17 نوفمبر، 2024 2:47 م
Search
Close this search box.

أطروحة عن الوعي

أن تسأل من انت وأين تسكن في دماغك, هو واحدٌ من أصعب الأسئلة وأكثرها حيرةً منذُ نشوء التاريخ المسجل حتى يومنا هذا. لم يتمكن أي من فلاسفة القرن وعلماء الاعصاب والنفس وكذلك المتدينين من شتى الاديان من الإجابة عليه بشكل مرضي ابدًا. إنه موضوع “الوعي” الذي هو من المفترض أن يكون الفاصل الوحيد بين الانسان والحيوان, بين الحي والميت, وبين الذكي والغبي. ينقسم المحللون لمعضلة الوعي إلى قسمين, حيث يقطن في الطرف الأيمن الذين يؤمنون بأن الدماغ إن كان يعملُ من دون مفهوم الوعي فلا حاجة للوعي على اطلاق فيه, مثلما رفضوا مفهوم الروح في الأجساد عندما اكتشفوا إن الجسد لا حاجة لهذا المفهوم ليعمل.
أما في الطرف الايسر, يؤمن المتطرفون الاخرون أن الوعي في دماغ الانسان لا يمكن فهمه بطرق احيائية أو حتى فيزيائية معقدة. يظن هؤلاء بأن الوعي أكثر من مجرد ماديات دماغية يمكن دراستها مثل أي شيء آخر, وهو أكثر من مجرد إنسان وقد يتصل هذا الوعي عند انسان واحد مع جميع أناس اخرين بوسيلة لن نفهمها وقد يشمل وجود وعي ضخم للكون بأكمله.
يجب علينا ان نوضح تعريف الوعي بدقة في القواميس لكي نكون على سكةٍ واحدة عندما نفكر فيه في المقال. إلا إن عند البحث طويلًا عنه, وجدتُ أنه ليس هناك تعريف ثابت للوعي, وقبل ذلك كله هناك بعض من المعاجم والشخصيات العلمية تخطئ بين مفهوم الوعي ومفهوم الادراك في التعريف. الإدراك هو استقبال الدماغ معلومات من محيط الكائن, وهو الإحساس بما يحرك الأجهزة الحسية عند الكائن (مثل العين واللسان والجلد). فلا يوجد فيه تحليل لتلك معلومات, لا تفكير في تلك الاحاسيس, ولا رد فعل فيه, لأن ذلك يتطلب الوعي, فهو فقط مشاهدة سلمية لما يحدث في خارج الكائن من قبل الكائن. وقد يكون الكائن مدركًا لما يحدث في داخل دماغه أيضًا مثل خارجه كالأدراك في الأفكار التي تتجول في دماغه. سأستخدم كلمة كائن في الاطروحة بدل الانسان لكي لا نحرم باقي الكائنات من الوعي, فقد يكونون يمتلكونها – كما سنتوصل اليه في الخاتمة – ونحن لا نعلم. من الجدير القول إن الوعي لا يمكن أن يتواجد من دون الإدراك ولكن الادراك لا يحتاج الى وعي كما إن النهر لا يمكن أن يتواجد من دون جزيئات الماء ولكن جزيئة ماء واحدة يمكن أن يتواجد من دون النهر.
لدى الأطباء تفسير آخر للوعي إلا وهو أن تكون واعيًا هو نفسه أن تكون يقظًا فاتح العينين, ليس ضروريًا حتى أن تحرك عضلاتك أو تستجيب للفعاليات البيئية من حولك. لكننا لسنا مهتمين بالجانب الطبي كذلك, فقد يخطأ الطبيب في التشخيص لمريض واعٍ غير يقظ فاقد للإدراك, أو العكس تمامًا, لعل المريض يكون فاقد للوعي يستجيب فقط عن طريق عضلات اللاإرادية (مثل عمليات التنفس ونبضات القلب).
ما يهمنا في الحقيقة هو السؤال عن الذات الذي يتواجد في داخل الجمجمة, أن أسأل من أنا وأين اسكن بالتحديد في كل هذه الشبكات العصبية في الدماغ هو السؤال عن الوعي نفسه. كيفية التفكير والتحليل, وإيجاد رد مناسب للمشاعر والاحاسيس (سواء الرد بالقول او الفعل), بالإضافة الى استحضار الذكريات والتجارب المطبوعة هو على ما يبدو وظيفة الوعي في الدماغ, وبالتالي وظيفتي أنا مجرد باحث مُدرك في خضم هذه الشبكة المعقدة من الخلايا العصبية.
ولأنني مجرد باحث ولا أحمل كل تلك الذكريات والأفكار في وعيي في شتى الأوقات, بل استحضره طبقًا لمعلومة معينة (كالإحساس بشيء في البيئة), هذا يعني أنني واعٍ في تلك اللحظات فقط, أما غير الأوقات يعمل جزء الاوتوماتيكي من دماغي ليستجيب على تلك المشاعر والاحاسيس والأفكار. ويشترط أن تكون أغلبية المعلومات الواردة للوعي حديثة بعض الشيء غير مستطرقة للوعي في الماضي (على الأقل ليست مستطرقة لدرجة أن يبلط الدماغ شارعًا عصبيًا لها للاستجابة عليها بشكل اوتوماتيكي عند استقبالها مرةً أخرى). يستثنى من ذلك المشاعر – حتى لو كانت قديمة تلك المعلومات المحفزة للمشاعر – التي دائمًا ما توقظ الوعي للاستجابة عليها بأي طريقة ممكنة. على سبيل المثال, عندما كنا صغارًا جميعنا كان يصعب علينا المشي, وكان يجب علينا أن نفكر بشراسة فيه لنتعلمه ونتقنه بدقة حتى اعتدنا عليه ونقوم به اليوم من دون أي تفكير واع في أي عضلة مشاركة في عملية المشي. لكن إن أصيب احد أصابع القدم في احد الرجلين بشكل مؤلم سوف تأتي تلك المعلومة في وعينا باستمرار وتوقظنا لكي نفكر مليًا في عملية المشي بنمطٍ جديد لكي لا يتأثر أصبعنا المجروح عند القيام به. الشيء نفسه ينطبق لقيادة السيارة وكيف تعلمناها في البداية وكيف نقودها بعد مرور الزمن واكتساب الخبرة وكثرة الممارسة, حيث نستطيع القيام بعدة مهام أخرى التي تتطلب الوعي – كالمحادثة في الهاتف – وقيادة السيارة في نفس الوقت (وللأسف نحن نفعله من غير العلم بأن الطرق الداخلية وكذلك الخارجية حيوية جدًا وممكن في أي لحظة يأتي أمامك انسان او حيوان ويتطلب منك كامل الوعي للقيام بتصرف صحيح). لأننا فكرنا بتمام الوعي عندما قدنا السيارة في بادئ الامر, وحالما تبرمج تلك المهارة في شبكة العصبية في دماغنا, أمسينا كالآلات نفعلها دون إزعاج وعينا به. يمكنك القول إننا نشبه الحواسيب في هذا المجال: واعين فقط عندما يقوم المبرمج ببرمجتنا (أو عندما نقوم بمهمة معينة), في لحظة التي ينتهي المبرمج من برمجته ويشغله, عندها يبدأ الشبكات العصبية اللاواعية الاوتوماتيكية التي تشكلت من خلال الوعي بالعمل.
العلاقة بين الوعي واللاوعي ليست باتجاه واحد كما نعتقد (من الوعي الى اللاوعي), بل هي علاقة تبادلية كل منهما يؤثر على الآخر: كما قلنا في السابق إن الوعي يخلق ويغذي اللاوعي بتصرفات و ردود أفعال ملائمة لظرف البيئي والمعلومات الحسية القادمة اليه, بينما يقوم اللاوعي بتنشيط الوعي عن طريق المشاعر (الغضب, السعادة, الضجر وغيره) أو الذكريات الذي يحفزه أفعال واقوال قد يجتاز الوعي أولًا دون ايقاظه لكنه سرعان ما يرجع اليه لسبب أو لآخر. هناك بعض من الكلمات المميزة التي حين تعلمها أصبحت مرتبطة بشعور ما, فكلما نطقت تلك الكلمة امام ذاك الفرد المتعلم سيستحضر فيه شعور ارتبط بالكلمة وسيتغير مزاجه وبالتالي يرجع ليؤثر على وعيه بشكل غير مباشر. بالإضافة الى ما قلنا سابقًا إن الوعي لا يخزن أي معلومة في داخله وانما يستحضرهم من أماكن أخرى في الدماغ من اجل تحليلهم, أي إن اللاوعي يلعب دورًا عظيمًا في مساعدة الوعي على توصيل الخلايا العصبية المتوافقة معًا.
على ذكر اللاوعي, أود التلحيظ إنه احيانًا يصل الامر لحركات لاواعية وليست فقط مشاعر لاإرادية, فترى كلما يسمع هذا الشخص عبارات تعلم أن يربطه مع حركة ما, يقوم مثلاً بلمس وجهه أو بهز رجله أو الضحك والابتسامة من غير سبب واضح ومن قيادة وعيه لتلك الحركات. هناك افراد ينتابهم التوتر او الخوف والذعر عند استقبال معلومة حسية ما من بيئته مرتبطة مع تلك المشاعر كصورة أو كلمة أو موقف, وقد يؤدي ذلك الى نوبات قلبية ناجمة عن ظروف لا علاقة لها بالتوتر على الاطلاق, ترى مثلًا الشخص مريض قاعد في مكان هادئ ومريح وفجأة يأتيه نوبة قلبية لربما يعود علته إلى سماع كلمة أو تفكير في شيء جعل نبضات قلبه لاإراديًا تزداد إلى حد الإصابة.
بالعودة إلى الوعي, هناك على ما يبدو قوانين يجب أن يخضع له الوعي وهو ليس حرٌ في تحليله وبحثه واستحضاره للمعلومات:
عندما يضطر الوعي للاختيار بين شعورين اثنين, فالشعور الأهم يطغى على الشعور الغير مهم, ومعيار أهمية الشعور تعتمد على عدة عوامل منها مشاعر البقاء على قيد الحياة كالخوف والغضب الشديدان, أي إذا اضطر الوعي أن يختار بين فعل يؤدي الى المتعة والتسلية أم فعل يؤدي إلى حل وتهدئة الشعور بالغضب فسوف يختار الأخير بلا شك, إلا إذا كان هناك حكمة في اختياره الأول أو شيء يمنعه من اختياره. والمعيار الاخر مثير للدهشة من تقدير أهمية المشاعر هو عمل كل شيء للحفاظ على ماء الوجه داخل المجتمع. وهو خطير جدًا إلى درجة يمكنه عصيان كل طبيعة الانسان الوراثية وبعض الأحيان يتصرف ضد مصلحتنا لصالح المجتمع. على سبيل المثال, لقد ضحى العديد من الأشخاص بأنفسهم لصالح أوطانهم وذهبوا إلى مناطق يعلمون فيها إنهم ميتين لا محالة لكن بالرغم ذلك قاوموا بشدة الشعور بالخوف وغريزة البقاء على قيد الحياة, لربما أراد اغلبهم ماء الشجاعة عند المجتمع على الشعور بأمان بمفرده, كذلك الامر عندما يلقي بعض الأشخاص بأنفسهم الى بنايات مشتعلة أو انهر جارفة خطيرة من اجل انقاذ الاخرين. وهناك آخرون من يضحون براحتهم لأجل راحة احبابهم, وهو معيار مهم في تكوين الاسر والعلاقات, وبالإضافة إلى اشخاص يريدون أن ينتموا إلى فئة مفضلة من المجتمع كالأفراد بدينين الذين يمتنعون عن الطعام من أجل تضعيف الجسم لتبدو أفضل للمجتمع. نستنتج من هذا إن الوعي مقيدٌ بالمشاعر, فهو يقوم بعمليات المقارنة الرياضية للمشاعر لاختيار الأفضل والأولى بينهم في الوقت نفسه, البقاء على قيد الحياة أولًا, النمو والتكاثر ثانيًا, الرتبة الاجتماعية ثالثًا.
