الطاغية من انسانيتهم، ووحشية تعاملهم مع عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، حيث لم يراعوا حرمة امرأة مسنة كأم عادل، ولا شيخاً وقوراً كالسيد عبد الرزاق، ولا امرأة حامل، وحتى الطفولة؛ إذ لم يبالغ المؤلف في مشهد قتل الطفل البرئ علي، وإزهاق روحه خنقاً بيد ضابط التحقيق، نعم؛ نقل لنا المؤلف مشاهد بسيطة لقسوة ما عهده العراقيون من نظام البعث.
أوضح مؤلف الرواية المبدع، بطريقة مقنعة، مشهد انهيار ياسمين واعترافها على هروب زوجها أحمد، وهي ترى طفلها الوحيد يلفظ أنفاسه خنقاً حتى الموت، ذلك أن قلب الأم لا يمكن أن يقاوم رأفته بأطفاله، ولا سيما أن ياسمين كانت حاملاً؛ فهي ــ إذاً ــ كانت تتعرض لضغوط نفسية موجعة جداً، قد تفوق ضغوط غيرها، ولا يمكن لأي أم أن تكون أما إن قاومت ماجرى لصغيرها الوحيد.
التهجير القسري
شابهت مشاهد محور التهجير (التسفير)، لدرجة ما، مشهد هروب أحمد ورفيقة عباس، من حيث وصف المنطقة الحدودية بين العراق وجاره اللصيق ايران، إلّا أن المأساة كانت متجسدة أكثر في هذا المشهد الذي يخص ما أسماه النظام البعثي العراقيون من ذوي الأصول الإيرانية (التبعية):
حنين المهجرين (المسفرين) الى الوطن، وهم بعد لم يغادروه، وما أعمق عبارة الرجل المسن الذي فارق وطنه، وهو ينادي نهر الفرات، وكيف أنه سيفارقه الى الأبد، بسبب سياسات البعث الهمجية.
مآسي الأمهات والأخوات والزوجات المهجرات، اللائي اعتقل رجالهن الذين هم بعمر 18 ـــ 38 سنة، دون سبب، سوى أنهم من أبناء المسفرين، وكيف تركوهن يواجهن مصيراً مجهولاً على أيدي هؤلاء الطغاة، نعم؛ لم يتم الإشارة سوى الى الرجال الكهول بين المسفرين، وهنا؛ تعددت أوجه البلوى على المهجرين قسراً (المسفرين)، فهي ليست سفرة عائلية ترفيهيه، بل تهجير قسري، شتت شمل الأسرة، ونهب كل ما تملك، ليجعلها بين عشية وضحاها لاتملك سوى ماترتديه من ملابس فقط!.
في هذا المفصل من الرواية، تحدث المؤلف بطريقة السرد الضمني، ليصف لنا تحالفاً مشؤوماً بين أكراد منشقين عن الجمهورية الاسلامية وبين سلطة الطاغية صدام، وكيف أن هؤلاء المرتزقة الذين جمعهم بنظام البعث عداوة الإسلام، وقد فسح لهم مجال التعدي على حرائر العراق من تلك العوائل التي سلبت كل حقوقها، وسيقت الى مجهول، بعد أن فقدت الأحبة، بين معتقل وبين فاقد للحياة في طريق التهجير.
لم يرحم نظام البعث العوائل المهجرة، حتى الطريق الذي خصصه لهم هو من مناطق الأراضي الحرام التي زرعت فيها الألغام، وكانهم قاصدين فيها أن يموت المسفرون، ولا يصلوا الى الجانب الأخر، إذن؛ هو حكم بالإعدام مؤجل التنفيذ؛ فأي حقد هذا؟!. ويتعجب المرء كيف تناسى هؤلاء الجلادون تلك القواسم المشتركة بينهم وبين هؤلاء المسفرين!؟، ألم يكونوا يوماً جيرانههم ومعارفهم وزملاؤهم في العمل؟!
جسّد المؤلف كيفية قيام حكم البعث وحقبته المظلمة بدق إسفين التفرقة وزرع العداء في قلوب بين أبناء الشعب الواحد، إذ لم يكن متوقعاً أن يحصل كل هذا الشذوذ بين أبناء الشعب المتكافل المتراحم، حتى ابتلاهم الله بنظام البعث.
خاتمة الرواية
ختم الدكتور علي المؤمن روايته بأجمل ما يكون، حيث تجسّدت العقيدة الحقة في قلب ومواقف الداعية أحمد عبد الرزاق، وعلى الرغم من إيمانه بأحقية عقيدته، إلّا أنه أتاح لعينيه ذرف الدموع، وتوجّع قلبه المكلوم وارتجف لفقد أحبته واحداً بعد الآخر، وقد أبدع المؤلف في هذا المحور حين جعل نقل الأحداث على لسان ياسمين، زوجة أحمد، وبأسلوب الـ (فلاش باك)، وهي المرأة التي ثكلت بفقد طفلها وجنينها في ذات الوقت، ولكنها صبرت وتخطت الصعاب، ووصلت الى زوجها عبر رحلة مميتة؛ إذ أراد المؤلف أن يبقي ياسمين حية، لتكون شاهد العيان الوحيد على نكبة عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، وليحفظ عبرها هذا الجزء المهم من التاريخ.