اتجاه الانتباه ضروري جدًا للوعي, أينما ولى الوعي انتباهه استطاع أن يحلل ذلك الشيء ويفكر فيه مليًا, وأي شيء لا يجذب الانتباه إما يتصرف الدماغ معه لاواعيًا اوتوماتيكيًا من دون التحليل أو يتغاضى الاحاسيس التي تستقبل تلك الاحداث عنها كأنما لم يكن لها وجود. لا نستطيع أن نجزم بكمية الانتباه الذي يملكه الوعي لعدد أشياء مختلفة (أي هل يمكنه أن يركز على شيئين في نفس الوقت ام لا) إلا إننا نعلم بأن كل شيء لديه درجة أنتباه خاصة به في الوعي ويتحكم في الانتباه العديد من العوامل منها المشاعر – وخصوصًا الشعور بالألم – وبشكل عام المشاعر السيئة تجذب انتباه الوعي اكثر من الجيدة (مشاعر السيئة مثل الشعور بالحزن والكآبة والألم والغضب, وعكس هذه تعد جيدة), وقد تتلاشى تلك المشاعر السيئة التي تطول مع الزمن لتصبح كمصدر للإزعاج بالنسبة للفرد بدلًا من ان يكون مستحقًا للانتباه, وايضًا تتلاشى مشاعر الجيدة لتصبح الوضع طبيعي للفرد أن يكون سعيدًا مثلًا. ثم إن أي شيء جديد يجذب الانتباه وقد يطغو على تلك المشاعر القديمة: على سبيل المثال, عندما كنت طفلًا عانيت من ألم في أحد اسناني الطاحنة بسبب التسوس وأمي كانت تخبرني بأن علي أن اشتت انتباهي عن الألم باللعب مع أخواني, وبالفعل عندما كنتُ في خضم اللعب لم أكن افكر في الألم. على الرغم من أن شعور الألم درجة انتباهه اعلى من درجة انتباه اللعب مع اخواني لكن بمرور الزمن عليه اصبح تأثيره أقل كما يفقد بقايا الطعام طعمه الأصلي ومع كون اللعب مع اخواني مثيرًا وجديدًا بالنسبة لوعيي وبالإضافة الى التفكير بأنني لا اقدر ان افعل شيئًا للتخلص من الألم, قدرت أن اشتت انتباهي بسهولة عنه. والجدير بالذكر إن الأصوات العالية والاضواء الساطعة بشدة يجذب الانتباه بسهولة, وذلك لعل الدماغ مبرمج جينيًا من الولادة على إعطاء الأولوية في الانتباه للأصوات العالية والاضواء الساطعة لأنها قد تكون خطرة (كذلك الامر للأحاسيس الأخرى وليست فقط حاسة السمع والبصر, كالرائحة الكريهة القوية التي نشتمها يجذب انتباهنا اكثر من أي شيء اخر).
تحفيز الوعي يأتي أساسيًا من المشاعر (حيث يسيطر الشعور على نسبة عظيمة من الوعي). والمشاعر أما تؤثر مباشرةً على الوعي – عن طريق الاحاسيس – أو تتخذ من الأفكار وسيطًا لها: المعلومات الحسية (اللمس, الشم, والنظر وغيرها) التي تأتي من الأجهزة الحسية (كالعين والانف) إن لم تُحفز أيًا من المشاعر ستمر مرور الكرام من الوعي, وفورما يتحفز المشاعر, يتحفز الوعي معها, هذا يعني إن الإدراك المصاحب بالمشاعر هو المسؤول عن تحفيز الوعي مباشرةً. مثلاً في غالب الأحيان يكون الوعي غير مهتم بالمعلومات الحسية القادمة من البشرة, لكن حينما نقرص جزء منها تتحفز المشاعر مباشرةً وتدخل إلى الوعي فورًا لإيجاد رد فعل مناسب لها (وكذلك الأمر لبقية الحواس). أما الفكرة فبدايتها دائمًا تبدأ بشعور ما, لولا المشاعر لما تواجدت الأفكار, فهي بذلك تعتبر نائبة و وسيطة للمشاعر في الوعي لقيادتها إلى المسار الصحيح والنهاية المفيدة. والفكرة تأثيرها أقل في الوعي من المشاعر التي تأتي مباشرةً عن طريق الاحاسيس.
حينما يتحفز الوعي يبدأ عملية التحليل. ليس معروف بدقة كيف تحَدُث ذلك, ولكن نعلم إن الذاكرة والذكريات تلعب دورًا رئيسيًا فيه, حيث يستدعي الوعي جميع الذكريات المرتبطة بتلك المعلومة المحفزة له لإيجاد الحل المناسب. مثلًا إذا رأى الشرطي الرجل المطلوب للعدالة فإن وعيه يبدأ بالبحث داخل الذكريات عما يجدر عليه فعله ويجد إن سحب سلاحه وتحضيره هو الخطوة الأنسب للقيام بها. وذلك لإنه تذكر تدريباته وارشادات ضابطه بشأن ذلك وهو أول تصرف يجده وعيه عند البحث عن الذكريات بسبب تشابه الموقف والأفكار للتدريب. بتفسير أكثر علميًا: شبكات خلايا العصبية التي تتحفز من خلال الحواس التي تنظر الى الموقف وتستقبله في الدماغ سوف تنطلق الى الوعي للبحث عن شبكات خلايا عصبية مشابهة لها أولًا, وكلما كان التشابه شديدًا, كلما ازداد فرصة الاتصال والاستحضار الى الذاكرة أولًا, والعكس الصحيح, وبالعودة الى مثال الشرطي فإن التدريب مشابه للموقف اكثر من أي ذكرى أخرى لذلك يستحضر الى ذهنه اولًا. من الجدير بالذكر إن تشابه شبكات الخلايا العصبية الحسية المنطلقة مع شبكات الخلايا العصبية التي تحمل الذكريات مهمة جدًا إلا إنها ليست كأهمية المشاعر والتصرفات المرتبطة بها وهذا يعني إن الشرطي إن شعر بالخوف سوف يتصرف كرجل خائف ولكون ذكريات تدريبه لا تحمل أي مشاعر بالخوف, فلن تستحضر الى الذهن أولًا عند حدوث الحادثة مهما تشابهت الحادثة مع التدريب. وهذا يعطينا درسًا مهمًا وهو يجب التلاعب بالمشاعر اثناء التدريب كي تتقارب مع الواقع تمامًا وبذلك يكون تذكر التدريب أسهل بكثير. ويعود سبب إلى إن الذكريات دائمًا تحمل في طياتها مشاعرًا, وشدة هذه المشاعر ودرجتها قد ينقل الفرد من تصرف الى تصرف آخر, أي إن الشعور الشديد بالخوف يحفز تصرف مغاير للشعور معتدل بالخوف. تكسير وتفصيل الذكريات المتشعبة الطويلة كثيرة المعلومات إلى اجزاء وربطها والتلاعب بها هو أيضًا شأن عملية التحليل الواعي: على سبيل المثال استطيع أن استخرج فكرة لون الأحمر للدم واربطه مع لون الأحمر للغروب وأقول السماء ملطخة بالدماء أو اقدر أن استخرج شكل افرع الأشجار واربطه مع شكل يد الانسان, بالإضافة الى تلك القدرات اقدرُ ايضًا على تخيل الدم بلون برتقالي أو ابدل افرع الأشجار بأيادي بشرية في عقلي. كل هذا ممكن فقط لأن الوعي له القابلية على تفصيل شبكات خلايا العصبية التي تحمل الذكريات وربطها بذكريات أخرى وبتالي شبكات عصبية أخرى.
يتحول ذلك الحافز بعد تحليله من قبل الوعي إلى ذكرى تربط معًا مجموعة من المشاعر والتصرفات الحركية العضلية بالإضافة الى كون هذه الشبكة تتصل مع ذكريات أخرى وأفكار أخرى في الدماغ (حيث يجد الوعي مكانًا ملائمًا لخلق وخزن هذه الشبكة في الدماغ). يحفظُ هذه الخطوة الكثير من الوقت والطاقة للدماغ وهو شيء مميز فعلًا حيث لولاها لما تواجد اللاوعي. ومن هذا نعلم إن الوعي يتطلب وقتًا وطاقةً من الكائن (الشيئان اللذان لا يملكهما الكائن بوفرة) ومنه نعلم أيضًا إن أحد وظائف الذاكرة هي تسريع عمليات رد الفعل من دون الاعتماد على الوعي. هذه الشبكة العصبية بدورها تنفع الوعي في تحليلات أخرى عندما يبحث الوعي عن خلايا عصبية مشابهة لتلك الخلايا العصبية الحسية التي انطلقت إليه, فيرفع جزءًا من العبء من الوعي.
غاية الوعي هي إيجاد حلٍ لتلك المحفزات, والحل يعتمد على المشاعر (كما بدأ التحفيز بالمشاعر يجب أن ينتهي بالمشاعر), فينقسم الحل إلى أمرين: الحوافز (سواء كانت حسية أم فكرية) التي تبدأ بمشاعر جيدة تفرضُ على الوعي أولًا باستمرار القيام بتلك التصرفات التي أدت الى تلك المشاعر الجيدة في المستقبل ثم ثانيًا البحث عنه بنشاط في المستقبل والانجذاب نحوه وعمل وتخطيط أي شيء لجلبه للوعي مجددًا. والحوافز التي تبدأ بمشاعر سيئة تفرضُ على الوعي أولًا بتثبيط أي تصرفات التي أدت إلى تلك المشاعر السيئة في المستقبل ثم ثانيًا تفاديه بنشاط في المستقبل. المشاعر الجيدة هي مثل المتعة, السعادة, الحب, السلام, والنشوة وغيرها, وعكس ذلك هي المشاعر السيئة من الغضب والخوف والكراهية والألم. كل تلك التحليلات واستحضار الذكريات والتلاعب بالأفكار من قبل الوعي ما هو إلا تخلص من المشاعر السيئة وجلب المشاعر الجيدة. الغاية الأخرى للوعي هي بحث عن أي إشارات عصبية مثبطة للفعل أو للحركة عند استقبال الاحاسيس أو عند القيام بتصرف ما. مثلًا, يرغب الرجل في ممارسة الجنس مع امرأة جميلة تمر من امامه لكن فورما يأتي هذه الفكرة إليه, يبدأ الوعي في بحث عن أي مثبطات لهذه الحركة فيصل إلى فكرة مناقضة وهو عقوبة الجنس من غير موافقة الطرف الاخر هو السجن, بذلك يقارن الوعي الشعور البدائي الجيد القصير الذي يجلبه الجنس مع شعور نهائي سيء طويل الأمد الذي يجلبه السجن وبالتالي يمتنع عن القيام بذاك الفعل, بالإضافة إلى شعور بالإحراج أمام الملء الذي يجلبه الاغتصاب.
وخلف هذه المشاعر المبرمجة من الجينات أهداف مثل غريزة البقاء على قيد الحياة ثم النمو ثم التكاثر ثم الرتب الاجتماعية. تتمثل غرائز البقاء بمشاعر الخوف والغضب والاشمئزاز التي تأخذ الأولوية في الوعي من ضمن المشاعر, لأنها قد تعالج مسألة الحياة أو الموت, ثم تأتي مشاعر التي تساعد على النمو منها الشعور بالجوع والعطش, ثم التكاثر التي تتمثل بمشاعر النشوة والشهوة والحب, ثم هدف الرتب الاجتماعية وهي التي يسعى إليها الانسان للبروز إلى اعلى قمم الاجتماعية وكسب احترام الجميع وخوفهم والسيطرة عليهم ويمثلها مشاعر مثل الغيرة والعار والفخر والشعور بالذنب وغيرهم. كل هذه المشاعر تبرز للوعي على شكل درجات حيث إن للخوف درجات عدة قد يكون ادناهُ غير قابل على غلب الشعور بالشهوة: أي إن الأولوية ستعطى مؤقتًا من قبل الوعي للشهوة بدل من الخوف إذا كان درجة الشهوة أقوى من الخوف, بالرغم من أن الوعي يدرك بخوف الكائن لكنه يتصرف حسب أصوله بالدرجات. في علم الأعصاب, لعل ذلك يعود إلى كون الشبكات العصبية مكونة من اعداد من الخلايا العصبية التي كلما زادت عددها وقوتها في الانطلاق كلما طغت على باقي الشبكات وكانت بارزة أكثر: إذا انطلقت خلايا عصبية في شبكة الشهوة أكثر من شبكة العصبية للخوف, فإنها سوف تسيطر وتجذب انتباه الوعي أكثر من الخوف, حتى لو كان شبكة الخوف لها أولوية في التحليل عند الوعي. هناك بعض من المشاعر التي لا تتلاءم مع هذا النموذج مثل الحزن والكآبة واليأس إلا إنها تلعب دورًا واضحًا في ترشيد الإنسان للتصرف الصحيح.
يخلق الوعي الفكرة عندما لا يقدر على حل المشاعر مباشرةً وبسهولة, وتعتمد طول الفكرة وأهميته على المشاعر والطرق المتاحة لحلها. الأفكار بشكل عام توصلنا من شعور إلى شعور, من السيء إلى الجيد, وتفعل ذلك بوسائل غير مباشرة, ولكونها غير مباشرة يعني إن الوعي يأخذها ثانوية على المشاعر التي تتطلب حلولًا سريعة وهي تبقى تتحرش بالوعي في الخلف حتى يتسنى لها جذب انتباهه وتحفيزه عندما ينتهي من حل أمور مهمة أولاً. كما قلنا في السابق إن الأفكار هي وسيط المشاعر وهي تبدأ بالمشاعر, ودرجة هذه المشاعر تضعُ علامة لدرجة أهمية هذه الفكرة: الأفكار ذات مشاعر قوية (سيئة كانت أم جيدة) تجذب انتباه الوعي أولًا. حتى لو لم يحل الوعي الفكرة في أول وهلة, فإنه يخزنه ويرجع هذه الفكرة الغير المحلولة بين حين وآخر إلى الوعي عندما لا يكون مشغولًا, حتى تأتي نهايتها إما محلولة توصل الكائن الى مشاعر جيدة وتصرفات ايجابية أو غير محلولة تموت مع مرور الزمن عليها مثل الذكريات الضعيفة الضئيلة التي لا تستحضر كثيرًا الى الوعي. في كثير من الأحيان, حل فكرة تؤدي إلى فكرة أخرى وتُضاف عليها كجزء منها وبالتالي تعمل مجموعة متسلسلة من الأفكار معًا للوصول إلى حل مرضي ومفيد للكائن بدلًا من فكرة واحدة بسيطة, وقد ينغمر الفرد في أفكاره وينسى المشاعر التي حفزته على التفكير من البداية. فائدة الأفكار إذًا هي تسجيل المشاعر والاحاسيس وخزنها لتحليلها لاحقًا حين يأخذ الوعي راحته وحين يكون الكائن لديه متسع من الوقت, بالإضافة إلى كونها تتحول إلى معلومة عندما تنحل وتصبح جزء من فكرة أخرى أعظم. ليس من معلوم ميكانيكية عمل الأفكار في علم الاعصاب إلا إن ذلك لا يمنعنا من تخمين إن تلك الشبكات الخلايا العصبية تفتقر نهايتها إلى اتصالات مع شبكات أخرى لذلك تبحث دائمًا عن شبكات أخرى لتتواصل معها بتناسق تام عن طريق الوعي وتحليلاته.
الذكريات وتكوينها مرتبطة بقوة مع الوعي, أغلب الذكريات إن لم نقُلْ جميعها مرت من الوعي وخُزنتْ بسببه, من المستحيل أن تتذكر شيئًا لم تكن واعيًا منه. هذه الميزة العظيمة تمنع ملئ الدماغ بذكريات لا طائل منها إلا إن كانت معلومات تستحق التحليل ومُناسبة ومفيدة للكائن, وفي نفس الوقت الذكريات التي تُخزنْ يحفظ للوعي العديد من الوقت والطاقة: حينما يُعاد نفس الأحداث ليس على الوعي سوى تشغيل ذكرى ملائمة للظرف وهي تقوم بالاعتناء بالباقي. لكن هناك شيء غريب في الذكريات هي إنها دائمًا تجلب معها المشاعر للوعي لسببين:
الأول لكي يتم تذكير الوعي بما كان عليه الظرف في السابق عند تكوين الذكرى, فيتحفز الوعي حسب المشاعر إن كانت جيدة (ذكرى جيدة) يرغب بها ويركض نحوها ويريدُ إعادتها إن أمكن, وإن كانت سيئة (ذكرى سيئة) يهرب منها ويستنفرها. صحيح إن الذكريات – مهما كانت نوعها – تعتمد بشكل كبير على اللاوعي من بدأ حركات عضلية إلى إدارة الأفكار لكن من دون جلب تلك المشاعر للوعي مجدداً لن تقدر الذكريات لوحدها على تحليل نفس الظروف التي تواجدت فيها في السابق. لذلك تحتاج إلى الوعي لتحليل الظروف الراهنة, والقرار بعد ذلك اما استرجاع تلك الظروف إن كانت جيدة, أو إحالة دون حدوثها أو الهرب منها إن كانت ذكرى سيئة. مثلًا, استحضاري لذكرى قضائي وقتًا ممتعًا في مطعم للأكلات البحرية مع صديقي المفضل يحفزني أن أحجز ثانيةً في المطعم وأتصل بصديقي لأعيد الذكرى مجددًا. أو على سبيل المثال عندما أتذكر تنمر زملاء المدرسة علي يجعلني ابتعد عن ذلك المكان وذات الأشخاص للتأكد من عدم الشعور كالسابق. نرى بأن على الذكريات تحفيز الوعي لأن الظروف المحيطة بالكائن لن تكون نفسها كما في السابق مهما كانت متشابهة, لذلك يتحفز الوعي لاستبدال الظروف الراهنة بالظروف السابقة. يبقى السؤال هل يتحفز الوعي مثل السابق تمامًا؟ أي هل يبقى تأثير المشاعر نفسه على الكائن بعد مرور ازمان طويلة على الحدث وبعد استرجاع الذكريات مرارًا وتكرارًا؟ تتلاشى قوة الذكرى والمشاعر التي تجلبها عند أغلبية الأفراد بمرور الزمن عليها, إلا إن هناك مرض يصيب بعض الأفراد ما يسمى اضطراب ما بعد الصدمة الذي يعيد نفس قوة المشاعر للمصاب به كأن الحدث يحدث مرةً أخرى له.
الثاني لكي يتم إيجاد طريقة أخرى لحله. بعض الذكريات لا تصل إلى حلول مرْضية, فتعود تلك المشاعر السيئة إلى الوعي لإتخاذ خيار آخر, حل آخر للمشكلة عينها. مثلًا, عندما أركل الكرة نحو الشباك وأخطأ بسبب الركلة القوية اكثر من اللازم, عندما ترجع نفس الفرصة لي سأتذكر خطأي واصححه, والمشاعر السيئة عند اخفاقي هي التي تحفزني للتصحيح.
الذكريات التي لا تتصل بالمشاعر تكون منسية بلا شك أو لا تخزن على الإطلاق. كذلك الذكريات التي لا تكون مميزة يهمله الوعي بعد التأكد من مطابقته مع ذكرى أخرى مُسجلة سابقًا في الدماغ, لكم حتى جزء صغير جديد من الحدث قد يخلق ذكرى حديثة فيه. يأتي الملل عندما يُعاد جزء عظيم من يوم الفرد لفترة زمنية طويلة (كأن تُعاد نفس الأفعال والنشاطات والاحداث كل يوم لمدة سنة), وهذا يعني إن الملل لا يأتي عندما يعاد بعض من الأفعال يوميًا (مثل الطهي) طالما هناك أفعال جديدة أخرى في يوم المرء. علميًا, نستطيع تفسير هذه الظاهرة بالقول إن الاشارات التي تأتي من الاحاسيس وتترجم في الدماغ على إنها نفس الذكريات أُعيدت عدة مرات تزعج الوعي وتجبره على أفعالٍ تُغيرُ روتينه. معظم الاعمال الروتينية تمرر للاوعي من أجل أن ينشغل الوعي بتحليل شيء آخر, يبقى السؤال لماذا تزعج تلك الأفعال الوعي ويعطي شعور الملل للفرد.
الأنماط الروتينية مهم للغاية لتقوية الذكريات, فنحنُ نعلم إن التكرار تصقل المعلومات في الذهن لأن الشبكات العصبية التي تنطلق عدة مرات تتثبت ويصعب تفكيكها, بينما الذكريات التي لا تُعاد ينساه الدماغ بسرعة (باستثناء الذكريات المميزة التي تحمل مشاعر قوية). لكن هناك جانب آخر معاكس لهذه الخاصية حيث يفقد الدماغ الذكريات المتشابهة بشدة من بعضها ليجعلها ذكرى واحدة فقط (حين يكون الذاكرتان مختلفتان في قليلًا في التفاصيل ومتشابهتان في الجزء الأكبر من بعضهم). يصعب على الدماغ مثلًا تمييز الفقمة من اسد البحر (اثنانهما يشبهان البعض في الشكل) وبالتالي يفقد الذاكرة أحدهما ليتذكر الاخر.
المثير في الأمر اننا نحس بالزمن عبر الذكريات, لولاه لما قدر الوعي وحده على فصل الماضي عن الحاضر. مدة الزمن المار وتسلسل الاحداث واستنتاج الأسباب والمسببات تعتمد بشكل واضح على الذكريات: نحن نستقبل الزمن بكمية المعلومات المتلقاةً من قبل احاسيسنا ومُحللة من قبل وعينا, فإن كانت المعلومات قليلة نشعر بأن الزمن قد مر بسرعة علينا, والعكس الصحيح إن كانت كمية المعلومات كثيرة نشعر بتباطئ الزمن وثقله. قد يظن القارئ بأن هذه المسألة خاطئة لأننا عندما نكون في بيئة لا يحدث فيها الكثير نشعر بالملل وبثقل مرور الزمن, وعندما نكون في بيئة ضجيجة ومليئة بالأحداث المثيرة نشعر بمرور الزمن بسرعة, لكن هذا مجرد وهم, من المستحيل علميًا للدماغ تذكر مدة الزمن المار بمعلومات قليلة جدًا. أما تسلسل الاحداث يحصل بعدة طرق, منها ربط الدماغ تسلسل الاحداث مع كمية المعلومات مثل الإحساس بالزمن, فإن الماضي دائمًا يحمل معلومات أقل من الحاضر وبهذا يمكن للعقل أن يفصل الماضي والحاضر, لكن هذه العملية وطريقة التفكير يحدث فقط عند تذكر ذكريات عميقة وطويلة, على سبيل المثال أعلمُ إن عمري زاد اكثر واكثر لان دماغي قد جمع ذكريات أكثر مقارنة بحجم الذكريات عندما كنت مثلًا في عمر المراهقة. الطريقة الأخرى هي تسجيل ذكريات تعمل كطابع زمني للأحداث غير مهمة بنفسها لكنها إن استحضرت للوعي تعطيه فكرة عن تسلسلها بالنسبة لذكريات أخرى, وهذه الطريقة شائعة جدًا فمثلًا يمكنني أن أعرف إني أكلت الجبن والعسل قبل البيتزا من خلال اعتمادي على اضاءة الشمس (أكلت الجبن والعسل نهارًا والبيتزا ليلًا). وهناك طرق أخرى تستخدمه الدماغ لوضع الذكريات في تسلسلها الصحيح لكن لا يسعني تذكرها.