وبهذه الخاتمة الذكية، المتعارضة في مشاعرها، بين فرحة تجدد اللقاء بالحبيب، ورقة حديث أحمد مع زوجته ياسمين، وتراجيديا الأحداث القاسية؛ يلملم الكاتب أطراف الرواية وشخوصها العديدين، بنهاية اختصرت معادلة تنازع الأكف البيضاء مع الأكف السوداء، منذ ملحمة الطف الخالدة، لتبثّ رسالة الى الأجيال على لسان السيد أحمد عبد الرزاق، الذي قال عبارة مؤثرة: بأنه ((بقية السيف)). نعم؛ فقد فنيت العائلة، إلا أن الله أبقاه وياسمين، في دلالة أراد بها المؤلف أن العمل الاسلامي ماض على يد أبنائه، مهما سالت دماؤهم في بقاع الأرض، وأن الشهيد لم يمت قط، كما أراد الطغاة، بل هو ممتد، وببركة دامائه يحيا من سار على دربه أينما كان، وكما قال الشاعر((فحبوب سنبلة تجف.. تملأ الوادي سنابل)).
نقد للرواية
لا يمكن أن ننقد رواية “عروس الفرات” بكل ما فيها، إلّا نقداً داعماً، من حريص يسعى الى سد ثغرات جمال مشاهدها، وإضفاء رتوش تزيدها كمالاً، ولست هنا في مقام النقد الأدبي المجرد لهذا السفر العابر للعقود الزمنية، والمادّ أواصر الماضي البعيد بالأمس القريب، ولكن من منطلق كوني صاحبة تجربة في العمل الإسلامي المعارض، وفي الملاحقة والاعتقال والتعذيب والسجن في زمن نظام البعث؛ فقد دوّنت بضع ملاحظات، لا تنقص من قيمة الرواية، وإنما وجهة نظر ارتأيتها:
افتقرت الرواية استخدام اللهجة العامية، مما جعل بعض العبارات الواردة فيها لاتعبر عن المشاعر في المشهد، وخاصة في حالات لاتترجمها اللغة الفصحى ترجمة مؤثرة.
يبدو أن المؤلف لم يخض تجربة الاعتقال أو السجن، لذلك؛ لم يكن وصفه كمن عاش التجربة، وإنما كانت وصفاً سماعياً. وعلى الرغم من أنه قد أبدع في الوصف لكل مشهد من مشاهد تعامل الجلادين مع عائلة السيد عبد الرزاق، ولكن لم يكن بعضها واقعي لدرجة ما، وكمثال؛ فقد ذكر أن أم عادل قد زارت ابنتها شيماء في معتقلها، وهذا لم يكن متاحاً إطلاقاً، بل كانوا يعمدون لتفريق أبناء الأسرة الواحدة والقضية المشتركة.
لم تكن أساليب الجلادين الملتوية في تلك الدوائر المرعبة، بوتيرة واحدة، وإنما كانت بين الترغيب والترهيب، بحسب دورات تدريبية لإعدادهم للقمع والاجرام، وهذا لم يرد في الرواية.
أبدع المؤلف في وصف شخصية ضابط التحقيق وقسوته وخسته وعدم تورعه عن أي جرم، من خلال مشاهد ضغطة على السيد عبد الرزاق، بطريقة افتقرت الى أي نوع من الإنسانية، لكن حواراته مع السيد عبد الرزاق لم تكن واقعية، لأن الجلادين لم يكونوا يسمحون بأي حوار مع المعتقلين، وخاصة بمثل عبارات الرواية.
على الرغم من أن التعذيب الوحشي هي سمة لكل أزلام الطاغية وجلاديه في أقبية المخابرات ودهاليز الأمن المتعددة في كل العراق؛ فإنه من المعتاد أن يموت المعتقل على أيديهم خلال جولات التعذيب الجسدي، وحتى النفسي، لذلك؛ لم يكن مشهد إعدام شيماء واقعياً؛ إذ أن دوائر التحقيق لايوجد فيها مقاصل إعدام وأعواد مشانق، فإذا لم يقتل المعتقل أثناء التحقيق؛ فإنه يحال على محكمة الثورة سيئة الصيت، ليتم الحكم عليه بالاعدام شنقاً حتى الموت، كما تحال النساء المحكومات بالاعدام من الى سجن الرشاد، القسم السياسي الثالث، الذي يحتوي غرفة مخصصة لانتظار تاريخ تنفيذ حكم الاعدام، والذي لاتتجاوز شهراً واحداً غالباً،() أو تساق المعتقلة مباشرةً الى المقابر الجماعية أو ساحات الاعدام بإطلاق الرصاص، أو أية وسيلة أخرى، ومن ثم يعد لها مقتبس حكم صادر من محكمة الثورة، وهو ماحدث في العام 1982 مع عشرات المعتقلات الشابات اللواتي ساقوهن الى المقابر الجماعية من معتقل مديرية أمن الثورة (مديرية أمن صدام فيما بعد)، وصادف ذلك في وقت السحر من إحدى ليالي شهر رمضان، حيت عاد الجلادون الذين ساقوهن صباح اليوم التالي وهم يحملون معاول الدفن وعبائات المعدومات. ثم بعد سقوط نظام البعث في العام 2003، وجد أهاليهن مقتبسات الأحكام التي تنص على أن محكمة الثورة حكمت عليهن بالاعدام(). لذلك؛ كان الأجدر بالمؤلف أن يختم قصة شيماء بإطلاق النار عليها خلال التعذيب، أو خنقها كابن أخيها علي، أو أذابتها في التيزاب (حامض النتريك المركز) كالشهيد عبد الصاحب دخيل، أو سوقها الى المقابر الجماعية.