نأتي إلى الجانب المظلم للذكريات, فهي لا تتشكل بدقة في الدماغ ولعل سبب ذلك يرجع جزء منه إلى الوعي, والجزء الآخر إلى كون جميع الخلايا العصبية يمكن أن تعد فريسة للذكريات (تلتقطها الذكريات وتضمها إلى شبكتها لتستحوذ عليها وعلى وظائفها). عندما يشعر المرءُ بالحزن نتيجة موقف ما, تتسجل جميع الاحاسيس التي حدثت في آن واحد مع مشاعر الحزن – المتعلقة والغير المتعلقة – وترتبط بذكرياتها, إن كان الشخص يشم رائحة الورد ويتذوق الفراولة وينظر إلى بلبل الحساوي بينما يشعر بالحزن, سوف يقوم الوعي بربط كل تلك الاحاسيس مع الحزن, وفي المرة القادمة حينما يشم رائحة الورد أو يتذوق الفراولة يسترجع ذلك الشعور الحزين المتصل به بلا سبب. هذه هي قدرة الذكريات على احتلال الأحاسيس, ولن يتوقف فقط في جزء بسيط من الاحاسيس, بل الأفكار التي تُفكرْ في خضم هذا الشعور والحركات العضلية والتصرفات اللاواعية كلها من المحتمل أن ترتبط مع شعور ما, ولكون التواصل بين الخلايا العصبية تنطلق في الاتجاهين (لا يهم أي الخليتين بدء الاتصال, عندما يتصلان معًا يمكن للإشارة ان تنطلق من الجهتين لإشعال جهة أخرى), يعني إذا تحفزت حركات عضلية أو تصرفات تُحفز معها الشعور الذي كان سببًا في تسجيلهم (بالرغم من عدم علاقة هذه الحركات مع الشعور نفسه). حتى حركة بسيطة مثل المشي يمكن أن يرتبط بشعور ما ويستحضره إلى الوعي, فتراه يمشي سعيدًا فقط لان دماغه سجل حركات رجله السابقة مع مشاعر السعادة. الغرض من ربط الاحاسيس والذكريات وكل ما يدخل من جانب الوعي واللاوعي هو الحرس على إيجاد الأسباب والمسببات أولًا ثم ثانيًا استجماع طابع زمني كما قلنا سابقًا من خلال رصد ذكريات غير ضرورية ثم ثالثًا تسجيل اكبر قدر ممكن من المعلومات معًا التي تحدث في نفس الوقت من أجل رصد الموقف القادم والتنبؤ به عن طريق تفاصيل تافهة. لكن على الأغلب يبدو إن الدماغ خُلق هكذا بلا أي مبررات. بالرغم من كونه عملية معوقة وجانب مظلم للذكريات باستطاعته ربط احداث لا علاقة لهما معًا وتكوين فكرة غير سليمة في عقل الكائن إلا إنه عملية ناجحة نجت ونجى صاحبه بسببها منذ آلاف السنين.
لكن الدماغ لديه سلاح آخر يُمَكنهُ من مواجهة هذه الترابطات العشوائية في الذكريات, لولا هذا السلاح لارتبطت كل الشبكات العصبية مع بعضها البعض ولما قدر الانسان أن يفكر بصورة واضحة ولعل حركة بسيطة منه يحفز الدماغ بأكمله بسبب الترابطات ويعرقل وظيفته ولربما يدخله الى حالة اشبه بالصرع. يعتمد الدماغ على نظام التشويش لسحب بعض الاحاسيس من شبكة الذكريات لكي لا تتعلق بها: تحصل هذه العملية غير مباشرةً وذلك عندما يدخل الحركة العضلية مثلًا إلى أكثر من ذكرى بمشاعر متنوعة وأفكار متضادة, حينها تصبح هذه الحركة العضلية العامل المشترك بين الذكريات فلا تستطيع أيًا من الذكريات تفعيلها, فهي تتجدد دائمًا لكثرة حدوثها بأحداث مختلفة ومواقف حزينة تارة وسعيدة تارة, الأمر الذي يجعل الشبكات تثبط إشارات بعضها, والمثال على تلك الحركة العضلية هي المشي, النشاط الذي يفعله الانسان يوميًا وبأي شعور كان عليه. نظام التشويش هذا ليس مثالي وهو بالدرجة الأساس يتكل على الذكريات وترابطها لكي يُخلصً بعضًا من التصرفات الاجبارية الروتينية من قبضة ذكريات أخرى, هذه التصرفات الاجبارية الروتينية التي نتحدث عنها تتمثل بالكثير من الفعاليات منها المشي ومعاشرة الأشخاص والاكل وزيارة الأماكن عينها والذهاب إلى الفراش عينه وكل شيء يُفعلُ لعدة مرات متكررة. عدم مثالية عملية التشويش تعني إن هناك بعض من الأشخاص لا يأكلون نوع من الطعام لإنه يوقظ فيهم مشاعر سيئة (على رغم من ان ذلك الطعام لا علاقة له بذلك الشعور سوى إنهما حدثا معًا). الشيء الجيد يمكن للقارئ أخذه هو من أجل التخلص من الذكريات السيئة التي تعيق روتينه أو فعل أشياء كان يفرحه سابقًا وبات لا يعجبه بسبب تزامنه مع حدث مؤلم أو محزن هو الاستمرار واجبار نفسه في فعل تلك الأشياء في ظروف مفرحة (أي عكس ما تم الشعور به سابقًا), بذلك يقدر الشخص أن يُخلص نشاط ما يريده أو يحتاجه من ذكريات سيئة التي تستحوذ عليه, الغاية من ذلك طبعًا هو التشويش المتعمد للذكرى بدلًا من التشويش التلقائي.
نحن فعلًا لا نستطيع الاستغناء عن الذكريات لدرجة إننا يمكن أن نقول بثقة إن 98% من مجموع اعداد خلايا العصبية في الدماغ تُسجلُ فيها ذكريات أما الباقي فهي خلايا تنفيذية وخلايا تحليلية وأخرى رابطة بينهم, مبدئيًا يمكنك أن تؤشر إلى أي خلية عصبية وتجعلها تخدم كذاكرة معينة. هناك فرضية تُشير إلى إننا نختلف عن الكثير من الحيوانات بالذاكرة القوية وسعتنا لها وحسب, فالعديد من الحيوانات تستطيع أن تستطيع أن تحل مشاكل تُعيقها وتربط الأسباب بالمسببات وتفكر وتتنبأ بالمستقبل وتخطط له لكن سعة ذاكرتها محدودة مما يعني إن وعيها آني ليس مثل وعينا الذي لديه القدرة على تسجيل الاحداث في الذاكرة ثم إعادة احيائها وتحليلها لاحقًا. من الأمثلة على الحيوانات التي تتنبأ بالمستقبل القريب هي القطة عندما تلعب مع الحية فهي تعلم تمامًا إن الافعى ستمدُ رأسها لتلسعها, لذا هي تنسحب مباشرةً للخلف متنبئة بالحدث سواء باشر الافعى بذلك ام لا. قد يصحح الحيوان خطئه ويتعلم منه لكنه لا يستطيع أن يجاري قدرة الإنسان على فعل ذلك, فهو ببساطة لا يمتلك مقدارًا كافيًا من الخلايا العصبية مما يجعلهُ بطيئًا غير قادر على تكوين لغات معقدة وتخيل سناريوهات مختلفة وتحليل ذكريات بعيدة. الخاصية الأخرى للوعي التي يجب أن نذكرها هي خاصية “ملئ الفراغات” وتعتمد بالكامل على الذكريات وبالتالي تفتقرها الحيوانات مقارنةً بالإنسان: وهي البراعة في اكتشاف ما هو الناقص في السيناريو أو ما الذي يتطلبه الوضع لكي يكتمل أو ما الذي آل إلى هذا الحدث المألوف. على سبيل المثال, أستطيع الاكتشاف إن السيارة تحتاج إلى إطارات للسير والسيارة التي تنقصها ذلك تكون غير مكتملة للسير (من دون الاعتماد على المنطق حتى, فقط بالنظر إلى السيارة أعرف ما الذي ينقصه), أقدر أن أكتشف نقص الكلمات في الجمل, أستطيع أن أعرف إن علامة الاستفهام في 2+؟=4 يجب أن يكون العدد اثنان لأن ذلك ينقص المعادلة لتكتمل, وعند النظر إلى علبة فاصوليا فارغة أعرف مباشرةً إن انسان ما اكلها سابقًا. هذه الخاصية تعتمد بشكل كامل على المقارنة الاحداث بالذكريات وتفاصيلها, فالإنسان يستطيع تذكر التفاصيل بدقة ويكتشف ما الذي ينقص السيناريو الموجود في الواقع لما كان عليه في السابق. بالطبع يقدر الحيوانات أيضًا أن ينظروا إلى وجه حيوان آخر ذات عين واحدة مثلًا والاستنتاج بنقصه للعين ملهمًا بذاكرة إن الأوجه الكاملة تتطلب عينان متناسقتان, لكن قلة الاستيعاب في ذاكرتهم وقلة تسجيل التفاصيل تعني فقدان الكثير من قوة هذه الخاصية التي تتمتع بها الانسان. والجدير بالذكر إن خاصية “ملئ الفراغات” لا تعتمد على المنطق, فبالعودة إلى المثال الأخير هناك عشرات الأسباب لرؤية علبة الفاصوليا فارغة هكذا, المنطق وحده يتيه في تلك الأسباب, لكن الذكريات تعطي الوعي الإجابة مباشرةً دون عناء بمقارنته مع ذكريات متشابهة سابقة واستنتاج ما هو الناقص في تسلسل الاحداث. بدل القول إن كائنات فضائية أتت من السماء لتأكل الفاصوليا وتترك علبها أو حيوان ما فعله, عن طريق الذاكرة نعلم إن الإنسان هو الاحتمال الأكبر (مع العلم إن المسببات الثلاثة جميعها منطقية). هناك أيضًا قدرتنا على تكوين اتصالات عصبية فوق اتصالات شبكات عصبية, فمثلًا نستخرج لغة الرياضيات ونستنتج حكمةً من حدثين أو ثلاثة بتحليلهم والنظر إلى القانون العام الذي يحكمهم, يمكننا كذلك أن نكون واعين من وعينا ومدركين من ادراكنا ونستخرج من المنطقِ منطقًا آخر, ونسأل أسئلةً عن الوجود وعن ذاتنا وعن الحياة ونتفلسف في شتى المجالات, الشيء الذي ينحني الحيوان احترامًا لنا بامتلاكه.
لا يقتصر الأمر على ذاكرتنا فقط, لأن ما وصلنا إليه من العلوم والفنون هو أكبر من ذاكرة فرد واحد بكثير. اللمسة الأخيرة التي فصلنا عن عالم الحيوانات بشكل قاطع هي عندما اكتشفنا كيفية الحفاظ على الذكريات (المعلومات بشكل عام) من أجل نقلها من جيل إلى آخر لكي لا تتكرر نفس الأخطاء التي حصلت للأجيال السابقة وليتعلم الجيل الجديد خبرات تساعد على جعل حياتهم أفضل بكثير من حياة السابقين. الكتابة هي أعظم قفزة في تاريخ البشرية من ناحية حفظ المعلومات وتناقلها بين الأجيال, فبدونه لما قدر حتى أعظم الأدمغة وأشهر العلماء والفلاسفة على إيجاد ما وجدناه من علمٍ وفن, إنه كما قال نيوتن إننا نقف على أكتاف العظماء لنرى أبعد وأبعد مما كنا نراه وحدنا. لن نقدر أن نفهم العالم كما نفهمه الآن من دون معلومات سابقة تجمعت ونُقلت إلينا عبر السنين, ونحنُ بدورنا نقوم بالإضافة الى تلك المعلومات والذكريات ونُحسنهم ثم ننقلها إلى اللاحقون. بدأت باللغة التي من خلالها نقلنا المعلومات وحفظناه في ادمغتنا, بعد اكتشاف الكتابة انفجرت حدود الذاكرة وباتت سعتها واسعة للغاية, مُعبرًا عبر الازمان البعيدة, عابرًا للقارات والمماليك العظيمة, خالدًا للأبد إن تم الحفاظ على المادة المكتوبة عليها. ولكون وعينا مرتبط بالذاكرة, هذا يعني إن وعينا قد توسع معها واستطعنا أن نحلل أكثر وبدقة أفضل وأفكارنا أصبحت متنوعة ومتشعبة, لقد فهمنا بسبب قراءة الكتب البدايات والاهداف والمسارات المتعددة التي اتخذها البشر عبر الازمان والأماكن المختلفة, نحن نعيش حياة أفضل بسبب قراءة هؤلاء العلماء لأفكار السابقين وتحسينها وتطبيقها والاضافة عليها. هنا في عصرنا الحالي, الدماغ الواحد مجرد خلية عصبية واحدة ضمن شبكة عظيمة من الخلايا داخل المجتمع, لقد خرج وعينا خارج جمجمتنا وبدأ بالاتصال مع الآخرين لخلق دماغ مجتمعي ووعي جديد ضخم لأول مرةٍ في تاريخ الكائن البشري. التقطنا عن طريقة الكتابة ذكرياتنا وأفكارنا بنحوٍ غير مباشر, حتى جاء القرن العشرين عندما بدأنا بالتقاط معلومات ضوئية وصوتية مباشرةً ثم الحاسوب والانترنت والتواصل الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين مما أدى إلى قفزة عظيمة في وعي المجتمع وطفرة حسنة لا تصدق في سعة الذاكرة وخزن المعلومات وتحليلها.
مع كل تلك الإيجابيات, يجب أن يكون هناك نوع من السلبية في خزن المعلومات خارج جمجمة الانسان: فهي تسرقنا من الوعي وما خُلق الدماغ لفعله. هواتفنا وحاسبونا تُحلل المعلومات من أجلنا, لا حاجة للتفكير في الرياضيات والاحصاء من الآن, ولا حاجة لخزن الذكريات والمعلومات في ادمغتنا فالكتب والمذكرات تستئصلها منا, ولا حاجة للاتصال بشري وجهًا لوجه فالتواصل الاجتماعي يستغنينا عنه, ويوم بعد يوم قد تتطور تلك الأجهزة لإتخاذ قرارات لنا (فقد تقرر ماذا نأكل, مع من نتزوج, أين نسكن, وأي مرشح سياسي ننتخب), يتبقى فقط لنا المشاعر والاحاسيس بنقائها لنجربها. لا نقدر على إيلام أنفسنا في الاعتماد على تلك الأجهزة أو الإدمان عليها لأنها فعلًا أفضل منا في كل شيء. هل نحن فعلًا أصبحنا أقل وعيًا وفقدنا جزء من ذاتنا بعد اكتشاف كل تلك التقنيات؟ في القرن الذي نعيش فيه, ننجبر على اكتساب العديد من المهارات التي تتطلب وعيًا, تحليلًا, وتركيزًا صارمًا لسنين عدة, نحتاج مثلًا أن نجيد استخدام الأجهزة من الهواتف الى الحواسيب وآلات العمل, ويتوجب علينا أن نتعلم سياقة السيارات ومركبات نقل أخرى لنصل من مكان إلى آخر. نحنُ نرى ونجرب الكثير من الأشياء الجديدة أكثر من أي إنسان مضى, لدينا تنوع في الطعام والمشروبات, وخيارات عدة في اختيار مختلف شركاء الحياة لقضاء حياة معهم, ثم أماكن جديدة لزيارتها. كل هذه تحتاج إلى تحليلات وعمليات عدة من الوعي لترسيخها في الدماغ, مما يعني إننا واعين أكثر من أي إنسان سابق, هذا بسبب إننا جمعنا معلومات هائلة لتحليلها في زمن الراهن.
هذه الازدواجية في النظر إلى الوعي في وقتنا الحالي تحتاج إلى تفسير منطقي. طبيعة الإنسان يستنفر من التحليل ويخاف من التجارب الجديدة ويقاوم التغيير, نشعر بالانزعاج عندما نخرج من بيئتنا المألوفة. على عكس الماضي الحنين الذي تعودنا عليه والمعلومات الذي حفظناه والاحاسيس الذي حللناهُ سابقًا, نحنُ لا نرى مشكلة في العودة إلى بيئة طفولتنا والرجوع إلى الماضي ونهابُ من التقدم نحو المستقبل وتجربة حياة أخرى وتحليل معلومات مجهولة. المقصد من هذا هو إن المولود في هذا الزمن يكون واعيًا جدًا في البداية – لربما لغاية الثلاثينات من عمره – حتى يتعلم إدارة المكائن والأجهزة الذكية ثم يهبط الوعي بشكل حاد ويقع في شباك الذكاء الاصطناعي ليقوم هذه التقنيات بحفظ الذكريات بدل دماغه والتحليل بدل وعيه, فيصبح حاله أسوأ من الإنسان المولود في قرن التاسع عشر (الذي كان وعيه في مستوى معتدل طوال يوميه وسنينه وحياته).
نستنتج كذلك إن القرويين هم أقل وعيًا من أهل المدينة لأنهم يعيشون حياة روتينية بسيطة ونادرًا ما يمرون بتجارب مثيرة وحديثة. لكن هل نستطيع فعلًا أن نجزم إن الوعي لا يفعل شيئًا بعد أن يشرف اللاوعي بروتين الإنسان؟ ألا يوجد معلومة ما يحللها الوعي في الدماغ أو ذكرى قديمة تأتي لتُحيي شعور معين له؟ على ما يبدو إن الوعي هكذا لا يستريح, دائمًا يركز على معلومة ما لتحليله وحتى الأشياء الروتينية التي يسيطر عليها اللاوعي يجب على الأقل نصف من معلوماتها ان تمر خلال الوعي من أجل تكوين ذكريات عنها. ونستنبط أيضًا من هذه القاعدة إذا قاوم الإنسان روتينه وأفكاره وأفعاله – سواءً الغريزية مثل التغذي والجنس أو المنطقية مثل لبس الملابس – يصير أكثرُ وعيًا وأثبتُ وجودًا. وخاصةً الأفعال المرتبطة بالمشاعر كالغضب والكآبة والخوف والقلق, فعل عكس ما يتوقعه المشاعر هو وعيٌ ووجود لا مثيل له, أي بدل التعبير عن الغضب بفعل العنف, إذا قام الشخص التكلم بهدوء وحل المشكلة على عكس ما كان يفعله في السابق, سيكون أكثر وعيًا من ذاته من قبل. وهذا شرط أن يكون الشخص عنيفًا عند حالة الغضب, فإذا كان هادئًا سيحتاج أن يكون عنيفًا لغرض اكتساب الوعي. ولعل هذه القدرة على تغيير الروتين والاستحواذ على اللاوعي وفعل عكس ما تم برمجته في الاعصاب يمكن أن يصبح مقياسًا لدرجة وعي الفرد وذكاءه, وسرعته على ذلك يحدد قابليته للتأقلم مع بيئات وظروف مختلفة. كما قلنا سابقًا إن الوعي يقل مع الزمن ليتحول إلى اللاوعي وهذه القدرة تقل معها عند كبار السن, الذي يكون دماغهم مبرمج بشكل شبه كامل للتصرف بأوتوماتيكية لاواعية, أي مقاومة للبرمجة في هذا العمر الصعب يُعدُ صاحبه واعيًا بامتياز. ينطبق الأمر نفسه على مجتمع الفرد: عندما يكون الفرد في مجتمع مألوف (مألوف بالقومية, باللغة, بالشكل) فوعيه يصبح أقل ويحركه اللاوعي في التعامل مع الناس ومن ضمن ذاك المجتمع هو الأصدقاء والعائلة. أما حين يتفاعل مع مجتمع غريب مغاير لما تعود عليه, عنده يعمل وعيه وتركيزه أكثر لفهم عادة المجتمع وتقليده, كذلك الحال للمكان المألوف والغريب.
نحنُ بطبيعتنا لا نحب الشعور بالوعي طوال الوقت, لأنها مكلفة للدماغ بالطاقة والذاكرة كثرة التركيز والتحليل, وما بين الشعور بالملل والشعور بكثرة استخدام الوعي يرقص الدماغ من أجل إيجاد توازن مناسب. السفر لزيارة مكان جميل في اليابان أمر رائع بالنسبة للأمريكان, لكن أن تعيش فيها هو شيء آخر ومجتمع مغاير يجعل الفرد مغتربًا عن ذاته ويرتفع مستوى عمل الوعي وتركيزه طوال الوقت فوق تحمله (قليل من الأشخاص يمكنهم فعل ذلك). نكرهُ الخروج من فقاعتنا, لكننا في الوقت نفسه نشعر بأننا ندور في حلقات لا منتهية من الروتين.
دعنا نعترف إن معظم الأشخاص يفضلون الدوران في حلقات الملل اللامنتهية على الكون واعيًا ولو لفترة قصيرة, ليست معلومة جديدة القول بأن معظم البشر ليسوا اينشتاين ولا دافنشي, بل هم غير واعيين أساسًا معظم ايامهم وسنينهم. بهذا – حاشا القارئ – يكونون مثل الحيوانات همهم الوحيد هو استقبال الملذات, بل يفشل الاخرون في السعي ورائها أيضًا. لعل هذه الملاحظة دفع القدماء الى استعباد هؤلاء الغير الواعيين ومنعهم من معظم حقوق الانسان. من المذهل كيف إننا لا نشعر بأي شيء اتجاه اشخاص نظنهم غير واعيين او اقل وعيًا منا: نعاملهم كمعاملة الحيوان ونسيء اليهم ولعل بعضنا يسرق منهم دون ضمير ويقتلهم دون رحمة (حالهم حال الغزلان الذي نصطاده والمواعز الذي نضحي بهم). قد يقتل المرء حتى عائلته بدم بارد إن ظنَ وعيهم قد تغير (كمرض الزهايمر مثلاً).
الوعي مرتبط بشدة بالذكاء: الأشخاص أكثر ذكاءاً هم واعين جدًا ولديهم القدرة على تحليل كميات كبيرة من المعلومات بنوعية عالية وبسرعة فائقة, بالإضافة الى سرعتهم في استعادة المعلومات والذكريات, والعكس الصحيح بالنسبة لأشخاص قليلي الوعي الذين يكونون أقل كفاءة من أقرانهم وفي الغالب متخلفين. مهارة التحليل وسرعة الوعي وقدرة الاستعادة في الدماغ هو وراثي أكثر مما هو بيئي. وتأثيره واضح على التعليم, حيث الفرد قليل الوعي يكون أقل استيعابًا للمعلومات من الشخص السليم الأكثر وعيًا, لكن بعموم, تأثيره هو على سرعة التعلم أكثر من أي قدرات أخرى. وعندما نتعلم شيئًا بشكل فعال, وعينا لن يكون ذات الأهمية بعده, لأن الفعالية يتحول للاوعي. هذا يعني إن المرء في ذروة الوعي عندما يتعلم شيئًا جديدًا, وفورما يصقله ويتعود على تلك المهارة يقل وعيهُ ويصبح غير واعي عندما يفعل ذلك الشيء, حتى يبدأ في تعلم شيء جديد ليصبح واعيًا من جديد. كلما فعلتَ شيئًا مرارًا وتكرارًا, كلما أصبحت غير واعيًا عنه, وتزداد سرعة يدك وتفكيرك وقدرتك على الأداء بالمهمة بدرجة عالية كلما كررتها, حتى يكون المهارة أوتوماتيكاً لا يحتاج إلى تدخل الوعي لتحليلها. وهذا خبر جيد بالنسبة لهؤلاء الذين يكون وعيهم ليس بمستوى مناسب, يستطيعون أن يكونوا أقل خطًأ وأكثر فعاليةً ويجاروا في مهارتهم الماهرين إذا كرروا الفعل أكثر عددًا من أشخاص ذات وعي عالي (ليكونوا بمستواهم). هناك نوعين من المعلومات تدخل للدماغ: معلومات أغلبها جديدة للوعي لم يتطرق إليه لتحليله كل اجزائها فلذلك لا يمكنه أن توصل تلك المعلومات إلى أي شبكات عصبية مألوفة ومسجلة مسبقًا. فيواجه الوعي صعوبة في فهم هذه المعلومات في البداية, وقد يضعها في الذكريات كأفكار لتحليلها لاحقًا. هذه النوع من المعلومات تتطلب طاقةً وتركيزًا عظيمًا تتناسب طرديًا مع كمية المعلومات النبيلة على عكس المعلومات الشبه المألوفة التي لديها اتصالات مع ذكريات مسجلة وهي بسيطة الفهم ويقدر الوعي أن يحلله بسهولة, مما يشير إلى إن المهارات التي تعلمها الفرد سابقًا ومهارة التي يريد أن يتعلمها إن كانت قريبة من تلك المهارات فسوف لن يواجه مشكلة في فهمها واكتسابها بسرعة أما إذا كانت جديدة بشكل مطلق عن باقي مهاراته فإنه سيعاني إلى أن يتعلمه. مثلًا, الشخص الماهر في استخدام عضلات رجله في الجري لن يقدر على تعلم مهارات الحاسوب ببساطة ولكنه يستطيع فهم واكتساب مهارته في كرة القدم بسهولة.
السؤال المحير هو أين يقبع الوعي في الدماغ؟ أين هو محله ماديًا؟ من المحال أن يكون كل خلية هي واعية من ذاتها, حتى من المستحيل لشبكة من الخلايا أن تُشكل وعيًا, وذلك ببساطة نعلم منطقيًا وعلميًا نحن لسنا واعين من جميع أجزاء الدماغ, يجب أن يكون هناك مركزًا لاستقبال وتحليل المعلومات ونظامًا للإدراك من جميع أنواع الأحاسيس. والمعايير التي يجب أن نضعها لإيجاد ذلك المكان هي كالآتي:
الوعي ليس الذاكرة, أي قطعة من الدماغ مسؤولة عن حفظ الذكريات تستبعد أن تكون حاملة الوعي.
الوعي ليس النشاطات اللإرادية, أي منطقة في الدماغ يحكمها اللاوعي من البديهي أن لا يتواجد الوعي فيها.
هناك علاقة عكسية بين الإدراك والنوم, كلما زاد عمق النوم قل الادراك بالحواس. لكن العلاقة ليست معلومة بين الوعي والنوم, حيث يبقى الوعي جزء منه متيقظًا, ولهذا السبب نستطيع أن نتذكر بعض الأحلام وتواجدنا فيه ونختار ونتحكم بجسدنا عندما نكون في حالة الحلم, لولا الوعي لما قدرنا على ذلك. المناطق التي تتثبط بالكامل في الدماغ اثناء النوم لن يكون مشاركًا في الوعي ولا هو كذلك. إلا إن الحرمان من النوم تؤثر بشكل واضح على الوعي, بما في ذلك قدرة على تكوين الذكريات من خلال الوعي, على عكس الإدراك الذي نفتقده بشدة في النوم عندما نفقد احاسيسنا بالطعم واللمس والرؤية والشم. كذلك ينطبق الأمر نفسه حينما نكون في الغيبوبة حيث بالرغم من استقبال الاحاسيس للمعلومات من البيئة المحيطة لكننا لن نكون قادرين على تذكر أي شيء دون وصول المعلومات الى الوعي لتحليلها.
يجب أن يكون مكان المختار للوعي مُتمركزًا في الدماغ ومتصلًا مع جميع أجزاءه ويستقبل الإشارات الحسية والمعلومات الفكرية لتحليلها. (كما قلنا إننا نحن فقط محطات لخلايانا العصبية, نوصل فقط الإشارات من مكان الى مكان انسب في الدماغ). الاتصالات يجب أن تكون للطرفين (ذاهبة وقادمة) والوعي بطبيعته معقد جدًا ويستقبل إشارات تقييمية لجميع الاتصالات التي يبعثها تقريبًا: مثلًا, معلومات الحسية التي تصله تكون خامة عادةً لكنه سرعان ما يجد شبكة عصبية مناسبة لها ثم يستقبل إشارة من هذه الشبكة لتكوين معنى من تلك الاحاسيس (لا يستطيع الوعي تكوين معنى من مجموعة من موجات صوتية بشرية إلا أن يبعث الرسالة إلى منطقة فيرنيك لفك شيفرتها ثم يعود لاستقبال المعلومات التقييمية منها). ما يسمى في الفلسفة وفي علم الاعصاب بمشكلة الربط: وتنص على إنه من غير معلوم كيف إن الدماغ يستقبل يجمع ويكون معنى من تلك الإشارات العصبية التي يستقبلها.
أن يكون قادرًا على توجيه الإشارات العصبية والتحكم في مسارها وتثبيط الأخرى, وهذا يعني القدرة على توجيه الانتباه للإحساس للإشارة العصبية المطلوبة أو للفكرة المنشودة.
يجب أن تكون المنطقة مشاركة في خلق الذكريات.
يجب أن تكون متأثرًا بأمراض التي تصيب الوعي كانفصام الشخصية واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط.
الوعي لا يمتلك الرغبة مما يعني إنه يجب أن يكون متصلًا مع الدماغ الأدنى من الجهاز النطاقي لاستقبال الأوامر منهم.
الوعي بنفسه لا يحتاج إلى شبكات عصبية حركية, فليس من وظيفته التحكم مباشرةً بالحركات. ولعله يبدو إدعاءًا كبيرًا القول بأننا لا نتحكم بتصرفاتنا وتحركاتنا بل مسجونين ومحدودين فقط بتحليل المعلومات الحسية (من الذوق والشم واللمس وغيرهم), بالإضافة الى معلومات حاجاتية ورغباتية القادمة من الدماغ البدائي كالشعور بالجوع التي تتحكم بتحليلات الوعي. الوعي يحلل فقط المعلومات القادمة ولا يسيطر على المعلومات الصادرة إلى خارج الدماغ, وهذا يساند مسألتي لاحقًا في كوننا مسيرين غير مخيرين. عندما يتحلل المعلومات الحسية في الوعي تنتقل العملية الى الدماغ العالي لإيجاد تحرك مناسب للمعلومة ثم بعدها تصدر الشبكات العصبية المسؤولة عن تلك الحركة الإشارة الى العضلات المعينة, ثم ترجع إشارة أخرى حسية نتيجة الحركة إلى الوعي لتقييم التصرف ما إذا كان مناسبًا أم لا.
لدينا ما يكفي من الأدلة في وقتنا المعاصر لترشيح أكثر من منطقة للوعي, نستنتجه من خلال دراسة مرضى المصابين في تلك المناطق ورؤية انعدام الوعي منهم. أول منطقة اُعتقد وجود الوعي فيها هي القشرة الجبهية لأنها مسؤولة عن الأفكار والافعال الارادية لكن تبين إن المصابين في هذه المنطقة يفقدون جزء من ذاكرتهم ويتغير شخصيتهم ويتضاءل أفكارهم العميقة مما يوحي إن القشرة الجبهية هي مكان لحفظ ذكريات ذات مستوً عالي عن النفس وعن الأفكار بالإضافة الى حفظ تفعيل أي من الشبكات العصبية الحركية المتلائمة مع الفكرة والسلسة مع الشخصية, ولعله مسؤول عن خلق معنى من الإشارات العصبية المختلفة. مثلًا, عندما استقبل إشارة ضوئية قادمة من اذن شخص ما الى عيني, علي أن استعين بذاكرة بدائية لفهم أنه أذن, وعندما استقبل إشارات ضوئية أخرى من اذن وانف وخدود وعينا شخص آخر, أستعين بمجموعة من الذكريات معًا لتمييز وجه انسان, وبالاستعانة بالاسم والشخصية والتفاعلات والذكريات التي خذتهُ معه سوف استطيع ان احدد الفرد بالضبط وقيمته بالنسبة لي (كل هذا يفعله الذكريات العليا المتواجدة في الدماغ العالي). نعلم أيضًا إن إعادة توجيه الانتباه لا يمكن في مستوى قشري (لأن بذلك قد وصل الإشارة العصبية الى منتهاهُ والى مكانه المنشود). المرشح الآخر والذي كان أكثر ترجيحًا هو المهاد: مكانه يعطيه نقاط أكثر للترشيح, فإنه يقع في منتصف الدماغ يستقبل جميع الإشارات الحسية (ما عدا الشمية) والحركية ويتصل بشكل عام مع جميع أجزاء المهمة في الدماغ. يحمل المهاد القدرة على إعادة توجيه الانتباه نظريًا, لسيطرته على الإشارات الحسية وقدرته على ترشيدهم, لكن عمليًا نحتاج إلى تجربة هذا الادعاء لنرى كيف يتحول نشاطات الدماغ من منطقة الى منطقة أخرى عندما يقوم المجرب عليه تحويل الانتباه من شيء لآخر. لكن المهاد يمتلك نوى حركية كجزء منه, والذي يستقبل ويرسل معلومات حركية إلى القشرة العالية (التي تتصدر منها الحركات عبر السبيل القشري النخاعي), وهو أمر غريب قليلًا كون الوعي لا يمتلك قدرات حركية وصلاحيات اصدار مثل هكذا إشارات, إلا إذا كانت تلك النوى الحركية في المهاد عبارة عن معلومات حاجاتية ورغباتية يفرض قانونا على تحليلات الوعي ويرشد مساره.
الشيء المهم في المهاد هو ارتباطه مع مناطق مهمة جدًا كالتحت المهاد المسؤولة عن الجوع والعطش, واللوزة الدماغية المسيطرة على الخوف والغضب, كما قلنا سابقًا إن الوعي لديه قوانين يعمل بها آتية من هذه المناطق من الخوف والجوع والعطش والغضب. اللوزة الدماغية وتحت المهاد متورطان أيضًا في الرغبة الجنسية, مما يعني المزيد من الأدلة حول كون المهاد هو موطن الوعي. بالإضافة إلى كون المهاد مسؤول مهم عن نوم واستيقاظ الفرد, وتكوين الذكريات كونه مرتبط أيضًا بقرن آمون, واتصاله مع القشرة الدماغية الخازنة للذكريات والأفكار والمسؤولة عن الحركات. ويجدر الذكر إن انفصام الشخصية مرتبط مباشرةً باضطرابات في المهاد وهو احد امراض الوعي مما يشير اكثر الى كون المهاد هو حامل الوعي, بالإضافة تورطه بمرض اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط.
الجدال حول المهاد والوعي ما زال قائمًا ولنكن منصفين إن كلا الجهتين محقين: لماذا, على سبيل المثال, لا يمر أعصاب حاسة الشم من المهاد وكيف يؤثر هذا على فوزه كمرشح للوعي؟ إلا إن أعصاب الشمية ترسل المعلومات للوزة الدماغية وهي بدورها متصلة بالمهاد, فحتى لو لم يستلم المهاد حاسة الشم مباشرةً فهو يحلله ويديره كأي حاسة أخرى. وقد يكون المهاد مجرد محطة لتناقل الإشارات العصبية من الجسم إلى قشرة الدماغ, لعله يكون حاملًا للإدراك وليس الوعي, هل إصابة المهاد يضع الفرد في حالة غيبوبة دون فقدان الوعي موحيًا بكونه فقط مسؤول عن الإدراك؟ هذا ليس صحيحًا حيث إن المهاد يحلل تلك المعلومات الحسية التي تنقلها, وترجع إليه ما يسمى بالإشارات العائدة من القشرة الدماغية, فكما قلنا سابقًا, إن الإشارات العصبية تتجه باتجاهين أي يمكن أن تُرسل المعلومات من وإلى الجانبين وبالعكس, وبهذا نضمن إن المعلومات تصل من القشرة الدماغية إلى المهاد لتحليله, مما يعطي الصلاحية للمهاد بتحليل الأفكار والذكريات المتواجدة في القشرة. على الأرجح إن الأفكار هي التي ترسل إشارات إلى الوعي لتحليلها وليس الوعي من يقدر على الوصول إليهم إلا إذا أراد أن يربطهم بشيء أو بشكل غير مباشر عن طريق شبكات عصبية أخرى متصلة بالفكرة. لذا أنا لست مسيطرًا على الأفكار التي تصلني وتجعلني أفكر وأحلل.
هناك منطقتين آخرتين مرشحتين لحمل شرف الوعي, منها منطقة تشكيل الشبكي الموجود في جذع الدماغ ومتجذرة إلى عدة مناطق أخرى, الإصابة الحادة في هذه المنطقة تؤدي مباشرةً إلى الغيبوبة, وهي مثل المهاد تلعب دورًا في النوم ولديه اتصالات مع المخيخ وتحت المهاد والقشرة الدماغية وجزء الكبير منه يقبع في الجهاز النطاقي (مكان الدماغ الأدنى). لكن سرعان ما يتضح أنه لا يستوفي كل الشروط, حيث إن فيه عديد من النشاطات اللاوعية اللاإرادية من التوتر العضلي ورد فعل منعكس اللاإرادي وبنبضات القلب وبتوسعة الاوعية الدموية مما يعني إن الوعي من المرجح ليس هنا وإن حالة الغيبوبة التي تصاب به الانسان عند انجراح هذه المنطقة هي فعلًا فقط اضطرابات في النوم التي تسببها بعدها. المنطقة الأخرى هي غامضة لعدم دراستنا لها بكثافة وهي الكلوستروم التي توصل عدة مناطق من الدماغ الأدنى والمهاد مع القشرة الدماغية, الأبحاث تشير إلى كون الكلوستروم مسؤولة عن تحليل معلومات حسية والمشاعر والانتباه. جميع معايير الوعي يطابق هذه المنطقة ولربما أكثر من المهاد حتى, وهو مرتبط ايضًا بانفصام الشخصية حيث وُجدَ إن نقصان مادة الرمادية في هذه المنطقة تسبب في أوهام وتفسير الواقع بشكل غير منطقي.
وجود هذه المناطق في الحيوانات أيضًا يجعلهم واعين كالبشر تمامًا. يمتلك العديد من الحيوانات والزواحف منطقة المهاد في الدماغ التي تتصف بنفس وظائف واتصالات بتلك الموجودة في الإنسان. باختصار, أي كائن حي إن كان لديه احاسيس ولديه القدرة على الشعور بمشاعر متنوعة (حتى وإن كانت مشاعر بسيطة مثل الألم), هو على الأغلب يمتلك وعيًا يحلل تلك المعلومات الحسية والمشاعرية لترشيد الكائن وتعليمه وتغيير تصرفاته نحو الأفضل من أجل مصلحته. ما دامت غاية الوعي مترصدة في الكائن, هذا على الأرجح يعني إن هناك وعي في داخله. إذا ميزنا دماغ اللاوعي الذي يعمل بنقاء من وحي الجينات الوراثية التي صنعت الشبكات الخلايا العصبية الثابتة الصلبة من الدماغ الواعي الذي يتعلم من تجارب ويستمد دروس من الاحاسيس والمشاعر وتتغير وتتأقلم شبكاته العصبية مع الظروف البيئية التي تتعرض لها الكائن, سيكون لنا مقياس آخر – بالإضافة إلى المشاعر والاحاسيس – لمعرفة الكائن الواعي عن غير الواعي. المقياس الثالث هو مالم نتكلم به عن الوعي كون قدرته على فصل الذكرى إلى قطع صغيرة لتحليلها على حدة واستنتاج قوانين عامة منها: على سبيل المثال, عن طريق ذاكرتي ومعرفتي إنني إذا ضغطت على خرطوم المياه بقوة فالمياه ستتوقف عن الجريان, استطيع أن احللها لهذه الذاكرة وأجردها ثم اعمم بعض القوانين العامة فيها لفعل نفس الحركة والامر لسوائل أخرى في نفس الظروف مثل الدم في الشرايين والاوردة, أو حتى إتيان منها نظريات هيدروليكية ورياضية. هذه الخاصية في استيعاب الحياة عن طريق تحليل الذكريات ومقارنتها مع ذكريات أخرى ومن ثم توقع المستقبل وكيفية التصرف نحوه وتحريك العضلات بشكل مماثل لذكرى سابقة لاقتناع الفرد لتشابه أجزاء من الموقف المحسوس مع قطع ذكرى سابقة بالرغم من إنه لم يكن في هكذا موقف إطلاقًا في السابق هي فاصل آخر بين دماغ الواعي والغير الواعي ويبدو إنها متوفرة أكثر في عقل الانسان مقارنةً بباقي الكائنات. باختصار، هي القدرة على تجزئة الذكرى وتجزئة المواقف ثم مقارنة هذه الأجزاء مع بعض ثم قيام بأفعال مماثلة حسب تشابه بعض أجزاء الذكرى مع بعض أجزاء الموقف, مع العلم إن الكائن لم يمر بهذا الموقف من قبل لكنه تذكر مروره بأجزاء من ذلك الموقف (أي إن هناك اختلاف في الموقف لكن هناك أجزاء متشابهة تدعي الكائن لتصرف لما تصرف به من قبل في أجزاء من ذكرى مشابهة). الوعي بالذات هو موضوع آخر يستحق اكتشافه والتحدث عنه لما يمتاز به البشر أكثر من غيره من الحيوانات (وهو يختلف عن الادراك بالذات وبإحساس بأفكار النفس ومشاعره الداخلية), القدرة على تحليل طريقة تحليل الأفكار من قبل الوعي والانخراط في وظائف الوعي والنظر إليه من بعد آخر هي شيء نادر حتى لكثير من البشر.
ماذا عن آلات؟ هل يمكنها أن تمتلك الوعي؟ والأهم من ذلك هل يمكننا أن نخترع الوعي ونمنحها للآلات مصنوعة من السيليكون والحديد؟ ما وصلنا إليه في وقتنا المعاصر من برمجة الأجهزة بهذا التعقيد هو شيء مذهل حقًا ويعني إنه ليس هناك أي عائق في الكون يمنعنا من الوصول إلى اختراع الوعي وبرمجته إلى عقل الآلة. إن رأينا الدماغ عبارة عن شبكات عصبية مبرمجة جزء منها عن طريق الجينات الأساسية والأخرى عن طريق الذكريات والتجارب والممارسات, فمن المعقول تبديل خلايا العصبية بالترانزستورات والدوائر العصبية بالدوائر الالكترونية لخلق على الأقل شيء مشابه للدماغ وبرمجته لتكوين الوعي بداخله.
يتكون الدماغ نظريًا من وحدتين أساسيتين: وحدة التحليل والمعالجة, ووحدة حفظ الذاكرة, وهو ما يتكون منه أساسًا الحاسوب (المعالج والذاكرة). لذا أغلبية الخلايا العصبية إما تكون تحليلية او حافظة للذكريات, وباقي الخلايا تكون ناقلة ومحركة للعضلات, بالمقارنة مع مكونات الحاسوب التي تكون نفسها من دوائر المعالجة التي تعمل الحسابات ودوائر الناقلة التي تنقل المعلومات ودوائر التي تخزنها والأخرى الهامشة التي تحرك المحركات الأقراص وغير الأجهزة. ندرج هنا الخلايا الحسية (من العين في البشر إلى الماوس والكيبورد في الحاسوب) كوحدات ناقلة للمعلومات, والوحدات المحركة من خلايا العصبية المحركة للعضلات إلى الدوائر الالكترونية المحركة للمحركات والماكنات الاخرة كالهيدروليك, هذه الخلايا والدوائر العصبية قليلة جدًا مقارنة بخلايا التحليلية والحافظة للذكريات. يلهمني هذه الفكرة بالقول إن هناك نوعين من طلبة العلم: طلبة المحافظين للذكريات وطلبة المحللين. طلبة المحافظين للذكريات فقط يحاولون حفظ المعلومات المتواجدة في الكتب وما يقوله لهم استاذهم ويطبعونهُ في ادمغتهم باحترافية ليتحولوا بالأخير الى ما تحول عليه استاذهم ككتاب متحرك, وهم عادةً يكونون من طلبة الأوائل لحفظهم المعلومات بدقة وبتفصيل ممل لكن ليس باستطاعتهم الابداع وتقديم أي شيء جديد, كل ما يمكنهم فعلهُ هو الحفاظ على المعلومات. وعكسهم هم طلبة المحللين الذي يحللون كل المعلومات الواردة إليهم ليصلوا إلى حدود جديدة, وهم لديهم صعوبة في حفظ أشياء وذكريات لا يفهموها بالكامل, وبما أن اغلب الأساتذة كانوا من طلبة المحافظين للذكريات وهم ايضًا يريدون جيل محافظ للذكريات فقط, هذا يعني إن طلبة المحللين لن يتمكنوا من فهم المادة بالكامل ولا يمكنهم جلب درجات عالية كطلبة المحافظين للذكريات. على العموم, إن استطعنا برمجة الحاسوب لشعور معالجهِ (CPU) بشعور سيء عندما يتقطع أحد أسلاكهِ مثلًا, ومن ثم جعل ذكاء الاصطناعي تتخذ تصرفًا معينًا وما بقوته للتخلص من هذا الشعور, بهذا نقول إننا اعطينا وعيًا للحاسوب. مع تقدم التقنيات الالكترونية وتطور علم الاعصاب, لعلنا في المستقبل نستطيع طبع وبرمجة جميع شبكات الخلايا العصبية في دماغنا لنسخها إلى شبكات الكترونية مطابقة في رقيقة الكترونية من أجل خلود الوعي بالرغم من فناء الجسد والدماغ.
السؤال الذي يجلبه الذهن الآن هو ما مدى حرية دماغنا ووعينا نحن؟ هل نحن مسيرين ام مخيرين في ظل هذه المفاهيم؟ بكل تأكيد نحن مسيرين لا شك في ذلك, حتى وعينا يُفرض عليه قوانين بدائية من الدماغ الأدنى لاختيار بالإجبار ما هو ينبع لمصلحة الفرد, كل هذه الاختيارات هي أوهام في الحقيقة لإنها فقط موجودة وتأتي للوعي لكي يتأكد الوعي من إنه يختار أفضل خيار مقارنةً بالخيارات الأخرى منطقيًا: الوعي لا يختار ولا يحكم من ذاته, بل يعتمد على ذكريات وتجارب سابقة ويأخذ بنظر الاعتبار المشاعر والأحاسيس حتى يقدر على اتيان بأحسن قرار ممكن. ليس هناك أي إنسان سليم يخطأ في اختيار خيار ضد مصلحته وضد قوانين الدماغ الأدنى وضد المشاعر وضد المنطق في ظل معلومات متوفرة لوعيه, كما قال شوبنهاور مرة ” الرجل حرٌ أن يفعل ما يرغب به, لكنه ليس حرًا أن يرغب ما يرغب به ” هذه الرغبات والمشاعر تأتي من خارج سيطرتنا وتفرض علينا أن نتبعها كما لو كانت هي رغبتنا من الأول. نحن لسنا أحرار أيضًا في توجيه انتباهنا إلى أشياء أو أفكار معينة دون أخرى (هناك عوامل كثيرة تحدد ذلك مثل المشاعر, والذكريات, والمنطق, والاحاسيس ذات تردد قوي مثل الإضاءة القوية وصوت قوي).
الوعي, كباقي أجزاء الجسم, يصاب بعدة أمراض واضطرابات يقوده بعضها إلى واقع مُحوَر والآخر إلى إعاقة دائمية في الوعي يمنع صاحبه من تكملة يومه بشكل طبيعي. يجب علينا تبيين إننا لا نقصد الوعي بمعناه اليومي مثل ” فقدان الوعي ” ولا نقصد اضطرابات الإدراك التي تأتي من الاحاسيس وأجهزتها مثل وجود خلل في العين يجعل صاحبه يرى العالم مشوشًا. في الحقيقة, هناك كتب عديدة تصنف امراض الجهاز الحسي – فضلاً عن فقدان الوعي – أو امراض الدماغ الأخرى كأمراض الوعي: منه مرض الزهايمر, صحيح إن المرض يؤثر في كافة خلايا الدماغ ويصل في بعض المصابين إلى أعصاب الوعي, لكننا كما قلنا في السابق إن خلايا العصبية في الدماغ أغلبها خلايا حافظة للذكريات ولهذا يتأثر الذاكرة والأفكار والمهارات المتعلمة أكثر بكثير من الوعي عند مرضى الزهايمر, حيث يبقى الوعي يعمل لكن عمله يعتمد بشكل عظيم على الذاكرة مما يعني إن عمل الوعي يتأثر بسبب الذاكرة غير مباشرةً دون تأثيره فعليًا عليه, كذلك الامراض العقلية التي تتسبب اضطرابات في المشاعر يدفع الوعي إلى تصرفات متهورة لكن دون أن تأثر عليه مباشرةً, الأمر نفسه ينطبق على بعض مؤثرات العقلية والمخدرات التي تؤثر على الإدراك دون الوعي. الاضطرابات الحقيقية للوعي هي التي تجعل الانسان يصل لاستنتاجات جامحة غير واقعية من احاسيس بسيطة وسليمة, من هذه الامراض هي الفصام واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة. إذا تجاهلنا اعراض الهلوسة للفصام, يمكننا القول إن الأوهام والأفكار الخاطئة الذي يراود ذهن المريض آتية من مشكلة في وعيه المسؤول عن تحليل الاحاسيس والاتيان بأفكار سليمة مطابقة للواقع ومفيدة. أي مرض يصيب الانتباه يعني أنه أصاب الوعي, وهو ما يفعله اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط الذي يجعل الأطفال (والكبار أيضًا) غير قادرين على التركيز لمهام الذي بيدهم. عدم القدرة على السيطرة على الغريزة في ضل مجتمع قادر على التحكم به (مجتمع متحضر وليس بدائي), عدم القدرة على التعلم من الأخطاء واستنتاج ما هو مفيد وغير مفيد هما ايضًا من الاضطرابات التي تصيب الوعي. هناك بعض الادوية والمخدرات التي تؤثر على الوعي وتدفعه إلى استنتاجات خاطئة تحت تأثيرها وتحليل معلومات حسية طبيعية كأحداث شخصية ومرعبة خيالية. هناك أبحاث تقول بأن انعدام الاحاسيس الرئيسية من اللمس والشم والتذوق والرؤية تؤدي إلى هلوسة وأوهام مؤثرة على الوعي, ولعل ذلك ما يحدث في النوم عندما ينعدم الاحاسيس يبدأ الدماغ بهلوسة الاحلام والكوابيس.
هناك الكثير من الأسئلة حول الوعي ما زلنا لا نفهمها بشكل جيد. مثلًا السير اثناء النوم هو أمر محير لموضوع الوعي, حيث لا نعلم كيف يعمل الدماغ كل تلك الأفعال المعقدة اثناء فقد الفرد لإدراكه وجزء من وعيه, كيف مثلًا يتفادى الشخص الاصطدام بالجدار؟ كيف يحضرون الطعام ويأكلونه اثناء النوم!؟ هذه الأفعال التي تبدو واعية تفسيرها صعب للغاية, والنظرية الأقرب لتفسيرها هي كون هذه الأفعال ممارسة بشدة من قبل النائم حيث أصبحت تلقائية لاواعية مما يعني أنه يمكنه فعله دون اللجوء الى الوعي.
بل تتواجد مجموعة من العلماء والفلاسفة من يظنون إن الوعي هو مجرد وهم, كلمة وضعت من قبل القدماء لعدم إلمامهم بالدماغ, مثلما كلمة الروح وضعت في السابق لعدم إلمامنا بالجسد ووظائف الأعضاء, لا يضيفان أي شيء للمعادلة البشرية باعتقادهم, حيث لا فائدة من وجود الوعي على أي حال: يمكن للحيوانات أن يفعلوا نفس ما نفعله من دون الوعي لكن لحدود ذاكرتهم واصابعهم لم يتمكنوا من بناء الحضارات, يستطيع الحاسوب التحليل وحفظ الذكريات وكذلك اتخاذ قرار مناسب من دون الوعي ومع الزمن قد يجارونا في التفكير والشعور والاخلاقيات, الوعي هو كلمة اخترعناها لفصل انفسنا عن مخلوقات الغابة التي اتينا منها. ” من نحن “, بالتأكيد لسنا اجسادنا ولا وجوهنا الذي قد يتعرف من خلالهما المجتمع علينا, فوجودي لا يعتمد على جسدي ولا على وجهي (أصبح هذا معروفًا في عصرنا العلمي الحديث), هذان مجرد نظامان تمثيليان كما نقوله في الفلسفة وجزءان غير اساسيان يمكن تبديلهما من دون التأثر على وجودنا, بالإضافة إلى ذلك نحن لسنا كل أجزاء دماغنا, العيوب لأجزاء من الدماغ التي يولد بعضنا بها أو الجروح التي نصاب بها في أجزاء من الدماغ كذلك لا تؤثر على وجودنا, نحن في الحقيقة قطعة صغيرة جدًا في اجسادنا وادمغتنا بأكمله, لربما فقط دائرة عصبية واحدة هي من نكون من ضمن ملايين من خلايا الجسد. نحن وحيواتنا مجرد أوهام ليس إلا, لا المشاعر التي نشعرها فيها معنى بذاتها, ولا رؤيتنا للأشياء ولا لمسنا لها ولا تذوقنا للطعام, كل هذه تأتينا من خلايا عصبية أخرى, ذكرياتنا وشخصيتنا جميعها مخزونة في خلايا أخرى وليست فينا بل يمكن تبديلها أيضًا دون التأثر على وجودنا. إن كان هذا صحيحًا, لماذا نملك الوعي إذًا؟ ما الغاية من وجودنا إن كان كل شيء يمكن أن ينجز بدوننا؟ من ناحية أخرى, لدى الوعي – وبالتالي لدينا – وظيفة أساسية لأدائها من ضمن وظائف الدماغ: مراقبة الاحاسيس والتجارب وربطها مع شبكات خلايا عصبية في الدماغ هو واحد من وظائف الجانبية للوعي, بالإضافة إلى تنظيم وترتيب المعلومات الحسية والمشاعرية والفكرية. غايتنا أيضًا إرضاء المشاعر بشتى طرق الفكرية وحركات مناسبة مستمدًا معلومات من الواقع البيئي لنا, وبهذا يكون رابطًا ما في الذهن بما في الواقع. الوعي هو سكة مشتركة لجميع المعلومات التي تحتاج الى تحليل, من الأفكار الى المشاعر, وبيده الانتباه لأي قطار يريده أن يمر أولًا وبيده أيضًا اتجاه السكة الذي سيتخذه القطار للذهاب إليه, يمكنك القول إننا الأشخاص المسؤولين عن تبديل السكك للقطارات الواصلة إلينا من احاسيس ومشاعر وأفكار, فنوصلها نحن للشبكات العصبية المناسبة لها.
ما فائدة كل هذه الشروحات؟ ماذا استفدنا من تعريف الوعي هكذا في هذا المقال؟ الممتع فيه إن مغامرات الجديدة والتجارب المختلفة تجعلنا واعين مرةً أخرى بعد الهروب من الروتين اللاوعي, وهو شيء جيد لنا, حيث وجودنا يعتمد على وعينا, وتواجدنا أكثر في اللحظة تعتمد على تجربتنا لأشياء جديدة. علمنا من خلال المقال إن الكثير من الحيوانات لديها وعي ويجب أن نعاملها برقة ونعطيها حقوقها التي نعطي بعض منها لأشخاص ليسوا احسن منهم على الاطلاق. ثم هناك فرصة لخلق الوعي داخل رقائق الكترونية تحلل المعلومات من أجلنا بالرغم من وجود سلبياته في انتزاع وجودنا عن طريق تجريد وعينا وتفريغها من التحليلات المعلوماتية. والعديد من الامراض التي تصيب العقل والدماغ لا علاقة لها بالوعي, ولربما يضل المريض واعيًا حتى وإن فقد جميع احاسيسه وحركاته الارادية. بعض الأشخاص يولدون بوعي تحليلي ذكي, أي أذكياء بلغة الشوارع, والبعض الآخر يولدون بقدرات تحليلية أقل, لكن هذا لا يعني إن عليهم الاستسلام من مجاراة هؤلاء الحذقين, بل يمكنهم ذلك عن طريق تكرار المعلومات والتجارب ومن خلال ذلك تصقل المهارات.
كلما تعمقنا أكثر في التفكير حول الوعي, كلما وردت أسئلة أكثر في أذهاننا بشأنه, مثلاً هل وعينا يحلل مستمرًا المعلومات الحسية القادمة إليه؟ هل مشاعرنا دائمًا تحفز وعينا؟ هل يتوقف الوعي أبدًا عن التفكير ويستريح قليلًا؟ ليست هناك إجابات مرضية على تلك الأسئلة. الأمر الغريب هو مهاجمة هذا التعريف للوعي للفنون بأنواعها, حيث يستنبط من خلاله إن الفن مجرد تحفيز للمشاعر بشكل غير طبيعي وغير واقعي (أي في غير محله الطبيعي الذي يحفزه الاحداث والادراك), لهذا لا يوجد للفن قيمة في الطبيعة القاسية وفي أرض الواقع, لإن الفنون تواجدت فقط لإرضاء عقل الكائن وليس تغيير واقعه إلى الأفضل, ولعل ذلك منع الحيوانات من أن يأبهوا للفن ولعل العديد من الحيوانات لم يمتلكوا الراحة والوقت ليطوروا فنونًا خاصة بهم. هل نحن واعين أكثر من الحيوانات فعلًا؟ ما أعنيه هو إننا نعتمد على كتبنا ومعلوماتنا الاجتماعية بشدة لسنين لكي نتعلم اللغة والعادات والمهارات الالكترونية (تعلم استعمال الهاتف والحاسوب) والميكانيكية (تعلم قيادة المركبات وإدارة المكائن) الكافية من أجل عيش حياتنا طبيعيًا في عصرنا هذا, إلا نحن فقط كالحيوانات إذا غادرنا مجتمعنا وعشنا في الغابات لأصبحنا نفسهم بالضبط, من دون اكتشافاتنا السابقة سنضطر إلى اختراع العجلة مثلًا مرارًا وتكرارًا وإلى حين اكتشافه – الذي نادرًا ما سيحدث دون معلومات سابقة – سنبقى نعيش كالحيوانات تمامًا (الأمر نفسه ينطبق على اللغة). التحليل الذي يتطلبه المعلومات المكتشفة كلها في عصرنا هذا من وعي فرد واحد هو هائل جدًا حتى بنسبة لكائن مثل الانسان. إن كنا لا نختلف عن الحيوانات وإن كنا نقدر أخذ طفل الانسان ووضعه في بيئة حيوانية ونرى تحوله إلى حيوان, لماذا إذًا لا نقدر على أخذ حيوان ما وتعليمه لغتنا وفنونا وعلومنا؟
لدى المجتمع تأثير هائل على وعي الفرد وماهيته, لدرجة يمكنه تأقلم مع أي شيء يلقيه عليه مجتمعه, حتى وإن كان بعض الأحيان ضد مصلحته. الوعي بنفسه لديه قوة تثبيطية – عن طريق المنطق – يمكنه غير مباشرةً تجاهل الأوامر القادمة من الدماغ الأدنى (من الجوع والعطش والغضب والخوف). مثلًا عندما نريد أن نضعف ونقلل من وزننا نمتنع عن الأكل مهما كانت الرغبة قوية. مثل الحاسوب تمامًا عندما يرتفع حرارته يتجاوز أوامر الأخرى القادمة اليه من الانسان المتحكم لمصلحة عليا. أي مرشح أن يكون الوعي ماديًا يجب أن يكون قادرًا على تثبيط تلك الإشارات بشكل غير مباشر.

أحدث المقالات